الدعوة إلى فصل الإسلام عن الحياة دليل على الجهل المطبق به
مقولة فصل الدين عن الحياة المتهافتة يتلقفها الكثير من الجاهلين بطبيعة الإسلام جهلا مطبقا، علما بأن هذه المقولة نشأت أصلا في أوروبا نتيجة الصراع بين طبقة رجال الكنيسة أو الإكليروس، وبين طبقة العامة أو العلمانيين . ومعلوم أن موقف العلمانيين من دين رجال الكنيسة كان عبارة عن ردة فعل متطرفة على فعل متطرف ، ذلك أنه بقدر ما استبد رجال الكنيسة بالحكم بقدر ما تطرف العلمانيون في القول بإقصاء الدين من الحياة. وانتقلت مقولة إقصاء الدين من الحياة من الصراع الذي كان دائرا في أوروبا إلى أقطار أخرى تختلف وضعياتها تماما عن وضعية أوروبا ، وعن صراعها الديني العلماني. وهكذا صار كل رافض للدين حيثما وجد يتبنى مقولة فصل الدين عن الحياة ، خصوصا الذين يعتنقون العقيدة الشيوعية التي بنت مجدها على أساس هدم الدين. وعندما تنتقل مقولة فصل الدين عن الدنيا إلى المجتمعات الإسلامية تبدو متهافتة وسخيفة ومثيرة للسخرية، ذلك أن الإسلام ليس دينا كباقي الديانات سواء الوضعي منها أم السماوي الذي أصابه التحريف بشهادة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة . والأصل في كل الديانات أنها تلابس الحياة ، وتوجه البشر لخوض غمار الحياة بطرق صحيحة وموفقة كما يعتقد كل دين مهما كانت درجة مصداقيته . وهذه القاعدة تنسحب على دين الإسلام أيضا ،لأنه عبارة عن توجيهات إلهية للبشر من أجل خوض غمار الحياة بنجاح في العاجل والآجل. ولا يمكن اختزال الدين الإسلامي في جانب طقوسي كما هو الحال في بعض الأديان ، ذلك أن الجانب الطقوسي في الإسلام هو عبارة عن إعداد روحي أو نفسي من أجل مواجهة الحياة ،مما يعني أن الجانب الطقوسي لا ينفصل عن ممارسة الحياة بكل ما فيها من مظاهر سياسية واقتصادية واجتماعية. ومقولة فصل الدين عن الحياة غالبا ما يختزل القائلون بها الحياة في المظهر السياسي ، وهذا دليل على قصور النظرة إلى الحياة . وبسبب هذا الاختزال للحياة في مظهر واحد تستعمل عبارة فصل السياسة عن الدين. والقائلون بفصل السياسة عن الدين لا ينتبهون إلى اختزالهم الحياة في الجانب السياسي فقط .
