مراكز المساعدة الاجتماعية بين القول بالإعاقة والقول بالحاجة الخاصة
أحمد الجبلي
لازلت أذكر عندما تم بناء مقر رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة ببركان، فأرادت الجمعية المشرفة على المشروع أن تكتب لافتة كبيرة تشير فيها إلى أن هذه البناية عبارة عم مقر خاص برعاية المعاق، فتدخل العديد من الفاعلين بنصائح مطالبين الجمعية الوصية بتفادي الإشارة إلى الإعاقة واستبدالها بذوي الاحتياجات الخاصة، لكونه، في رأيهم، مصطلح ألطف ولا يسيء إلى هذه الفئة المعنية التي من أجلها بني هذا المركز من طرف المحسنين، وبعد جدل طويل وأخذ ورد قرر أعضاء مكتب الجمعية وضع لافتة قد كتبوا عليها: (مركز رعاية المعاق) وهي لحد كتابة هذه السطور لاتزال معلقة في واجهة البناية مؤكدة على أن الأمر يتعلق بالإعاقة وليس بالاحتياجات الخاصة.
إذن، انطلاقا من هذا التجاذب حول الاسم، وانطلاقا من هذا الاختلاف الحاصل بين القول بالإعاقة والقول بذوي الاحتياجات الخاصة، هل يمكن قبول الأمر، أي القول بالمصطلحين معا بناء على قاعدة ( لا مشاحة في المصطلح) فيذوب الخلاف لأن القائل بالإعاقة كالقائل بذوي الحاجات الخاصة. أم أن تمة اختلافات جوهرية تحددها الغايات والمرامي التي سعى إلى تحقيقها أصحاب القول بالاسم الجديد أي « ذوي الاحتياجات الخاصة »؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نتحدث ابتداء عما هو جوهري في المسألة ويتجاوز المصطلح، وهو كيفية التعامل مع هذه الفئة من أبناء المجتمع، وكيف تم التعامل معها منذ وجودها على البسيطة. حتى نعرف أن منطق التعامل مع هذه الفئة ظل يتغير منذ القدم وقد كان في تطور مستمر إلى أن وصل إلى ما وصل إليه في عصرنا.
ففي الحضارة الفرعونية، مثلا، كان القانون يأمر بقتل الذين تنقصهم القدرة على اكتساب العيش أو الدفاع عن النفس ويعتبرون بشكل عام عبئاً ثقيلاً على القبيلة أو الجماعة، وعليه، فقد كانوا يعزلون عن الأسوياء وكان هذا العزل يأخذ أشكالاً مختلفة تراوحت بين القتل والحرمان من الحياة.
وفي المجتمع الإغريقي كان أرسطو أشهر المنظرين في التعامل مع هذه الفئة وأبرز ما ذهب إليه هو عدم تعليم الصم لأن تعليمهم لا يجدي نفعا وهو لا يعدو أن يكون مجرد مضيعة للوقت لعدم قدرتهم على الكلام.
عموما، إن حياة ذوي الاحتياجات الخاصة، قديما، لم تكن كريمة، و أن التعامل معهم كان بشعا وهمجيا ولا إنسانيا، إلى درجة أن بعض الحضارات استعملتهم للتسلية من خلال تعريضهم للحيوانات المفترسة في الساحات العامة، وبعض الحضارات فرضت على المعاق قيودا في الحركة والتنقل لتنبيه الناس منهم فغدوا أشبه بالأبقار التي قد وضع في أعناقها أجراس حتى يراها ويسمعها كل من يمر بالقرب منها.
والأغرب في الأمر، أن بعض المؤرخين يرجع سبب تعامل تلك الحضارات القديمة مع المعاقين أو ذوي الاحتياجات الخاصة بكل تلك البشاعة والوحشية إلى الاعتقادات التي كانت سائدة حينها. أي اعتقادهم بأن الشياطين والأرواح الشريرة قد حلت في المعاقين أو ذوي الاحتياجات الخاصة فحولتهم إلى كائنات غريبة تصلح فقط للقتل والافتراس وفي أحس الحالات تصلح للعب والتسلية.
