موسم الرعب من الشعب
هذه الملايين التي كان يقال عنها غثاء، وكانت صامتة مقهورة تابعة، مَسروقة ومَخونة أحيانا ومَغدورة أخرى، وتسوقها عقول أقل في مستوى وعيها من متوسط المجتمع، وأقل أمانة، وأقل شجاعة، وأقل ثقة، ولكنها تملك المال والسلطة، عهدت لها بذلك سفارة أجنبية، أو عهد لها التاريخ وصروف الزمان، أو ورثت رئيسا أو غيره.
كانت تلك الشعوب متاعا يورث، ولكنها تغيرت اليوم وأصبحت « تريد » ونداؤها « الشعب يريد »، فالشعب يريد الحياة، ويريد المساواة، ويريد الديمقراطية، ويريد الكرامة، ويريد المحاسبة، ويريد الثروة، ويريد العزة، وهكذا تتابع الكلمات التي توحي أن الشعب انتقل إلى « منطقة الفعل » من « منطقة الشيء » الذي يباع ويشترى، ويُسرق ويُسجن ويُخدع ويُخان ويباع في نخاسة سياسية رديئة أو غبية بمقدار رداءة الحاكم وجبنه وضعفه.
خرجت السياسة والشأن العام من كونه عالما من المحرمات إلا للخاصة إلى كونه من « الواجبات العامة »، ومن كون السياسة سحرا يتداوله الكهنة إلى معارف متاحة، فالرجال والنساء متقاربون ويفهمون ويفعلون أسوياء أحرارا.
نعم هناك من لم يزل يملك القرار والمال، ولكن هناك تحول مرعب للمستبد في « الثقافة الجديدة »، فكلما زادت ملكية القرار في اليد زاد خوف من يملك القرار وتعاظم هلعه من الذين تبين أخيرا أنهم بشر أسوياء، بل أذكى وأشرف وأنظف من حكامهم، وهنا وفد الأذكياء من الشعب لساحة التحدي للفساد الذي نخر البلدان، وهدم الأبدان، وأوهى الهمم والعقول.
وللأسف بقي الأغبياء على سنتهم التي خلت في الغابرين، فلم نرهم حقا إلى اليوم بوضوح يسابقون إلى فهم المرحلة، فالذين سيطرت عليهم البلادة في الوعي والشح في المشاركة ماضيا لا يتوقع عاقل أن يتفهموا مستقبلا، ولم نزل بحكم الفطرة والأمل نتمنى أن توجد عقول في منظومات الاستبداد تتبع الأذكياء المخلصين المحتجين في طريق الحق، فالشعوب أرادت، وهي تريد، وسوف تريد، وهي تقول طريق الحق من هنا، والشعب أراد في ذلك البلد، وهو يريد هنا، أو سيريد هنا، ولو تأخر فلأنه يحاول أن يستوعب ويستعد ويصقل إرادته.
فالهلع الذي أصاب الطبقة المستبدة في الحكومات القديمة أصبح هوسا واضحا، ورعبا قاتلا، ويرون كل صيحة عليهم، ولو كانت قصة بعيدة، ولو لم يكونوا مقصودين بها، ولو أراد المصلحون والصادقون أن يصلوا مع السجانين في النظام القديم لحلولٍ تسير بالبلدان إلى طريق الأمان والسلم الأهلي والتدرج الإصلاحي لما ترك هلع الحاكم من الشعب فرصة للتعقّل، فهذا يستورد قتلة بشرط ألا يكونوا مسلمين فيتعاطفون مع الأبرياء، وهذا يصيبه هوس فيفتح السجون للشعب، وآخر يدفع الرشاوى لمن يحّرم شعبه من الحرية والكرامة، وكما كان يقول الأولون: « يحاولون أن يغطّوا عين الشمس بغربال ».
إن الرسالة للنظام القديم لا تغرق في خوفك من الناس واستفزازهم وتحويل البلدان إلى سجون، فتصنع قلقا واضطرابا لا يفيد أحدا، ولا تحاول تعمية الناس عن حقيقة البؤس والوهن السياسي، ولا تعالج خوفك بالمزيد من التخويف، فمن ذاق السجن والإهانة قد يتهاون بالموت.
فالإرهاب يُصنع في سجون المستبدين فقط، لا يوجد في حكومة حرة كريمة عاقلة ذات مروءة أو همة أو عدل وشيمة، فالعدل يقضي على الاحتجاج، والمساواة ترفع من خلق الشعوب، والتمايز الكبير في المال والتأثير يصنع مجتمعا رديء الأخلاق يستوي في رداءته الحاكم والمحكوم، والإرهاب سببه الحكام ونظمهم وتعاملهم، فهو وجه جور الحكومة الحقيقي بلا تزييف، وهو عملة من تعامل بها مع الشعب بادلوه إياها عاجلا أو آجلا، فقد انكسر الخوف من كل حاكم مهما تجبر وتنمر، فمثلا مدينة « حماة » كانت ضحية إرهاب الحكومة وسوف تكون أكرم وأمنع على كل إرهابي.
