العنف السياسي في البلاد العربية الإسلامية نتيجة حتمية للفراغ الديني أو لسوء التدين
من المألوف أن الغرب يحاول دائما فرض نموذجه الحضاري وتصوراته على العالم العربي والإسلامي . ومما حاول الغرب مؤخرا ترويجه وتسويقه عالميا وعربيا وإسلاميا أن عمليته في باكستان ضد تنظيم القاعدة ، والقضاء على زعيمها قد أنهى حكاية العنف السياسي بينه وبين خصومه من الجماعات الإسلامية الممارسة للعنف المضاد . وهذا التسويق بعيد عن الحقيقة والواقع لأن نهاية العنف السياسي لا بد لها من حلول بعيدة كل البعد عن مقاربات العنف والعنف المضاد ،لأن العنف لا يعالج بالعنف ولا يولد إلا العنف . وإذا ما كان العنف السياسي بين الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وبين الجماعات الإسلامية التي اختارت العنف كرد على المواقف الغربية له ما يبرره ، فإنه لا مبرر له داخل المجتمعات العربية الإسلامية التي يحولها الصراع بين الغرب وبين هذه الجماعات إلى ساحات قتال تصفى فيها الحسابات التي لا علاقة لها بها. ومن الانحرافات التي طالت عنف الجماعات الإسلامية تحول عنفها من عنف ضد الغرب إلى عنف ضد أوطانها سببه إما غياب الوازع الديني أو سوء التدين . فما يحدث من عنف في البلاد العربية الإسلامية عادة من طرف الجماعات الإسلامية يكون في البداية مرده الصراع بين هذه الجماعات وبين الغرب ، ولكنه يتحول بعد ذلك إلى صراع بين هذه الجماعات وبين الأنظمة العربية الإسلامية إما لأنها تربطها علاقات مع الغرب في نظر هذه الجماعات ، أو لأنها تختار النموذج الحضاري الغربي بديلا عن النموذج الحضاري العربي الإسلامي . ولا يعنينا في هذا المقال العنف السياسي بين الغرب والجماعات الإسلامية طالما ظلت القضية الفلسطينية بدون حل عادل وشامل ، وطالما ظل الغرب متحيزا للكيان الصهيوني ، و يحتل بلاد عربية وإسلامية .
وستظل التهم بين الغرب وهذه الجماعات الإسلامية متبادلة حيث يزعم الغرب أنه احتل هذه البلاد لمحاربتها ، بينما تزعم هي الأخرى أنها تقاوم الاحتلال الغربي لبلادها ،فالقضية بيزنطية في نهاية المطاف على غرار قضية السبق في الوجود بين البيضة والدجاجة ، وهي قضية معلقة بلا حسم ولا نهاية . وما يعنينا في هذا المقال هو العنف السياسي الذي تمارسه الجماعات الإسلامية فوق تراب الأرض العربية الإسلامية بذريعة مواجهة الفساد أو التغريب . فهذا العنف إنما تشترك في خلقه و تصنيعه أنظمة هذه البلاد والجماعات الإسلامية العنيفة على حد سواء. فالأنظمة العربية الإسلامية التي تدير ظهرها للنموذج الحضاري العربي الإسلامي ، وتخضع وتسوق للنموذج الحضاري الغربي المفروض والمعولم كما تسوق سياستها بالقوة الشيء الذي يعطي للجماعات الإسلامية المتطرفة الفرص السانحة لتسويق العنف وإضفاء الصيغة الشرعية عليه حسب اعتقادها. فالمواطن العربي الضعيف التدين أو الذي يغيب الدين من حياته جملة وتفصيلا له استعداد كبير لاستهلاك النموذج الحضاري الغربي خصوصا الجوانب السلبية منه التي لا يمكن التوفيق بينها وبين الدين الإسلامي وهو الدين الرسمي في البلاد العربية الإسلامية . وحينما تسير الأنظمة العربية الإسلامية في اتجاه السماح لكل وافد حضاري غربي دون رقابة ، ودون مراعاة الخصوصيات الحضارية العربية الإسلامية فإنها تصير في نظر مواطنيها مجرد راعية للنموذج الحضاري الغربي بل عبارة عن جهاز فرض هذا النموذج مما يولد ردة فعل ضده تتمثل في ظهور نماذج التدين المغلوط الذي يجد ضالته في عقائد متطرفة من قبيل عقيدة التكفير ، والتجريم ، والتفكير في معاقبة غير الخاضع لهذه العقائد المتطرفة عن طريق العنف الأعمى. والقضية بين الأنظمة العربية الإسلامية والجماعات الإسلامية العنيفة في نهاية المطاف عبارة عن أفعال وردود أفعال مضادة . فعندما تغض الأنظمة العربية الإسلامية الطرف عن أشكال من الإباحية الأخلاقية بما في ذلك ما يسمى السياحة الجنسية ، أو المواسم الفنية المستهترة بالقيم الأخلاقية المواكبة لهذه السياحة الجنسية بشكل مباشر أو غير مباشر مقابل التضييق على الوعظ الديني الأخلاقي المتزن الرافض لها ،فإنها من جهة تقدح شرارة الفساد الأخلاقي بين ضعاف التدين أو منعدمي التدين ، و من جهة أخرى تقدح شرارة التطرف الديني المغلوط بين المتدينين من أصحاب سوء فهم الدين ، وبهذا تصير المجتمعات العربية الإسلامية تحت رحمة العنف الأعمى والمجاني في نفس الوقت من طرف المتطرفين في فهم الدين ، وهذا العنف إنما هو في الحقيقة ردة فعل على فعل الأنظمة التي تغض الطرف عما يستفز المشاعر الدينية للمتدينين . ومن الأخطاء الفادحة التي تسقط فيها هذه الأنظمة الخلط بين مواجهة الاعتدال في التدين والتطرف فيه .
فلا يكاد عنف أحمق يهز جهة من جهات الوطن العربي الإسلامي حتى تحتطب الأنظمة العربية الإسلامية احتطاب ليل بين الجماعات الإسلامية لا تميز بين معتدل متسامح أومتطرف متعصب تكفيري فيكون مصير الجميع المتابعات والاعتقالات والتعسف في ذلك ،الشيء الذي يضاعف نقمة الجماعات العنيفة على هذه الأنظمة ، وربما جر ذلك حتى المعتدلين نحو الاستياء والتعاطف مع العنف الأعمى كرد فعل على فعل غير محسوب بدقة . فعندما تعمد بعض الأنظمة إلى تكميم أفواه بعض الدعاة المعتدلين الذين ينبذون العنف في طرق دعوتهم ،فإنها تفسح بذلك المجال لدعاة التكفير والتجريم ،الذين يزينون العنف لأتباعهم كرد فعل على مواقف الأنظمة . وبتضافر وجود الفراغ الديني ووجود التدين المغلوط كرد فعل عليه تتوفر الظروف المناسبة لانتشار العنف الأعمى. وبقدر ما ينتشر التحلل من القيم الدينية والأخلاقية بقدر ما ينتشر التدين المغلوط الذي يصير مجرد رد فعل على هذا التحلل ، وليس وعيا بحقيقة الدين . وفي مثل هذه الظروف تتجاهل الأنظمة في البلاد العربية الإسلامية قضية التوازن بين طرفي نقيض وهما التحلل من الدين والتطرف فيه. والملاحظ أنه مقابل كل مظهر للتحلل يوجد مظهر للتطرف ، فعلى سبيل المثال نجد العري والتفسخ وإبراز مفاتن النساء يقابله اللباس المتجاوز للباس الشرعي بما في ذلك النقاب والقفاز والسواد وغير ذلك ، وهو شكل من أشكال اللباس الذي أصبح يثير الجدال داخليا وخارجيا لارتباطه بقناعات متطرفة لأنه جزء من هذه القناعات لا ينفصل عنها. وعلى غرار التطرف في التجرد من اللباس وما يقابله من مبالغة في اللباس لدى الإناث نجد التطرف في المظهر بالنسبة للذكور أيضا من قبيل أشكال غريبة لحلاقة الشعر وتصفيفه ، وأشكال غريبة لملابس كاشفة وغير ساترة على النمط الغربي يقابله تطرف في العباءات القصيرة وفوقها بدلات شبه عسكرية واللحى الطويلة ، والعمامات على النمط الأفغاني هذه بتلك ،مما يعني وجود صراع داخل المجتمعات العربية الإسلامية على مستوى المظاهر مما يعني وجود صراع على مستوى القناعات ، وهو صراع ينحو نحو تفكير كل طرف في استئصال الطرف المقابل له عوض التعايش نظرا لتضارب المرجعيات الحضارية والثقافية للطرفين، ذلك أن النموذج الحضاري الغربي لا يمكن أن يتعايش مع النموذج الحضاري العربي الإسلامي دون أن يكون في العلاقة بينهما تصادم وتعارض.