بالنظر إلى هذا البعد التاريخي في التعاطي مع ذوي الاحتياجات الخاصة، يغدو مصطلح « معوق » في واقعنا وعصرنا هذا، مصطلحا رقيقا وجميلا، ما دام التعامل مع هذه الفئة أصبح راقيا وحضاريا، وقد تأسست لحمايتهم هيئات دولية، وسنت في شأنهم قوانين، وأبرمت اتفاقيات كاتفاقية حقوق المعاقين الذي صادقت عليها هيئة الأمم المتحدة في 13 دسمبر 2006 بهدف تحقيق الإدماج الكلي في المجتمع، وتحمل نفس المسؤولية التي يتحملها الآخرون، فقط مع مراعاة خصوصياتهم وظروفهم والصبر عليهم نظرا لهذه الخصوصيات.
ولكن، سنكون ظالمين لهذه الفئة إذا اعتبرنا أن بمجرد أنها لن تعيش في نفس الأجواء والظروف الغابرة، ولن يمارس معها ما مارسته الحضارات االقديمة البائدة، هو امتياز لها، وبالتالي لا يهم نعتها بالإعاقة أو أي اسم آخر. وأنها ستقبله بصدر رحب ما دامت معاملة المجتمع لهم معاملة التسامح والعفو.
إن القوانين الدولية وجميع الشرائع السماوية والأرضية الوضعية تعتبر جميع بني البشر سواسية في الحقوق، خصوصا الحق في الكرامة والحرية والأمن والتعليم والصحة… وعملا بما تدعو إليه هذه القوانين والشرائع تحقق نوع من العدل المرضي لجميع أبناء المجتمع، ولكن تسمية الفئة التي تحتاج إلى خصوصيات معينة ب « معوقين » قد تسببت في أزمات إضافية لهذه الفئة، وكلما سمع إنسان من هذه الفئة أخبارا في الإذاعة أو خطابات وزراء أو مراسيم قانونية تذكره بأنه معاق وأنه مختلف عن الآخرين، إلا وازداد شعورا بالغربة والانطواء والحزن. خصوصا وأن هذه التسمية قبل سنة 1915 كانت ترمز إلى التسول الذي ارتبط ارتباطا وثيقا بدور القمار، فضلا عن هذا فإن المعنى الواضح للإعاقة في جميع قواميس اللغة يخز القلب ويشل العقل ويدمي العين، فنجد جميع القواميس تذهب إلى أن اسم المفعول من عوَّق هو ذو عاهة جسدية أو عقلية، ومعوَّق اسم فاعل من عوّق القانون وهو من يعوّق عملا أو تقدم شيء، وخاصة من يحاول إعتراض إقرار قانون أو إجراء تشريعي باستخدام تقنيات التأخير والتعطيل، أي اللجوء إلى الأساليب التعويقية لتأخير عمل ما.
فإذا كانت هذه هي الدلالات اللغوية في جميع القواميس المعمول بها والتي تعتبر الإعاقة عرقلة في وجه المسار التنموي فكيف سنقنعه بالإندماج في هذا المجتمع الذي يتفنن في التخريجات اللغوية عندما يشرح كلمة معوق التي ترمي إلى أنه إنسان معرقل للتنمية وعطب في محرك الصيرورة الحضارية لهذا المجتمع.
ولعل هذه المعوقات الفكرية والمجتمعية في التسمية، كان لابد لها أن تتحول في اتجاه مقبول إلى حد ما لتزول وتنمحي أي دلالة ترمي إلى الإحباط والاكتئاب، إن لم أقل إلى الشتم والتنابز باللقب (معوق). فمن الابتكارات العصرية في التعاطي والتعامل مع هذه الفئة، و خصوصا فيما يتعلق بالاسم الذي عرف تحولا مهما إذ ذهبت بعض الاتجاهات التربوية إلى تغيير اسم » معوق » بذوي الاحتياجات الخاصة لكون الاسم الأول يعبر عن الوصم والإعاقة وله آثار سلبية على نفسية الفرد. كما حذرت هذه الاتجاهات من المسميات التي يكون لها أثر معوق عند استعمالها وإلصاقها بالأفراد الذين نريد مساعدتهم.
