Home»Jeunes talents»المقامات الدفية : الدف التاسع والثلاثون – الرجل الذي التقى بزرقاء اليمامة وسبحت عيناه في الغمامة

المقامات الدفية : الدف التاسع والثلاثون – الرجل الذي التقى بزرقاء اليمامة وسبحت عيناه في الغمامة

0
Shares
PinterestGoogle+

المقامات الدفية : الدف التاسع والثلاثون –الرجل الذي التقى بزرقاء اليمامة وسبحت عيناه في الغمامة

حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من هواة البصبصة، جلس يوما أمام المرآة في حالة ذات مخمصة، فلاحظ بألم وحزن أن عينيه قد اعترتهما منقصة…فقرر أن يمرن عينيه على الجحوظ بكل ما تقتضيه الصرامة، متمنيا أن يصبح في هذا الزمان شبيها بزرقاء اليمامة، ويرى ما تحت الأرض وما يندس وسط الغمامة…غاب عن أهله يتدرب في الخلاء طيلة اليوم، حتى يتمكن عن بعد من رؤية حركات القوم، وعاد في آخر الليل متعبا يرغب في النوم…وحدثَ يوماً أن خرج إلى المدينة ليلتقط بعض المشاهد، فسجل حركات المارة وجلوس رواد المقاهي على المقاعد، وحوادث السير وحركات الحانات وخروج المصلين من المساجد…وبينما هو على تلك الحال مرّت أمامه امرأة بخمار أسود، فتذكر قول الشاعر حول ما فعلته في ناسك متعبد، ثم استقبلها بابتسامة يريد قربها حالا قبل صُبح الغد…حياها وكلَّمَها مبهورا بزرقة عينيها وبكُحْلِها، ولاحظ أن الناس قد تجمعوا وتحلقوا من حولها، فنطقتْ بشعر تُشير فيه إلى أصلها وفصلها:  

عُـرفْتُ أنا  بـزرقاء اليمـامه      أرى ما لا يـراه ذووا القتـامه

سما بصَري  وفي العلْياءِ بانت      نهـايات الإشـارة  والعـلامه

إذا نَظَـرَتْ عيـوني صـدِّقوها      عُيوني لا تـرى غَيْـرَ السَّلامَه

يروي أحد الفضوليين المتخصصين في البصبصة والجحظ، أن صاحبنا أعْجب بما قالته واستمتع بسباكة اللفظ، ففكر في أن يستفيد منها في اكتساب مهارة اللحظ…تودد إليها مُلْتَمِساً منها أن تعلمه مبادئ النظر، وكيف يستطيع تتبع اختلاف حركات وعورات البشر، ثم كان له ما أراد واختفت في لمحة البصر…رمى كرة صغيرة على يمينه وأخرى على يساره، وحاول أن يراهما في نفس اللحظة وهما بجواره، وكان ذلك أول تمرين يفتتح به مشروع مشواره…دامت تمارينه طويلا حتى ضبط العملية بمهارة بارعة، وقد أحس بحَوَل يغشى عينيه بلقطات متراجعة، فاستسهل الأمر وقال مقنعا نفسه: رب ضارة نافعة…اشترى تلفازين يشتغلان بنظام الترميز، لأن التدريب يتطلب مزيدا من التمحيص والتركيز، ولو من باب التقويم والدعم والتقوية والتعزيز…ثبت الأولى يمينا على التقاط قناة الأخبار، والثانية على اليسار لمتابعة أحوال الطقس والأمطار، وجلس في الوسط بينهما بعيدا مسافة من الأمتار… مرن عينيه وأذنيه على التقاط برامج القناتين صورة وقولا، حتى يكتسب مبادئ علوم البصبصة مضمونا وشكلا، وكرر التمرين لمدة أسبوع نهارا وليلا…يروي أحد الفضوليين العارفين برياضة العيون، أن صاحبنا اقتصر على أكل الجزر والقليل من الدهون، ليقوى بصره ويلتقط حركات الناس بالشكل المضمون…وحدث أن خرج إلى المدينة لتعقب ما يحدث في كل ساحة وشارع، واختار لنفسه مقهى تتميز بفضاء رحب واسع، ولا يحول فيها دون ما يريد أن يراه أي مانع…حرك رأسه يمينا ويسارا ليختار وضع المقعد المناسب، فجلس بين بابي المقهى حتى يتحكم في كل الجوانب، ثم شَرَعَ في الاستعداد لممارسة دور المتتبع المراقب… بدأت الصور تتزاحم في شبكية رأسه بحركة متواصلة، حتى تعطل الاستيعاب والترتيب وبدأت جزئيات الصور متداخلة، حاول تشفيرها قدر الاستطاعة ليجعلها منفصلة متقابلة…أُسْنِدَ فيها ما للنساء إلى الرجال وما لهم إلى البهائم، وبدت له السيارات بعضها بالقفاطين وبعضها بالعمائم، والعربات تجرها نساء خلفها قطط نحيفة القوائم…تشكل في رأس صاحبنا عالم غريب بلا بصيرة، فالنساء يَرْكُنَّ على الرصيف ويغمزن بأضواء صغيرة، والسيارات بقوائم حافية تقوم بمغامرات خطيرة…والرجال يغلقون نوافذ جيوبهم تحسبا للعربات الجَوَّالة، والبهائم منهمكة في كتابة رسائل عبر الهواتف النقالة…تساءل صاحبنا عمّا أصاب برنامج التسجيل، ولماذا عجزت محركات البحث عن التحميل، فأدرك أن فيروسا قد يكون وراء هذا التعطيل…أيقن أن عينه اليمنى قد تعرضت لتشويه أو تزوير، منذ أن أعارها لصديق كان مطالبا بكتابة تقرير، وكبت ندمه في جوفه دون أي إعلان أو تشهير…فكر في أن يهيئ رأسه من جديد ويزيد قوة التردد، حتى يستطيع فك الرموز والشفرات والصور ذات التمدد، أشعل سيجارة للتثبيت وليحمي بذلك برامجه من التبدد… وقف النادل أمامه لمعرفة طلبه، فبدا له وكأن عجلتين ركبتا له في كعْبه، والصينية بين يديه كمقود بجنْبِه… عدل قليلا من وضع عينيه وطلب قهوة بالكلمات المتقاطعة، ثم بث شعاع عينيه في اتجاهات الشارع الواسعة، سعيا منه لتدارك ما فاته من اللقطات الضائعة…

