المقامات الدفية : الدف الثالث والعشرون – الرجل الذي انتفخت بطنه وغنى رأسه.
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من قرية الوبر ، نصف سكانها بشر ، والنصف الآخر بقر . كان يحرس ضيعة للغجر ، ولما أصاب القرية جفاف شديد ، أكل أهلها الحجر والحديد ، حتى خرج من بطونهم الصديد ، ومات منهم الكثير العديد . قاوم الرجل صلابة الأرض ، حتى أصبح تحت رحمة القرض ، ومزقه المرض بالطول والعرض . نصحه أحد الفضوليين الأخيار ، بزيارة المشفى لمعرفة الأضرار ، وإن كانت بيد الله الأقدار . ازدادت الأرض من حوله عَدَماً ، وضاعف له الجوع والفقر ألما ، وانكمش جسمه ضعفا وهرماَ . ولما اشتد به الألم وزاد ، جمع ما يكفيه من زاد ، وقرر أن يغادر البلاد . جلس ينتظر قدوم الحافلة ، بعد أن تخلف عن القافلة . طال جلوسه وانتظاره طويلا ، ومصارينه تتمزق عويلا ، ثبت تميمة الفقيه على جبينه ، فأحس بدوار في حينه . وفي غفلة من المكان ، وشرود تام للزمان ، وجد نفسه في مشفى المدينة ، ومن حوله أجسام سمينة . تمدد فوق فراش أثير ، زينت به مرتبة السرير ، حضر للتو كبير الأطباء ، لير ما به من عياء . وهو يدعو له بالشفاء . تحلقت الممرضات حول رأسه ، وكل واحدة تخفف من يأسه ، مشفقات قلقات على بأسه . أمر الطبيب بإحضار أقاربه ، ليسألهم عما صار به ، ويكشف عن سر عجائبه . أسرعت السيارة لإحضار زوجه ، فهي العارفة بغنجه . ولما جيء بها في الحين ، أصابها وجع وأنين ، تعذر عليها جواب الطبيب ، وذهل الجمع من الحدث العجيب . أمر كبير الأطباء المبجلين ، بإدخالها إلى غرفة المستعجلين ، وإحضار من يسكن بجوارها ، حتى يعرف منه سر حوارها . أحضرت السيارة كل ما تبقى من الجيران ، وكل المعارف والأقارب والسكان ، وكان كلما أرادوا من أحدهم جوابا ، اكتشفوا أنه أصبح مريضا مصابا . امتلآ بهم المستشفى عن آخره ، وزاد كبير الأطباء من أوامره . خصص لكل مريض طبيبين ، ورفقة كل طبيب مساعدين ، مسنودين بممرض وممرضتين ، وخلف كل ممرضة عونين . ظل صاحبنا ممدا فوق السرير ، وبطنه تتألم من الصفير . أحاط به الأطباء من كل اختصاص ، منهمكين في الجس والافتحاص .
يروي أحد الفضوليي الصحاح ، أن صاحبنا لما جرب فيه اللقاح ، لم يعد يقوى على الانبطاح ، فبات ليله بين السرير والمرحاض متنقلا ، تارة على الكرسي وتارة مترجلا ، وكان في خدمته ممرض وعون ، وممرضات لم تغمض لهن عين ، ولما اشتد به الألم والوجع ، التفوا حوله وما خرجوا ، أحضر الطبيب من ضيعته ، وأحضر كل من في بيعته ، ونقل صاحبنا إلى غرفة الأضواء ، حيث حُشِد المخدرون والأطباء ، الأموات منهم والأحياء . حفروا ممرا عريضا طويلا ، وضعوا به حوضا وبرميلا ، وُصل البرميل بأنابيب مطاطية ، ثبتت بطريقة اعتباطية ، في سواعد وصدور متهالكة ، حتى أصبحت عروقها متشابكة . جلس صاحبنا مع الجالسين ، محاطا بالمحللين والدارسين ، ولما قرروا إجراء العملية ، لإزالة الزائدة البصلية ، ضحك متألما متقلبا ، مستفسرا حائرا متعجبا ، كيف يصاب بالزائدة الزاوية ، ومصارينه طول حياته خاوية ؟ أعاد الطبيب الكشف من جديد ، يحاول بشكل عنيد ، أن يستقر على رأي رشيد . كشفت الأشعة أنْ ليس به شيء ، سوى دوار نتج عنه قيء بعدها مدد قليلا ذراعه ، والممرضات يخففن صداعه ، أثبت الطبيب خلوه من المرض ، حيث لا شيء ثابت بانتفاء العرض . ولما تألم وتوجع الرجل ، حار الطبيب ما العمل ؟ وأدرك أن الجس شابه الفشل ، وأن المعدة قد أصابها العطل . ثم أثبت له أنه كان يأكل قليلا ، حتى أصبح جسمه نحيلا ، فلا مفر له من الأكل سبيلا . فكر المريض في اقتراح الطبيب ، لكنه تعلل بفقر اليد والجيب ، ورأى أنه أتى بالأمر العجيب . غرسوا بساعده الأيمن صنبورا ، وضخوا به ماء مالحا موفورا ، حتى بدا لهم شريدا مخمورا ، ثم زادوه جرعة دواء ، لتملأ ما بمعدته من خواء، وكذا فعلوا بغيره على حد سواء.