إن الاسم الجديد « ذوي الاحتياجات الخاصة، اسم مقبول إلى حد بعيد، لأنه يدل على أن الأمر يتعلق بحقوق مستحقة بقوة القانون، ولا يتعلق الأمر لا بصدقة ولا بفائض بقي مما زاد عن حاجيات الأسوياء، أو بأي نظرة دونية. وكون التسمية تحمل معنى الاحتياج الخاص فهذا واقع لأنه يحدد طبيعة وخصوصيات البرامج والمهن والأساليب التي تكون ناجعة في دعمهم وتنمية قدراتهم. وهي تسمية تحدد كذلك أن الآخر المختلف هو الآخر له احتياجات خاصة به تتلاءم وخصوصياته. فإذا كانت البرامج التعليمية مثلا في الدراسة العمومية العادية تمتاز بالسرعة وتوحيد الوسائل والطرق مع جميع المتعلمين لأن طبيعتهم تمتاز بالتقارب في المستوى العقلي والاستيعابي. فطبيعة الاحتياجات ستختلف بالنسبة للفئة الأخرى وبالتالي ستختلف كذلك طبيعة الدراسة من حيث الوسائل والطرق وغيرها من أجل تحقيق نفس الأهداف وهي في الأخير إسهام الجميع في التنمية بعد بناء مهاراتهم وتنمية قدراتهم على العطاء والمردودية. وقد وجد أن العديد من الأشخاص الذين ينتمون لفئة ذوي الاحتياجات الخاصة لكونهم تابعوا برامج تتلاءم وطبيعة حاجياتهم صاروا مساهمين في التنمية وتقدم البلاد وازدهارها أفضل بكثير من العديد من الخاملين الذين لهم أجساد قوية ولا يشكون من مرض ولا عاهة ولكن عاهتهم الوحيدة هي تراخيهم وخمولهم وركونهم للدعة والمرح والكسل فصاروا عبئا ثقيلا في المجتمع يعيقون، وأسطر على كلمة يعيقون لأنها مقصودة، يعيقون المسار التنموي لأنهم يستهلكون ولا ينتجون.
وفي عالم الرياضة عندنا أبطال كبار رفعوا راية المغرب خفاقة في العالم، وحققوا إبداعات كثيرة على جميع المستويات. وعلى سبيل المثال لا الحصر، حقق ثلاثة أفراد من عائلة واحدة وهي عائلة (الكرعة) من مدينة الرباط نتائج من مستوى عالمي في ألعاب القوى، وذلك في تخصصات رمي الجلة والكرة الحديدية، حيث سبق لنجاة الكرعة تحطيم الرقم العالمي 3 مرات متوالية في رياضة رمي الكرة الحديدية، أما أختها ليلى فقد حققت سنة 2004 رقما عالميا جديدا في رمي الجلة.
وعلى غرار هؤلاء الإخوة من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين حققوا أرقاما قياسية عالمية في تخصصات رياضية بألعاب القوى، برز آخرون أيضا في رياضات مختلفة من قبيل سعيد المحمودي مثلا وهو بطل في رياضة الكاراتيه، حيث لمع اسمه بقوة في عدة منافسات وطنية ودولية. فهذه مجرد أمثلة نوضح من خلالها أن النتائج ستكون باهرة في الإسهام في التنمية بجميع مستوياتها عندما نحسن فهم خصوصيات واحتياجات هذه الفئة دون أن نشعرها بأنها معوقة وتختلف عنا.
وعودا على بدء، كم أرجو أن تقوم جمعية المواساة والتنمية الاجتماعية ببركان بإزالة اللافتة من مركز رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة وتعوضها بلافتة أبلغ في الدلالة على كرامة وعزة هؤلاء لأنهم لا يختلفون عنا، خصوصا عندما تكون إرادتهم أقوى، وعزمهم أكيد، وحرصهم على الإسهام في تنمية البلاد أشد.
Aucun commentaire