وتبقى محاولات تصحيح هذه الوضعية الهجينة التي يخلقها صراع نموذجين حضاريين مختلفين فاشلة لأن فئة المتحللين من الدين جملة وتفصيلا يتشككون في الدعاة المعتدلين إلى دين الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة لأنهم يقيسونهم على الدعاة التكفيريين ، في حين تدين فئة المتطرفين والغلاة في الدين هؤلاء الدعاة المعتدلين وتشكك في تدينهم، ويتزامن مع ذلك خلط الأنظمة بين الاعتدال والتطرف ، والتضييق على كل دعوة دينية معتدلة مقابل ترك الحبل على الغارب لكل دعوات التحلل من القيم الدينية والأخلاقية ، وتكون النتيجة بطبيعة الحال هي الصراع الذي قد يبدأ بسيطا ويتطور إلى عنف أعمى لا يبقي ولا يذر . ومن بوادر هذا الصراع بعض السلوكات المتشنجة حتى في بيوت الله عز وجل لشباب استهوته العقائد التكفيرية ، فصار يجاهر بإظهار الإدانة لأمور لا تتطلب إدانة من قبيل تلاوة كتاب الله عز وجل جماعة أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم جماعة ذلك أن المنظرين التكفيريين ألقوا في روع هذا الشباب أن مثل هذه الأمور بدع يجب أن تحارب بشدة وضراوة. وعلينا أن نتصور حال هؤلاء الشباب التكفيري الذي تثور ثائرته لمجرد تلاوة كتاب الله عز وجل أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم جماعة في المساجد مع فئة المتدينين كيف يكون حاله مع فئة المتحللين من الدين ؟ لا شك أنه لن يخرج عن فكرة الاستئصال التي قد تأخذ شكل العنف الأعمى لأن من ينظر له ويوجهه لا يحسب حسابا للنتائج الوخيمة للتطرف وللتكفير. وفي المقابل لا يلقي من ينظر للشباب المتحلل من الدين بالا لطبيعة المجتمعات العربية الإسلامية ويتجاهل ظاهرة التدين فيها جملة وتفصيلا، وهو نوع من الاستئصال التحللي يفضي إلى الاستئصال التكفيري وإلى العنف الأعمى . ولا حل لهذه الآفة الخطيرة سوى توجيه التفاعل بين النموذجين الحضاريين الغربي والعربي الإسلامي التوجيه الصحيح بعيدا عن فكرة الصراع والاستئصال ، ولن يتأتى ذلك إلا بالإفساح للتدين المعتدل الذي لا إفراط ولا تفريط فيه ، ولا تحلل من قيم الدين ولا تعصب ولا تطرف فيه . فالمتحلل من الدين إذا عرف الدين على حقيقته أدرك حقيقة تحلله منه وضيق آفاقه ، وكذلك المتطرف في الدين إذا عرف حقيقته أدرك حقيقة تطرفه وتكفيره وضيق آفاقه.
Aucun commentaire