ظل الرجل إلى البرميل موصولا ، وبعطف الممرضات وحنانهن مشمولا، وبات سبب آلامه مجهولا . ظل الأطباء يبحثون في الكتب، مستفسرين عن دافع المرض والسبب ، ووجوههم تحمر من فرط العجب . يروي أحد الفضوليين المحدثين ، لجماعة متطفلة من الباحثين ، أنه لما لم يتلق الطبيب من الأشعة ردا، أمر أن يشدوا وثاقه شدا، بعد أن رأى من العملية بدا . وافق الرجل على إجراء العملية، لكن للمعدة فهي سبب البلية، واقترح أن يقتصوا منها نصيبا ، لتستوعب فقط خبزا وحليبا، مادام لا يوفر لها أكلا ثقيلا ، واعتبوا ما قاله أمرا رهيبا ، وإن فعلوا سيكون ذلك معيبا . أصر الرجل على سلامة الاقتراح ، وهو مطمئن على أن تكلل بالنجاح، مادام سيشفى نهائيا من الجراح . تملك الأطباءَ عجبُ العجاب، وميزوا السؤال من الجواب، وأقروا أخيرا بالرأي الصواب .
أدخلوه غرفة العمليات على عجل، والممرضات تركضن به على مهل، وكأن ليس لهن غيره من عمل . استنفرت القفازات وأشعلت الأنوار، وأسدلت النوافذ والأثواب والأستار، واستسلم صاحبنا تحيطه الأقدار. شقوا بطنه مقدار ذراع وشبر، وأخرجوا منها مصرانا بطول متر، ملؤوه بعجين وزبيب وتمر. وجدوا الطحال قد تحلل، ومن قلة العمل قد تعطل،وحال لونه وذبل وتبدل. مسك الطبيب بطرف المصران ، وأمر الممرضة نفخه بالمليان، حتى يصبح كمَعْيِ الشبعان . ولما انتفخ المصران بالهواء ، مرره في آنية من الماء ، ليرَ ما به من ثقب أو داء. وكذا فعل بباقي المصارين، والممرضات معجبات بهذه التمارين . نفخوا في رئتيه وقلبه، وغرزوا إبراً في صلبه ، بعد أن أفرغوا ما بجيبه. خاطوا معدته إلا قليلا ، ليدعوا للأكل إليها سبيلا، وقد استغرقوا في ذلك زمنا طويلا. ملؤوا بطنه بالتفاح والتين والموز، وزادوه كثيرا من البلوط والجزر واللوز، وعصيدة مصنوعة من بقايا الخبز. ولما انتهوا من عملية التشحيم ، بعد الإغلاق المحكم والتلحيم ، وتثبيت النوع ولوحة الترقيم ، اكتشفوا أن رأسه يتحرك يمينا يسارا، وقد اشتعل جسده وزاد نارا ، وحينها أعلنوا نجاحهم جهارا .أفاق صاحبنا من التخدير، وتحسس بطنه بحذر وتحذير، وأدرك ما مر به من تبذير، ثم تحسس رأسه بكل نشاط، بعد أن فكوا ما حوله من رباط ، ثم نام في هناء واغتباط . ويروي أحد الفضوليين أنه لما بتروا كل ما في بطنه من عيوب، وأغلقوا كل ما بمعدته من ثقوب ، ووصوها إلى رأسه بأنبوب ، وقف لتوه مغنيا طربا، وكأنه لم يتألم من قبل عطبا، حينها انتبه الطبيب بكل الدهشة ، إلى التميمة المعلقة على الجبهة ، وهو يحبو مغنيا في الردهة . اقترب منه بكل إصرار وعزيمة ، ليعرف ما وراء تلك التميمة ، ولما نزعها من على جبينه ، سقط المريض في حينه، وزاد من وجعه وأنينه . ثم غاب عن وعيه في عطالة ، وتدخلت الممرضات في خفة وعجالة ، ليجد وضعه على نفس الحالة ، ينتظر الحافلة التي لن تأتي لا محالة . حينها فقأ بطنه ثلاثا فمات . وفي رواية أخرى أنه لما وجد نفسه انه لازال ينتظر الحافلة عاد إلى أهله وحكى لهم النازلة ، فدعا لنفسه بالموت العاجلة ، ثم أكل حتى شبع وغنى ثلاثا فمات .
يتبع مع فضول آخر .
Aucun commentaire