رأي ابن خلدون في العقاب المدرسي.
حذر ابن خلدون من الشدة على المتعلم، إذ بين أن المبالغة في عقاب المتعلم تضر بنفسية المتعلم، إذ العقاب الشديد يضيق على النفس، ويزرع في المتعلم خلق الكذب والخبث كما قال ابن خلدون، فالمتعلم خوفا من العقاب يلجأ إلى الكذب والنفاق والمكر والخديعة، وهذا هو المقصود بصفة الخبث عند ابن خلدون. وهذه الصفات الذميمة التي ينشأ عليها المتعلم الصغير ليست مؤقتة، بل ستصبح خلقا وعادة كما قال ابن خلدون، وهذا معناه أن ضرر الشدة في العقاب خطير، لأن آثاره لن تزول بتجاوز المتعلم مرحلة الطفولة.
وقد نظر ابن خلدون إلى آثار العقاب نظرة عميقة بعيدة، حيث رأى أن الأخلاق التي تنشأ بسبب العقاب لن تبني مجتمعا مدنيا متحضرا، حيث قال: » وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم، سيما في أصاغر الولد، لأنه من سور الملكة، ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن1″
إن كلام ابن خلدون عن النتائج السيئة البعيدة للعقاب تبين أنه كان يرفض أن يبالغ المعلم في ضرب المتعلم، وقد استعمل عبد الرحمن أسلوب الوصف لبيان الآثار النفسية الوخيمة للعقاب، إن العقاب حيثما وجد أدى إلى تلك النتائج الوخيمة، إذ لم يقتصر حديث ابن خلدون عن ضرر العقاب في التعليم، بل بين أن الأمة أو الشعب الذي وقع في قبضة القهر يصير إلى ما صار إليه المتعلم الذي نشأ تحت وطأة العقاب والقهر. هكذا اعتبر ابن خلدون نتيجة العقاب والقهر قاعدة عامة مطردة تسري على الفرد والمجتمع. وقد استشهد على ذلك بما عرف به اليهود عبر التاريخ من « التخابث والكيد »، ومرد هذا حسب ابن خلدون إلى القهر والعقاب. قال: » وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف، واعتبره في كل من يملك أمره عليه…وتجد ذلك فيهم استقراء. وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء، حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج. ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد. وسببه ما قلناه2″
وانتهى ابن خلدون بعد تحليل عواقب الشدة في العقاب إلى هذا التوجيه الذي وجهه إلى المربي، سواء كان معلما أم أبا، إذ قال: » فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب3″، هكذا يظهر أن ابن خلدون يرفض الشدة في العقاب لما لها من أضرار على المتعلم على المستوى البعيد. لكن هل هذا يعني أن ابن خلدون يرفض العقاب رفضا مطلقا، جملة وتفصيلا؟
استعمل ابن خلدون في النصوص السابقة عبارات تشير إلى موقفه من العقاب، ومن هذه العبارات قوله : » وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم4″، » ومن كان مرباه بالعسف والقهر…سطا به القهر…5″، « وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف6″، » فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب7″، إن استعمال ابن خلدون عبارة » إرهاف الحد » و »القهر والعسف » و « أن لا يستبدوا » إشارة قوية إلى أن ابن خلدون لا يرفض العقاب رفضا كليا، بل يرفض الشدة والمبالغة فيه، وهذا واضح كذلك من عنوان هذا الفصل، إذ قال إن الشدة على المتعلمين مضرة بهم.
ويتضح موقفه من العقاب أكثر من خلال الأقوال التربوية التي استشهد بها في هذا الفصل، فقد ذكر ثلاثة نصوص، كلها تبين أن العقاب لم يكن مرفوضا رفضا تاما، وأنه ليس الوسيلة الأولى في التأديب بل هي الوسيلة الأخيرة. أما النص الأول فهو لمحمد بن أبي زيد في كتابه، الذي ألفه في حكم المعلمين والمتعلمين، إذ قال » لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا8″. ففي النص دليل على أن العقاب ليس ممنوعا في التأديب، لكن ينبغي أن يكون معتدلا منضبطا، لا عنف فيه ولا مبالغة، فقد حدد محمد بن أبي يزيد مقدار العقوبة. وهذا النص دليل أيضا على أن العقاب لا يستعمل إلا إذا احتيج إليه، أي ينبغي للمعلم أن يستعمل أساليب أخرى غير العقاب كأسلوب الموعظة مثلا.
وأما النص الثاني فهو لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث قال: » من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله9″ وقال ابن خلدون معلقا على هذا النص: » حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب، وعلما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له، فإنه أعلم بمصلحته10″ من هنا يبدو أن ابن خلدون كان يحذر من المبالغة في التأديب بالعقوبة، فهو يتفق مع محمد بن أبي زيد في مقدار العقوبة الشرعية للتأديب.