الواقع أن الإسلام كدين يغطي الحياة بكل مظاهرها وجوانبها ، ولا يفصل سياسة عن اقتصاد ولا عن اجتماع. فكما تدخل الله عز وجل في شؤون عباده المعيشية أو الاقتصادية حيث حدد لهم ما يأكلون وما يشربون ، وما لا يأكلون ، وما لا يشربون ، وما يلبسون وما لا يلبسون ، وما يقتنون ، وما لا يقتنون ، وحدد لهم النظم الاقتصادية لما أحل وما حرم ، وحدد لهم العلاقات الاجتماعية ونظمها ، حدد لهم العلاقات السياسية ونظمها. فالذين يريدون فصل الإسلام عن السياسة نقول لهم كيف يمكن أن يتخلى الإسلام عن السياسة ، وهو الذي تدخل في ما يأكل المسلم وما يشرب ، وما يلبس ، وم يملك ,حتى ما ينطق ، وتدخل في علاقاته مع الغير ؟ وهل يعقل أن يتدخل الإسلام في الاقتصاد والاجتماع ، ولا يتدخل في السياسة . وأكثر من ذلك هل توجد سياسة منفصلة عن الاقتصاد والاجتماع ؟ وهل يمكن التعامل مع الاقتصاد والاجتماع دون المساس بالسياسة ؟ و الحقيقة أن الذين يسوقون مقولة فصل الدين عن السياسة يريدون إقصاء الإسلام من الحياة جملة وتفصيل ليخلو الجو لهم للاستبداد بها ، و ليس بالسياسة فقط بل بالاجتماع والاقتصاد والثقافة أيضا. فالدين الإسلامي في جوهره هو عبارة عن ممارسة حياتية وفق تصور وضعه الخالق سبحانه للمخلوقات لعلمه جل شأنه بما ينفعهم في خوضهم لغمار هذه الحياة ، ولخبرته تعالى بما يجعل هذه الحياة مستقيمة وناجحة وواقعية . فالطقوس التي يقف دعاة فصل الإسلام عن الحياة عندها باعتبارها غاية في حد ذاتها ،إنما هي طقوس من أجل إعداد الخلق لخوض غمار الحياة ، وهي وسيلة ليست غاية في حد ذاتها ، ولكنها وسيلة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها . وعلى سبيل التمثيل لا الحصر نسوق طقس نحر الأضاحي في عيد الأضحى ،وهو سنة مؤكدة بمعنى ضرورية يقول عنه الله عز وجل : (( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )) فهذا يعني أن الطقس لا يراد لذاته وإنما لغاية أسمى وهي التقوى ، وما التقوى سوى الانضباط لما شرع الله عز وجل من أجل استقامة الحياة بسياستها واقتصادها واجتماعها . وأكثر من طقس الأضحية طقس الصلاة الذي يقول فيه رب العزة جل شأنه : (( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )) فالملاحظ أن الله عز وجل ربط طقس الصلاة بكل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . فالمصلي هو الذي تؤثر صلاته أولا في اعتقاده ،فيعلم أن للحياة الدنيا نهاية وبعدها حياة أخرى، وأن الأولى فترة عمل ، والآخرة فترة جزاء ، وهو اعتقاده يفرض الاعتقاد بالملائكة والرسل والكتب ، وهو نفسه المنفق المال ،ويتعلق الأمر بالجانب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للحياة ، ذلك أن هذا الإنفاق الذي له طابع اقتصادي صرف حيث يتعلق الأمر بصرف المال ، له علاقة بما هو اجتماعي من قرابة ويتم ، ومسكنة ،ومسألة، وحاجات اقتصادية لفئات اجتماعية ، ومن ثم له علاقة بما هو سياسي ،لأن التعامل مع هذه الفئات الاجتماعية ،هو الممارسة السياسية عينها . والوفاء بالعهد وهو غاية من غايات طقس إقامة الصلاة هو سلوك سياسي حيث يلزم من وضع فيه الناس الثقة ليسوسهم أن يفي بالعهد الذي بينهم وبينه، كما يلزمهم ذلك أيضا . والصبر في البأساء والضراء وحين البأس لا يكون إلا في الأحداث الجسام التي وراءها السياسة بامتياز مثلما هو الحال في الحروب والكوارث. وصاحب طقس الصلاة الصادق والملتزم بشرع الله عز وجل ،أو المتقي بلغة القرآن الكريم هو الذي يعده طقس الصلاة الإعداد المناسب لخوض غمار الحياة كما شرع الله عز وجل . ومن خلال هذا المثال يتبين أن مقولة فصل الإسلام عن السياسة ، أو فصله عن الحياة عبارة عن مقولة متهافتة تصدر عن جهل مطبق بالإسلام . وأخيرا نود أن نشير إلى أن بعض الأنظمة المستبدة في البلاد الإسلامية ،وذات المصالح الخاصة تطرب لهذه المقولة لأنها تريد ركوب الدين وحدها ،واستغلاله في سياستها تماما كما كانت تفعل طبقة رجال الكنيسة الأكليروس ، وهو ما ولد ردة الفعل العلمانية المطالبة بفصل الدين عن الحياة .
Aucun commentaire