شعوبنا متطرفة في صبرها على الفاسدين، ومتسامحة غالبا في انتقامها ممن يهينها، ولكن الديكتاتور للأسف يستغل الطيبة والتسامح والمروءة الشعبية ورقي الأخلاق فيهين الكرماء لأنه يملك مالاً وجاسوساً وسجناً وبندقية.
وإذا كان أمكن صرف الغضب بعيدا بالأمس فإن الناس أصبحوا يفهمون أكثر، ويعرفون أكثر، وتحرروا بمقدار غير مسبوق، وتواصلوا وتفاعلوا، وسيكون لهم منارات للحرية لا تُطفأ، مهما دُلق عليها من سوائل خبيثة، فنار العزة شبت، وهمة الأمة قامت، وكل وقود إطفاء يزيدها لهبا، ولن يكفي الرصيد لردم خفوس الفساد، ولا لرشاوى الاستبداد، ولا لتكاليف السجون.
فكل حكومة إنما يهينها ويوهنها عدد مساجينها السياسيين، وتكون راقية حين لا يكون في سجنها سياسي واحد. وتعلو الحكومة بمقدار العدل في شعبها، وأخذه لحقه من مغتصبه، ومحاسبته لكل مفسد ومرتشٍ وخائن مهما تنفذ.
ثم إن المستبدين عندهم عداء فطري للمثقفين؛ بسبب من الحسد الذي يفري قلوبهم، وبسبب الشعور بالنقص تجاههم، فيردون على العلماء والمثقفين بالشراء والاستتباع المهين، فإن أبوا وعزّوا قابلوهم بالسجون وبالتكبر والتجبر والعناد والمناكفة وقطع الأرزاق والطرد من العمل ومراقبة الأنفاس والحرمان من الطمأنينة ومن حرية القول والكتابة والسفر، فيرد المثقفون بالاحتقار، والنقد العلني والخافت، ويصنعون مكرهين ثقافة التمرد.
فيحمل كل للآخر مشاعر عدم الثقة، وتنتقل الأزمة بسبب وجودها بين الحكام من جهة وبين المثقفين والعلماء الصادقين من جهة أخرى إلى الشعب، فلكل أتباعه ومعجبوه، وينقسم المجتمع؛ فالبطون والجاه الملوث مع السلطة، والقلب والعقل مع المثقفين المعارضين ومع العلماء المتنزّهين عن الارتزاق والنفاق.
ذلك مثال تونس، رآه كل مبصر فقد هاجر مثقفو اليسار والعلماء أو انزووا أمثال: « منصف المرزوقي » و »الغنوشي » وأعتقل الإسلاميون أو فروا للخارج، حاملين قضاياهم معهم، وأخذوا معهم العواطف والمواقف، وبقيت أجسام مسحوقة تحلم بتحقيق الحرية حتى حققتها من حيث لم يحتسب موالٍ ولا معارض، ولكن كلا من المثقفين والمشايخ قد غرس غرسه فأثمر في لحظته المناسبة، وما لم يزرع المثقف الصدق فلن يحصد العدل ولا الثقة.
وإذا كان الخوف سجن الروح، فإن المسجون يخاف قبل السجن، ولكن الخوف ينتقل بعد وصول السجين إلى سجانه، فيصبح السجان سجينا، فالسجّان يدخل السجن مع ضحاياه، ويلطخ سمعته بأنه مجرد سجّان عاجز، ولو كان معه حق أو حجة لما كان سلاحه كبت الناس.
فالسجون والغدر والقتل عمل زعماء العصابات ممن توفر لهم مال ومرتزقة، ثم إنه يغشاه الرعب من الانتقام؛ انتقام السجّان أو أهله أو أنصاره عاجلا أو آجلا ممن غدر به وسلب حريته.
فعندما تغلق الزنزانة يفتح باب الأمل للسجين، ويفتح باب البؤس الموعود والكرب للسجان، حتى تتحول أيام السجّان إلى ليل مظلم ويأس وشك وخوف، فيكره الناس ويخاف منهم، ويستولي عليه ظلام الرعب وعدم الثقة، وتتهاوى قدراته العقلية وذاكرته بسبب توتره المستمر، ويضطر في مواجهة النقد والمطالبة أن يكذب حتى لا يقول إلا الكذب، ويصبح الصدق في ثقافته غفلة وفهاهة، وهنا يقتل روحه وأخلاقه.
ثم إن سجن المعارضة السياسية هي مرحلة الفشل لأي حاكم، حين يفقد المشروعية إلا مشروعية القسوة والرشوة، فتكون الثروة والقسوة نفسها الداعية لجلاء المحنة والفساد.
Aucun commentaire