المقامات الدفية : الدف الواحد والثلاثون – الرجل الذي التقى بأبي نواس في مدينة النحاس
المقامات الدفية : الدف الواحد والثلاثون – الرجل الذي التقى بأبي نواس في مدينة النحاس
حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من أهل النظم والشعر ، كان يؤلف القصائد والدواوين ويبيعها بأرخص الثمن والسعر ، ليضمن بذلك عيشه بعد أن تحول من اليسر إلى العسر…كان كلما نظم قصيدة إلا وتناولها غيره بنقد بغير قياس ، محققين كل ما ورد فيها من معان وصور وطباق وجناس ، مصنفين إياه ضمن التابعين إلى مدرسة أبي نواس…اشتهر بغرامه للخمرة والبحث عنها في كل بعيد من المكان ، حتى أصبح معروفا عند الجميع بأبي نواس هذا الزمان ، وإذا لم يجدها يقتصر على شُرب عصير العنب المخلوط بروح الرمان…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في أحداث الليل ، أن صاحبنا رجع يوما إلى منزله مائلا كل الميل ، ولما وصل وأراد فتح الباب نسي موضع القفل…علمت زوجته بحضوره وأسرعت إلى فتح الباب ، وهو يترنح بعد أن جف فمه من الريق واللعاب ، ثم نام بعدما شَنَّفَت زوجته أذنيه الكثير من اللوم والعتاب…وحدث يوما أن دخل حانة في أقصى مدينة النحاس ، فوجد بداخلها ضبابا من الدخان يحيط برهط من الناس ، أفواههم تسيل زبدا وأعينهم متثاقلة يغشاها النعاس…سمع ضجيجا ودندنة كان وقعها ثقيلا على السماع ، وقهقهات متبرجة زاد من رعونتها رحيق النعناع ، ورأى كلابا وقد زالت من رجولتها صولة السباع…جلس بعيدا حزينا وقد أصابه الملل واليأس ، واقتنع بالحجة والدليل أنه بالإمكان أن يفعلها الكأس ، ولا فائدة من رجل بلا بلية ينشغل بها الرأس…طلب كعادته ما يفتتح به الشهية غير مبال بالندامة ، ولاحظ رجلا يجلس بالقرب منه منهمكا في لف رأسه بعمامة ، وفهم من ذلك أنه يريد الاستعداد لخوض غمار القمامة…اقترب منه عارضا عليه كأسا مما كان يشرب ، فتناولها صاحب العمامة وبدأ يُدَنْدن ويَطربُ ، ولما تفحص وجهه جيدا تراجع عما كان يظن ويحسب…بعد الاستئذان من مقاطعة كلام صاحب العمامة المبجل ، نادى صاحبنا النادل وطلب لجليسه مزيدا من شرابه المفضل ، راجيا أن يكون التعارف بينهما محفوفا بالنجاح المكلل…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في خبايا المدينة وما تضمه من بارات ، أن صاحبنا استأنس بصاحب العمامة وما تحمله من إشارات ، فطلب أكلة يفصلان بها الشراب منبها أن تكون بلا بهارات…تجاذبا أطراف الحديث واشتدت بينهما المناقشة ، وتبادلا قرع الكأس بينهما دليلا على الصداقة والمعايشة ، غير مهتمين بما كان يجري حولهم من الفوضى والمناوشة…
اقتنع صاحبنا أن جليسه هو أبو نواس المعروف بالشاعر الفحل ، واغتنم الفرصة موطدا العلاقة حتى ينال الكثير من الفضل ، وطلب منه الإشراف على دكتوراه يُحَضِّرُها في فن المزمار والطبل…وبعد عام من اللقاءات والجلسات والكؤوس ، استفاد فيها صاحبنا من أبي نواس ومما أهداه له من الكتب والدروس ، حتى نال شهادته التي تباهى بها أمام كل القامات والرؤوس…ثم حدث أن غادر مدينة النحاس إلى مدينة التراب ، فاستقبله النقاد بالورود وبما لذَ من الشراب ، ولوح بشواهده حتى لا يُقال عنه خاوي الجراب…ملك زمام الأمور وأصبح وريث أبي تواس ، ونظم شعرا لم يُدوَّنْ مثله من قبل في أي قرطاس ، تمتص بلاغته رحيقا ثمينا لا يباع بذهب ولا يُشترى بِمَاس…طالب الجميع ألا يُقال شعرٌ أو نَقْد إلا بعد أمره ، فلا شاعرا ولا زجالا يحق له النظم في بحره ، ثم أنشد مفتخرا يقول بعضا من شعره:
أنا الذي بَصَم الأعشى على صُوَري وَضَيَّعَتْ نَغماتي منْ لَـهُ وَرَعُ
بعـد أن شهـد النــواس بادرتي تناسلَتْ رغباتي راقَـها طمَـعُ
وغــازلت كلماتي كل ذي عَـطبٍ وصافَحَتْ صفعاتي من به قَرَعُ
يروي أحد الفضوليين المتخصصين في الترجمة والتحقيق ، أن صاحبنا بايعه الشعراء الفحول وألهبوا كفوفهم بالتصفيق ، وأمَّروه عليهم واختاروا أبا نواس لينوب عنهم في التنسيق…واتُّفِقَ أن جرت مباراة في قرض الشعر وأصناف الفن ، حضرها الشعراء الفنانون والمبدعون من الإنس والجن ، وبعد الفرز الأول أُقْصِي منها كل من سقطت لغته في اللحن…استمرت المسابقة على مدى شهر ونصف من المنافسة الشديدة والجهد ، ترأس لجنة تحكيمها كل من ابن زيدون وطرفة بن العبد ، بمساعدة هوميروس وعضوية المتنبي وبشار بن برد…وبعد مداولات طويلة تم الإعلان عن الفائز بالجائزة الكبرى ، بعد أن رست كل الآراء على شعر صاحبنا وتحققت البشرى ، فتوجوه أميرا للشعراء وهو يرفع يده اليمنى يداولها مع اليسرى…عاش أيام الهناء ورغد العيش بعد أن ودع أيام الفقر ، وعاد إلى مدينة النحاس والتقى بأبي نواس بعد العصر ، فدعاه إلى جلسة يُحرك فيها الكأسُ خيالَ النظم والشعر…ضاعف الشربَ فرحا وابتهاجا على غير عادته ، حتى ثَقُل رأسه ولم يعُدْ يتحكم في إرادته ، والتبرج حوله يُقهقه ويزيد من سعادته…أحس بدوار برأسه فباغثته لفحة نسيم عليل ، حرك عينيه استجابة لها ورأى جليسه قد تحول إلى فيل ، شعر بالقيء ولم يجد لاعتراضه أية حيلة أو أي سبيل…لعبت به الشمول وعربد إلى أن صب جليسه عليه ماء كثير السيل ، فلما أفاق وجد نفسه لا يزال منهمكا في تصويب فتحة القفل ، فمات وهو يدعو على أبي نواس بالثبور والويل…وفي رواية أخرى أنه لما تمكن من فتح الباب ، بادرته زوجته بكل أنواع الشتائم والسباب ، فمات ثلاثا بعد أن لعن الكأس وما فعله فيه ولد الكلاب…
يتبع مع فضول آخر . محمد حامدي
2 Comments
c très magnifique, je te souhait une bonne continuation :p
ممتع ممتع ممتع كثيراً