وأما النص الثالث فهو كلام هارون الرشيد إلى خلف الأحمر مؤدب ولده، وقد عبر ابن خلدون عن إعجابه بهذا النص الذي اعتبره مذهبا تربويا قائما بذاته، ولعل هذا الإعجاب مرده إلى كون النص يشتمل على أهم عناصر عملية التعليم التي أمر هارون الرشيد خلف الأحمر أن يعمل بها في تأديب ابنه، فكلامه يشتمل على المحتوى الذي ينبغي أن يلقنه لابنه، كما يشتمل على أساليب التعليم. وهذا نص ابن خلدون: » ومن أحسن مذاهب التعليم، ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده. قال خلف الأحمر: » بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: » يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة. فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. أقرئه القرآن وعلمه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هشام، إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه. ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه، فتميت ذهنه. ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه. وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة11″
إن العقاب ضروري عندما لا تنفع الملاينة. وهذا الأسلوب أقره علماء الإسلام قديما وحديثا، فهذا محمد قطب يقول: » حين لا تفلح القدوة ولا تفلح الموعظة، فلا بد إذن من علاج حاسم يضع الأمور في وضعها الصحيح. والعلاج الحاسم هو العقوبة.
وبعض اتجاهات التربية الحديثة تنفر من العقوبة وتكره ذكرها على اللسان! ولكن الجيل الذي أريد له أن يتربى بلا عقوبة- في أمريكا- جيل منحل مفكك الكيان.
إن العقوبة ليست ضرورة لكل شخص. فقد يستغني شخص بالقدوة و بالموعضة فلا يحتاج في حياته كلها إلى عقاب…ولكن الناس كلهم ليسوا كذلك … ففيهم من يحتاج إلى الشدة مرة أو مرات. »
ثم قال: » وليست العقوبة أول خاطر يخطر على قلب المربي ولا أقرب سبيل…فالموعظة هي المقدمَة، والدعوة إلى عمل الخير والصبر على انحراف النفوس لعلها تستجيب…12″
إن العقوبة بالنسبة لمحمد قطب وسيلة ضرورية وفعالة لتأديب بعض الناس، لذا فمنع العقاب معناه تشجيع هؤلاء على الانحراف والكسل والإهمال، قال محمد قطب مؤكدا على ضرورة العقاب ومبينا أن من الناس من لا تزيده الموعظة إلا انحرافا: » ولكن الواقع المشهود أن هناك أناسا لا يصلح معهم ذلك كله، أو يزدادون انحرافا كلما زيد لهم في الوعظ والإرشاد! وليس من الحكمة أن نتجاهل وجود هؤلاء أو نتصنع الرقة الزائدة فنستنكر الشدة عليهم!
إنهم مرضى. نعم. ومنحرفون. والعيادات السيكولوجية قد تصلحهم! ولا أحد يمنع عنهم العلاج النفسي أو أي نوع من أنواع العلاج. ولكن فلنحذر أن نجعل وسيلتنا في تربية النفوس أن نجاريها في انحرافاتها ونتلمس لها الأعذار. فإن ذلك نفسه يبعث على الانحراف ويزيد عدد المنحرفين!13″
وقد استمد منهجه في العقوبة من القرآن الكريم، الذي تعامل مع الناس كل حسب ما يؤثر فيه، حيث قال: » درجات متفاوتة لدرجات من الناس! فمن الناس من تكفيه الإشارة البعيدة فيرتجف قلبه ويهتز وجدانه، ويعدل عما هو مقدم عليه من انحراف. ومنهم من لا يردعه إلا الغضب الجاهر الصريح. ومنهم من يكفيه التهديد بعذاب مؤجل التنفيذ, ومنهم من لا بد من تقريب العصا منه حتى يراها على مقربة منه. ومنهم بعد ذلك ف
ريق لا بد أن يحس لذع العقوبة على جسمه لكي يستقيم!14″
2 Comments
يا الصديق كيف امشات الفلاقة امشات التربية المدرسية.اما اليوم لوكان غير تتكلم واما كثرة المصطلحات كيقولوا العنف المعنوي ويمكن ايقيدوا بيك وتؤدي الثمن والامثلة كثيرة الله يستر وخلاص .بالامس كان ااب يقول للمعلم هاك الدري انت ادبح واسلخ وانا ندفن اما اليوم يا ولدك تهضر راه فيها حقوق ا ل ط ف ل وفيها ما ت ق ي ش … وقيس على دلك.اللهم ارحم ابن خلدون هدا ما نقولوا…
شكرا جزيلا على المقال المفيد