من تداعيات المقاطعة سوء العلاقة بين المسؤولين والمواطنين وفقدان الثقة فيما بينهم
من تداعيات المقاطعة سوء العلاقة بين المسؤولين والمواطنين وفقدان الثقة فيما بينهم
محمد شركي
سال حبر كثير بخصوص موضوع مقاطعة بعض المواد الاستهلاكية بسبب غلائها ، وقد قيل في شأنها الشيء الكثير ، وتحدث فيها من تحدث عن حسن نية أو عن سوء طوية ، وربما أراد البعض ركوب القضية لمغازلة المقاطعين والتودد إليهم لحاجة في نفس يعقوب . ووقع تلاسن بين المقاطعين والمسؤولين ، وشتم وعيّر بعضهم بعضا بعبارات جارحة .
وارتأيت بدوري أن أدلو بدلوي في الموضوع دون مغازلة أو تودد أو انحياز وإن كنت واحدا من المواطنين أشاطرهم همومهم بصدق يفرضه عليّ واجب المواطنة. ودون الخوض في قضية أنواع أو أسعار المواد التي تمت مقاطعتها أو في الأرباح التي يجنيها أصحابها لأن ذلك قد قيل عنه الكثير، أود تناول قضية العلاقة بين المسؤولين والمواطنين التي ساءت بسبب المقاطعة ، والتي ضبطها الإسلام وهو يلزم الطرفين باعتباره الدين الرسمي للدولة كما ينص على ذلك دستور البلاد . وسأنطلق من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عوف بن مالك رضي الله عنه، والذي يقول فيه : ( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليه ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم ، قال : قلنا : يا رسول الله أفلا ننابذهم ؟ فقال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة ). هذا الحديث يوضح المعايير التي تضبط العلاقة بين الرعاة والرعية أو المسؤولين والمواطنين ، وتفرق بين الأخيار والأشرار منهم . وهذه المعايير هي المحبة والدعاء من جهة ،ومن جهة أخرى البغضاء واللعان ، وهي قوام العلاقة بين الطرفين . أما الجالب للمحبة ،فهو مقتضياتها التي تتمثل في الإحسان إلى الرعية أو المواطنين ، والرفق بهم ، والتوسعة عليهم ، وحفظ مصالحهم ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات. ومعلوم أن الرعية مجبولة على حب من يحسن إليها ،ويرعى مصالحها ،ويشفق عليها ،وتتعلق به ، كما أن حبها الراعي أو المسؤول واحترامه يحمله هو الآخر على مبادلتها حبا بحب . وحصول المحبة المتبادلة بين الطرفين تقتضي تبادل الدعاء الصالح بينهما ، والدعاء الصالح بين الناس ملازم للمحبة بينهم لا ينفك عنها بل هو شكل من أشكال التعبير عن تلك المحبة . وأما الجالب للبغضاء، فهو مقتضياتها التي تتمثل في الإساءة إلى الرعية أو المواطنين ، وإعناتهم ،وإرهاقهم ، والتضييق عليهم ، وتضييع مصالحهم ضروريات ،وحاجيات ،وتحسينيات . والرعية مجبولة أيضا على بغض من يسيء إليها ، ولا يرعى مصالحها ، وتنفر منه ،وتدعو عليه أو تلعنه ، كما أن بغضها الراعي أو المسؤول يجعله هو الآخر يبغضها كذلك ، ويدعو عليها أو يلعنها كما جاء في نص الحديث.
