من صفات التعليم الجيد عند ابن خلدون الجزء الثاني
الجزء الثاني
-3-التكرار الأول:
يعتبر ابن خلدون التكرار وسيلة فعالة في التعليم المفيد، إذ الملكة التامة لا تتم بالتعلم في المرحلة الأولى وبالمواصفات المذكورة، بل لا بد من تكرار العلم نفسه مرة ثانية لتعزيز الملكة الجزئية وتقويتها، لكن هذا التكرار لا ينبغي أن يكون حرفيا. التكرار الأول ينبغي أن يشرح ويبيِّن المعلومات العامة البسيطة التي تعرف عليها المتعلم في ما مضى من التعليم. وهذا معناه أن المحتوى الدراسي في المرحلة الثانية ينبغي ألا يكون جديدا كل الجدة، بل عليه أن يكرر المعلومات والمضامين التي تعرف عليها المتعلم في المرحلة الأولى، غير أن هذا التكرار يجب أن يكون متدرجا، أي أن يضيف معلومات جديدة حول مضامين المحتوى في المرحلة الأولى، بمعنى آخر أن يتوسع في عرضها. قال ابن خلدون: » ثم يرجِع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته1″
1-4-التكرار الثاني:
إن التكرار الأول غير كاف لتحقق التعلم الجيد الذي يكسب المتعلم ملكة جيدة في علم من العلوم، فقد حث ابن خلدون على أن يعود المعلم بالمتعلم إلى المحتوى التعليمي نفسه للمرة الثانية، والغرض من هذه المرحلة هو التعمق في التعلم بكشف العويص والمبهم والمنغلق. وعندئذ يستولي المتعلم على الملكة الجيدة، قال ابن خلدون: » ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا منغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله؛ فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته2″. وعليه، فإن اكتساب الملكة العلمية الجيدة عند ابن خلدون لا تتحقق في مرحلة واحدة، أي في زمن وجيز. والأمر الآخر الذي يفهم مما تقدم هو أن تكرار المحتوى ليس عيبا ولا عبثا، بل هو وسيلة فعالة في اكتساب الملكات العلمية وتجويدها، بشرط أن يكون التكرار متدرجا، ينطلق من السابق لتعزيزه والبناء عليه.
إن التكرار عنصر مهم في التعلم عند ابن خلدون، لذلك تجده يكرر حديثه عنه في كل مرة، والتكرار هو الذي يكسب المتعلم الملكات سواء في الصنائع أم العلوم، قال ابن خلدون: » والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالا. ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة3″
ومن غريب ما قاله ابن خلدون في شأن الملكات اعتباره الإعراب والبلاغة، أمرا مكتسبا وما هو بالطبع! وقد فسر ابن خلدون هذه القضية بأن فصاحة العرب كانت نتيجة تعلم واكتساب بالسماع، ثم صارت هذه الملكة كأنها طبع، قال: »…ولذلك يظن كثير من المغفَّلَين ممن لم يعرف شأن الملكات، أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا وبلاغة أمر طبيعي. ويقول: كانت العرب تنطق بالطبع. وليس كذلك، وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلّة وطبع4″
1-5- تجنب الخلط:
يرى ابن خلدون أن التعليم المفيد يجب أن يقتصر على تدريس علم واحد، لأن تعليم علوم كثيرة في آن واحد تخليط لذهن المتعلم، وابن خلدون يرى أن التعليم المفيد ينبغي أن يعلم علما واحدا حتى يحصّل فيه المتعلم ملكة جيدة، لينتقل إلى تعلم علم جديد. و قد فسر مذهبه هذا تفسيرا نفسيا، إذ وضح أن المتعلم حينما ينقطع لتعلم علم واحد يحقق ملكة جيدة، وهذا يشكل دافعا نفسيا قويا لطلب المزيد من العلوم، والعكس صحيح، فإذا اهتم بعلوم كثيرة اختلط عليه الأمر وعجز عن تحقيق التفوق، ومن ثم سينطمس، قال: » ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته…ولا يخلط مسائل الكتاب بغيره حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره » ثم علل قائلا: « لأن المتعلم إذا حصّل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم، وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم5 »
من الواضح جدا أن ابن خلدون يرفض تعليم علوم كثيرة في آن واحد، لأن ذلك ينافي جودة التعلم، والجودة أو التفوق في العلم يعد عنده من الدوافع النفسية للمتعلم كي يقبل على طلب المزيد من العلوم بنشاط وحيوية، وفي نظره لا يمكن للمتعلم أن يحقق الجودة في علوم كثيرة في الآن نفسه، فتلقيه لأكثر من علم يقسم فكره ويشتته، يقول ابن خلدون موضحا هذه المسألة: » ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا، فإنه حينئذ قلّ أن يظفر بواحد منهما، لما في ذلك من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر6″ ثم ذكر نتيجة هذا المذهب التعليمي السيئ: » فيستغلقان ويستصعبان (علمان)، ويعود منهما بالخيبة7″، « وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه، فربما كان ذلك أجدر بتحصيله. والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب8 »
ولعل فكرة عدم الخلط كانت شائعة بين المربين العرب القدامى، قال عبد الدايم: » وينصح المربون المتعلم دائما ألا يخلط علمين في وقت واحد، وأن يتفرغ إلى العلم الواحد حتى يتقنه ثم ينتقل إلى غيره. هكذا ينصح موفق الدين البغدادي الطالب ألا ينشغل بعلمين دفعة واحدة، بل يواظب على العلم الواحد سنة أو سنتين، حتى إذا قضى منه وطرا ينتقل إلى علم آخر، وينادي بمثل هذا الرأي الزرنوجي في كتابه » تعليم المتعلم » وكذلك ابن خلدون9″
غير أن أمر هذا الخلط، يبقى غامضا، فهل يعقل أن يحصل المتعلم على علم في سنة أو سنتين؟ وما معنى ينتقل إلى علم آخر؟ هل معناه أن يهجر العلم الأول نهائيا أو أن يستمر في العلم الأول مع الانشغال بعلم جديد؟
Aucun commentaire