عن البيعة في المغرب … وطقوسها
في المغرب، تعتبر البيعة عقدا دينيا ودنيويا بين الملك والشعب وذلك منذ أزيد من 12 قرن. المغرب الذي يعد من أقدم دول العالم، عرف مند مبايعة المغاربة لمولاي ادريس الأول، تعاقبا للدول وكانت البيعة دائما حاضرة وهي كذلك إلى يومنا هذا وبما أن الملكية في المغرب تعتبر مند 12 قرنا هي الضامنة والمدافعة على وحدة البلاد والعباد ، فهي رمز من رموز الإستمرارية والتجدر في الأصالة والحضارة . وفي عهدنا هذا كما في العهود التي سبقت اتسمت طقوس البيعة بكونها أكبر وأهم حدث تعرفه البلاد كل سنة. فالوفود تأتي من كل أرجاء البلاد لتجديد العقد وللتذكير، وتتقدم أمام جلالة الملك بلباس موحد في حفل وجو مهيب تلتمس رضا ومباركة ملك البلاد وأمير المؤمنين . وقبل نشأة الدولة المغربية عرفت الخلافة في الشرق مبايعة الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم .
إذن البيعة سلوك حضاري تنهجه الأمة الإسلامية لتثبيث الأواصر وتجديد الروابط الدينية والدنيوية مع الإمام أي الملك الذي هو أمير المؤمنين في نفس الوقت. وفي الملكيات الغربية توجد طقوس للبيعة تلتقي في مضمونها مع البيعة في العالم الإسلامي . وحتى الجانب الديني يكون حاضرا بقوة إذ لا يمكن أن نتصور حفل للبيعة بدون حضور رجال الكنيسة .
ففي إسبانيا مثلا مبايعة الملك هي في نفس الوقت مبايعة حامي المسيحية و »حارس » المدينة المقدسة (القدس). في انكلترا طقوس البيعة تتسم بالفخامة والعظمة وتأخذ وقتا طويلا ، و لقد رأى العالم كله مؤخرا الإحتفالات التي أقيمت بمناسبة مرور 60 سنة على اعتلاء الملكة اليزابيث عرش المملكة . لقد كانت احتفالات فخمة بكل المقاييس و صاحبتها تغطية اعلامية كبيرة و عالمية ، أما في التايلاند فالطقوس لا تقل فخامة كما هو الشأن في كمبوديا حيث الممارسات البوذية تكون حاضرة بقوة .
في البلدان الاسكندنافية و في هولندا تعلق المواطنين بل الرعايا كما هو الشأن في بريطانيا حيث يعتبر كل مواطن رعية من رعايا جلالة الملكة بخلاف ما يعتقده البعض إذ لا علاقة بين الوضع الدستوري للملك و الطقوس التي تصاحب المناسبات الملكية ، لأن غياب الملك أو الملكة عن الحياة السياسية لا يبطل تماما العلاقات المتينة جدا بين العرش و الشعب بل يزكي الطقوس و الحفلات التي تخص الأسر الملكية من تولي العرش و زواج و ولادة . علينا إذن كمغاربة أن نفتخر بهذا الموروث الحضاري الذي تمثله البيعة لأنه يدل على أن المغرب بلد متجدر و أصيل و تاريخه يضرب في أعماق الأزمنة. فطقوس البيعة و البيعة في حد ذاتها هي عنوان هذه الأصالة و هذا التجدر في أعماق التاريخ ، و بذلك تعتبر خصوصية من خصوصيات الحضارة و الأمة المغربية .لأن البلدان التي لا جذور لها ، لا حضارة لها .
و هناك حاليا بعض البلدان التي أصبحت عينة في العقود الأخيرة لديها امكانيات مادية لا حصر لها و تعتبر من أحسن بلدان العالم فيما يخص الدخل الفردي السنوي . إلا أن هذه البلدان لا جذور لها و لا خصوصيات و لا حضارة ، و لا يمكن أن تشرى ذلك بالأموال الطائلة التي تتوفر عليها. لكن هناك من ينادي بإلغاء طقوس البيعة في بلدنا لأنها في نظر هؤلاء تحط بكرامة الإنسان ، هؤلاء ينادون بالمبادئ الكونية التي لا معنى لها في عالم متكون من فسيفساء اثنية و دينية و عرقية و لغوية الخ …. و كأنه مساحة خالية من الحدود و الاختلافات الكثيرة و المتنوعة، وهم من ينادي بالإفطار جهرا في رمضان و بالحرية الجنسية و بإلغاء عقوبة الإعدام و بالإعتراف بالشواذ جنسيا إلى غير ذلك من المطالب التي تضعها في إطار المبادئ الكونية
.إلا أن ما لا يدركه هؤلاء هو أن الإنسياق وراء هذه الفكرة يعني تلاشي مقومات المجتمع وانحلال القيم والدوبان في إطار عام لا يعترف لا بحضارة ولا بدين ولا بتقاليد ولا خصوصيات بصفة عامة٠ ولعل هؤلاء لا يدركون بأن من يدافع عن ما يسمى بالمبادئ الكونية كمن يدافع عن العولمة٠ الفرق هو أن العولمة تنحصر مبدئيا في الإقتصاد لكنها رغم ذلك تهاجم بطريقة غير مباشرة أنماط العيش في العالم لتجعلها تذوب وتنصهر في النمط الأمريكي الغربي فيما المبادئ الكونية تتكلف بالباقي من حيث النصوص القانونية لتلتقي، في الأخيرة في بوثقة واحدة تبلع كل من انصهر فيها٠ الحضارة والخصوصيات والثقافة والتقاليد والقيم والدين هي بمثابة طوق النجاة بالنسبة للأمم وللأشخاص لأنها ملاذهم كلما أحسوا بالخطر، يتشبتون بها ويستنيرون بها٠ بينما التنازل عنها يعرض الأمم والأشخاص للضياع ويصبحون كمن لا بوصلة له٠ المفكرون في الغرب بدؤوا ينكبون على هذا الأمر لأن مجتمع الإستهلاك قضى تماما على الجانب الروحي والروحاني وجعل من المواطنين مجرد أدوات لاستهلاك منتوجات الشركات العالمية الكبرى
٠ يجب إذن الإحتياط من الإنزلاق والإنسياق وراء أفكار تجعل من البلد ومن الأمة ومن المواطن مجرد نكرة٠ طقوس البيعة وغيرها من مظاهر العلاقة المتينة بين الملك والشعب جزء لا يتجزء من حضارتنا وثقافتنا وخصوصيتنا، وعوض السعي إلى إلغائها، يجب بالعكس تشجيعها وتقويتها حتى تبقى جدور المغرب دائما متينة وضاربة في أعماق التاريخ
Aucun commentaire