وواضح أن الغالب على العلاقة بين المسؤولين والمواطنين عندنا كما كشفت عن ذلك نازلة المقاطعة يغلب عليها التوتر، وعدم التفاهم أو البغضاء والتلاعن ، ذلك أن بعض المسؤولين عابوا على المواطنين تلك المقاطعة التي أضرت بالمصالح الشخصية المادية لبعض هؤلاء وغيرهم ، فانتقل الأمر إلى تراشق النعوت القدحية بين الطرفين من قبيل وصف أحد المسؤولين المواطنين » بالمداويخ « ، والكلمة عامية أصلها فعل داخ في اللسان العربي الفصيح ، ومعناه الإصابة بالدوار يأخذ بالرأس لعلة أو لطول سفر، فيخيل لصاحبه أن المنظورات تدور حوله ، وأن رأسه يدور ، فيسقط أو يغمى عليه . ووصف هذا المسؤول المواطنين حين قاطعوا بعض المواد الاستهلاكية بسبب غلائها بالمصابين بالدوار أو الدوخة تعريض وإزراء بهم ، وكان عليه أن يلزم نفسه بما يفرضه الاحترام حين يخاطب المسؤول المواطنين، وهو في الأصل خديمهم إذا أحسن خدمتهم سادهم فأحبوه ودعوا له بصالح الدعاء . ولو أنه اقتصر على انتقاد مقاطعتهم دون المساس بكرامتهم لما قامت حوله كل تلك الضجة في وسائل التواصل الاجتماعي . وعلى غرار ما صدر عن هذا المسؤول من سوء أدب مع المواطنين ، صدر عن غيره من المسؤولين مثله أو أكثر منه إساءة لا حاجة لذكره احتراما للمواطنين ، الشيء الذي أثار حفيظة هؤلاء، فانهالوا عليهم بأصناف الشتائم والنعوت القدحية، وكالوهم الصاع صاعين كما يقال . فلا المسؤولون ولا المواطنون التزموا ضوابط العلاقة فيما بينهم كما حددها الإسلام ، فسادت البغضاء بينهم، ولعن بعضهم بعضا ،واللوم أولا على البادىء ،لأن الشر بالشر والبادىء أظلم كما يقال ،علما بأن الله عز وجل لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ، ويرغب في العفو .
وكان من المفروض أن ما وقع من تعريض المسؤولين بالمواطنين تكون له مساءلة ، ومتابعة ومحاسبة لدى الدوائر المختصة ، وأن توضع تشريعات تمنع تكرار ذلك في حال وجود فراغ في التشريع . ويتعين أن يكون الشعب أيضا كباقي المقدسات التي تحترم و لا تمس . ومعلوم أن المقاطعة شملت شريحة عريضة من هذا الشعب ، ولها ما يبررها ،وهو غلاء بعض المواد الاستهلاكية الضرورية ، ولا يمكن تخوين الذين قاطعوها أوالتشكيك في قواهم العقلية . وكان من المفروض أن يشرع تشريع لا يسمح للمسؤولين أن يجمعوا بين المسؤولية ومزاولة الأنشطة الاقتصادية صناعية أوتجارية أو زراعة أو غير ذلك ،لأنه لا يستقيم عقلا أو شرعا أن يكون المسؤول خصما وحكما في نفس الوقت . ولا يحسن بمسؤول أن يستغل منصبه، ويسخره لخدمة مصالحه المادية الشخصية ، كما أنه لا يحسن بمسؤول أن يقف في صف زميل له على حساب المواطنين ، ويوظف منصبه لذلك في دولة ترفع شعار دولة الحق والقانون . والسؤال المطروح بخصوص المقاطعة هو : هل يوجد قانون يمنع أو يجرم المقاطعة ؟ فإذا كان لا وجود لمثل هذا القانون، فليس لمسؤول مهما كان حجم مسؤوليته أن يمنعها أو يجرمها حتى يوجد قانون يفرض ذلك.
وأخيرا أقول للمقاطعين إنه لا عيب في مقاطعة تكون لها أسباب وجيهة ، وتكون بعيدة عن تصفية حسابات أوصراعات سياسية أو حزبية ، وهي أمور تفقد المقاطعة مصداقيتها ، ومشروعيتها ، كما أن الشيء الوحيد الذي يبرر المقاطعة هو الغلاء لا غير، الغلاء الذي تعجز دونه القدرة الشرائية لسواد الشعب ، وهو وحده كاف لصرف المواطنين عن السلع الغالية . فكم من مواد في الأسواق يحول دون اقتناء الناس لها غلاؤها، فلا يبالون بوجودها ولا يسألون عنها البتة. وليس حال الناس مع الضروريات كحالهم مع الحاجيات أو التحسينيات ، ذلك أنهم يهتمون ويقلقون إذا مس الغلاء الضروريات ، ولا يبالون بغلاء التحسينيات أو حتى الحاجيات . ومن يشكو غلاء الضروريات يعذر ، ولا عذر لمن يشكو غلاء ما سواها، كما أنه لا يعذر من ينتقد مقاطعة غلاء الضروريات ، ويعذر إذا ما انتقد غلاء ما سواها. ولا يجب أن يكون الانتقاد سبابا أو تعريضا أو تجريحا أو تخوينا حتى لا يكون الرد عليه بالمثل ، فتسوء العلاقات.
Aucun commentaire