تعجب النادل ووقف منتظرا إعادة الطلب من باب التأكيد، دون أن يعلم أن وقوفه هذا قد حرم صاحبنا من التسديد، فطلب منه التنحي وإحضار المطلوب بنوع من التشديد…تدخل فضولي وطلب من النادل الصلاة على الحبيب، وأوضح له أن صاحبنا مسلط على لاعبي المتقاطعات كالرقيب، وهو في الحقيقة كان يريد أن يطلب قهوة بالحليب…لاحظ صاحبنا تدخل الفضولي وعيناه تسبحان في أعماق الشارع الطويل، وأدرك أن في المقهى محترفين في فن الشرح والتأويل، فصمم على تحسين جودة التسجيل والتحميل…أزال الذاكرة التي امتلأت بالصور بسرعة فائقة، وركب أخرى فارغة على شكل عدسة لاصقة، واستمر في التسجيل يتابع كل حركة وكل بارقة…جاءه النادل بكأس شاي ممزوج بزهر الليمون، لكنه رفض وذكره بالطلب حسب تدخل وتصحيح الزبون، فاعتذر النادل وهم بالتغيير تفاديا لكل كلام مسنون…اقترب منه زبون كان يداوم على القراءة والكتابة، واعترف أنه هو من طلب له الشاي بالنيابة، لأنه كان دائما يطلب ذلك بالتكرار والرتابة…أدرك صاحبنا إدراكا تاما أن المقهى مليء بذوي الكشف، فنزع عينيه ووضعهما فوق الطاولة لتريا ما يحدث في الخلف، فلم ير إلا خلقته وقد تشوهت وخلفها عيون مرصوصة الصف…سجلت الطاولة كل كبيرة وصغيرة مما حدث في ذلك المكان، وأدرك الزبناء بنوع من الندم أن كل الطاولات كانت شاهد عيان، وكل الحافلات والعمارات والآلات والبهائم والصم والعميان…فبدأ الجميع ينزع عينيه ويضعها في ما توفر من العلب، باستثناء النادل الذي نزع فقط التي أصيبت بالعطب، لأن هناك زبناء لم يؤدوا بعد ثمن الطلب…ويعلق فضولي محنك أن النادل احتفظ بواحدة مثبتة على صدره، ليوهمهم أنه أصبح لا يبصر تماما مثل غيره، وعينه الخفية تراقب صاحبنا الذي تمسك بصبره…انتشر الخبر في الناس بفضل عيون الرصيف، وجرى خبر نزع العيون بين الناس واخترق سمع الرجل الحصيف، فتقاطر هواة البصبصة على المقهى حتى اختلط العدو بالحليف…سرقوا كل العيون الصالحة للبصبصة وكشف المستور والمدسوس، ودهسوا التي انتهت صلاحيتها خوفا من عدوى الفيروس،  وظلت عينا صاحبنا تسجل ما يحدث رغم بصرها المطموس….أخرج صاحبنا عينين أخريين من جيبه ووضعهما على الطاولة، وتركهما تقومان بإتمام تسجيل وقائع النازلة، ثم حمل هاتفه وقال كلاما مشفرا وصعد إلى الحافلة…بعد أن جمع كل عيونه التي كان قد زرعها في أعمدة النور، وبين أشجار الشارع وفي سراويل المارة وعلامات المرور، وذيول البهائم ورؤوس الحافلات وفي الأغلفة والقشور…غادر الحافلة في اتجاه المستشفى لعلاج حاجبه المعطوب، وهناك فحصته زرقاء اليمامة بالميكروسكوب ، فأكدت له أنه كان يرى الأشياء بالمقلوب…ولما كررت قراءة التقرير لبيان الحق والحصحصة، استيقظ مذعوراً فوجد نفسه أمام المرآة منهمكا في البصبصة، فقأ عينيه ثم مات مُعلنا ندمه بالهمهمة والمصمصة…وفي رواية أخرى أن صاحبنا لما أدرك مرض عينيه، أخبر زوجته بكل ما حصل وأخفى ذلك عن ابنيه ، ثم كسَّر المرآة بكل قواه ومات ثلاثا مطبقا جفنيه….

 

يتبع مع دف آخر .         محمد حامدي

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *