توهج التنسيقيات التعليمية!
اسماعيل الحلوتي
على إثر الاحتقان الذي تشهده الساحة التعليمية منذ بداية شهر أكتوبر 2023، وما ترتب عنه من تصاعد موجة الوقفات والمسيرات الاحتجاجية ومسلسل الإضرابات المحلية والوطنية، التي شلت مدارس التعليم العمومي في كافة جهات المملكة. حيث أن عشرات الآلاف من الأساتذة المنتمين لمختلف الفئات والهيئات التعليمية، يواصلون امتناعهم عن العمل، رافضين النظام الأساسي الخاص بموظفي قطاع التربية الوطنية، المصادق عليه من طرف التحالف الحكومي الثلاثي في 27 شتنبر 2023، ومطالبين بضرورة التعجيل بإلغائه أو تحسين مضامينه، باعتباره نظاما جائرا وإقصائيا وغير عادل، لا يرقى إلى مستوى انتظاراتهم ويهدف إلى ضرب العديد من مكتسباتهم، تقييد حرياتهم والحط من كرامتهم.
يتساءل مواطنون كثر وعدد آخر من المهتمين بالشأن العام في بلادنا، عن السر الكامن خلف تنامي التنسيقيات وخاصة التعليمية وتوهجها في السنوات الأخيرة، ولا سيما في ظل ما تلقاه دعواتها إلى الاحتجاج والإضراب من استجابة واسعة في أوساط المنتمين إليها. أهو الفراغ الذي خلفه تواري المركزيات النقابية الكبرى إلى الوراء، التي كان لها إلى عهد قريب إشعاع كبير والقدرة على الحشد والتأطير سواء في القطاع العام أو الخاص؟ أم ماذا؟ والتنسيقية بشكل عام هي إطار تنسيقي أو تجمع من الموظفين المتضررين المنتمين لفئة معينة، ممن يعانون من هضم لحق ما من حقوقهم ويقتصر دورها فقط على محاولة بلوغ أهدافها عبر برنامج نضالي احتجاجي.
فظهور هذه التنسيقيات في جميع القطاعات وخاصة في قطاع التربية الوطنية، ليس في الواقع عدا إفرازا طبيعيا، لما بات يعرفه المشهد النقابي من انحسار وضبابية وأزمة ذاتية خلال السنوات الأخيرة، ولاسيما بعد الكم الهائل من الصدمات وخيبات الأمل التي ما انفكت تتلقاها باطراد الشغيلة المغربية، جراء برود هذه النقابات تجاه همومها وانشغالاتها، وعدم قدرتها على الترافع الجاد وانتزاع الحقوق المهضومة، وتحقيق المطالب المشروعة للعمال والموظفين على حد سواء، بفعل تصدع وانقسام بعضها. بينما في المقابل تتميز التنسيقيات بالمرونة في احتواء مختلف الفرقاء وتناقضاتهم، التنظيم المحكم وتفهم مستجدات الواقع، فضلا عن خروجها من دائرة الشعارات إلى خلق دينامية جديدة وتحريك الشارع المغربي بقوة، من خلال التعامل الجيد مع الطفرة المعلوماتية وتوظيفها في التعبئة والترويج لملفاتها المطلبية…
ومما زاد في تعميق الهوة بين الشغيلة والنقابات إلى الحد الذي أدى إلى فقدان توهجها والثقة فيها، هو أنها لم تعد قادرة على التصدي للحكومات التي لم تفتأ تجهز على مجموعة من المكتسبات الاجتماعية، وتمرر العديد من القرارات الجائرة ومشاريع القوانين اللاشعبية، ومن بينها ما سمي « إصلاح التقاعد »، حيث نجحت حكومة عبد الإله ابن كيران في تمريره بمجلس المستشارين، رغم أنها لم تكن حينها تتوفر على الأغلبية بداخله، مستغلة في ذلك تواطؤ أحزاب المعارضة والنقابات التي فضل مستشاروها التغيب، حيث تعمد الغياب في جلسة التصويت 53 مستشارا من أصل 120 عضوا العدد الإجمالي لأعضاء مجلس المستشارين، وانسحب 4 أثناء التصويت وامتنع 4 آخرون عن الإدلاء بصوتهم في الوقت الذي صوت لصالح خطة ابن كيران المشؤومة 27 مستشارا واعترض 21 مستشارا.
فتراجع دور النقابات بلغ ذروته خلال العقد الأخير، كما يشهد بذلك عدد من المتتبعين للشأن العام ببلادنا، إذ أنه وفي ظل انحسار فاعليتها وما صارت عليه من فرقة وتشرذم، إضافة إلى تشبث قياداتها التقليدية بمواقعها، وما لارتباطها كذلك بالأحزاب السياسية من تأثير سلبي، بسبب ارتهانها لحسابات هذه الأحزاب التي تتغير من ظرفية لأخرى حسب الاستحقاقات الانتخابية. وأمام ما بدأت تتعرض له المكتسبات الاجتماعية التي حصلت عليها الطبقة الوسطى من إجهاز في واضحة النهار، ظهر في الساحة فاعلون جدد ومن أبرزهم التنسيقيات الوطنية، التي تحولت في وقت وجيز إلى رقم صعب في معادلة الحركات الاحتجاجية، وخاصة عندما فشلت معظم النقابات في تجديد آليات اشتغالها وإرساء الديمقراطية الداخلية، التفاعل الإيجابي مع المستجدات والمتغيرات الحاصلة، والحيلولة دون استمرار الهجوم على القدرة الشرائية للشغيلة، حتى أضحت رؤيتها للمسألة الاجتماعية تتقاطع مع ما تتبناه الحكومات المتعاقبة وأرباب العمل…
إن التنسيقيات التعليمية خلافا للنقابات التي أصبحت معزولة عن قواعدها وتراجع دورها في التأطير، تستمد قوتها من عدم خضوعها لأي تنظيم سياسي بعينه، وتكتسب مشروعيتها من تلك الأعداد الهائلة من موظفي القطاع الملتحقين بها، حتى أن التنسيقيات لمختلف الفئات والهيئات توحدت في تنسيق واحد، التنسيق الوطني لقطاع التعليم الذي يضم اليوم حوالي 23 تنسيقية، ولا أدل على زخمه الكبير أكثر من المسيرة الضخمة ليوم الثلاثاء 7 نونبر 2023 التي لم تشهد الرباط مسيرة مثلها على مدى عقد من الزمن، حيث حج إليها عشرات آلاف الأساتذة من سائر جهات المملكة، للتعبير عن رفضهم القاطع للنظام الأساسي الجديد أو ما بات يعرف ب »نظام المآسي »، والمطالبة بإصلاحات جذرية في اتجاه النهوض بقطاع التربية والتكوين وتعزيز وضعهم المادي والاجتماعي.
Aucun commentaire