حديث الجمعة: ((وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم))
محمد شركي
من سنن الله عز وجل في خلقه منذ بدء الخليقة إلى قيام الساعة، أن يقع صدام بين المؤمنين به وبين والكافرين على اختلاف أساليبهم في الكفر، وقد جعل وعده للمؤمنين بالنصر على أعدائهم وعدا مفعولا بالرغم مما قد يحدث لهم من هزائم لحكمة يريدها سبحانه وتعالى وذلك من أجل ابتلائهم وتمحيص مدى ثباتهم على إيمانهم.
ولقد ورد في الذكر الحكيم بعض من ذلك الصدام كما هو الشأن بالنسبة لمنازلة طالوت المؤمن لجالوت الكافر، والتي كانت غير متكافئة عددا وعدة، إذ كانت الكثرة لجالوت، والقلة لطالوت، ومع ذلك انتصرت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة بإذن الله عز وجل، لأن النصر لا يكون إلا من عنده لعزته ولحكمته.
وتكرر في الذكر الحكيم ما يشبه نزال طالوت لجالوت، حيث نازل النبي صلى الله عليه وسلم ـ وكانت معه القلة المؤمنة عددا وعدة ـ كفار قريش في غزوة بدر الكبرى ـ وكانت معهم الكثرة الكافرة والمشركة ـ وهو ما يؤكد تكرار هذه السنة الإلهية في الخلق إلى قيام الساعة. ومما سجله الوحي عن هذا النزال الذي كان له ما بعده قوله تعالى: ((ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون))، ففي هذه الآيات الكريمة ذكرٌ لنصر الله عز وجل المؤمنين يوم بدر على ما كانوا عليه من ذلة سببها قلة عددهم وعدتهم، وفي ذلك امتنانه عليهم سبحانه أوجب شكر هذه النعمة، وفيها أيضا ذكر لما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه الذين كانوا منشغلين بقلة عددهم وعتادهم مقابل كثرة عدد وعتاد الكافرين. ولما كانت الطبيعة البشرية تميل إلى اعتبار كثرة العدد والعدة في النزال مؤشرا على الغلبة دائما، فقد وقر في نفوس المؤمنين يوم بدر ما وقر في نفوس بعض من كانوا مع طالوت والذين قالوا: ((لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)) إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت قلوبهم بذكر المدد الملائكي المنزل والمسوّم من عند الله سبحانه وتعالى، فكان وعد الله تعالى أول الأمر هو إمدادهم بألف من الملائكة، وهو العدد الذي كان يساوي عدد الكافرين، ومزيدا من تثبيتهم زاد الله تعالى عدد الملائكة المنزلين، فصاروا ثلاثة آلاف، ثم زاد عددهم إلى خمسة آلاف مسوّمين، كناية عن شدة بأسهم، وكانت النتيجة خميسا أي جيشا بمقدمة، وميمنة، وميسرة، وساقة، وهو الجيش الأعظم والأقوى بهذه التشكيلة المنيعة.
وذكر الله تعالى أن ذلك الإنزال الملائكي كان بشارة للمؤمنين بنصرهم من أجل تثبيتهم، وما كان انتصارهم إلا نصرا من عند الله عز وجل، وليس من الملائكة لأن العزة صفة الله تعالى، وهو ينصر من يشاء، ويفعل ذلك لحكمته، ووفق إرادته ومشيئته.
ولقد ذكر الله تعالى ما أراده بالنصر الذي نصر به المؤمنين يوم بدر، وهو أولا قطع طرف من الكافرين، وكان هذا الطرف هم سادة قريش وصناديدهم ممن كانوا أشد عداء للإسلام، وثانيا أصاب الغم والكمد طرفا آخر منهم انقلبوا منهزمين خائبين، وثالثا كان وعد منه سبحانه بتوبته على طرف آخر سيجعل فيهم دعما للمؤمنين، ورابعا توعد طرفا آخر بعذاب يصيبهم بسبب ظلمهم. ومما جاء في كتب التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجو الله عز وجل أن يهلكهم جميعا، إلا أن حكمته سبحانه وتعالى اقتضت غير ما كان يرجوه عليه الصلاة والسلام لهذا خاطبه ربه سبحانه بقوله: ((ليس لك من الأمر شيء)) أي إن الأمر كله بيد الله عز وجل يجريه وفق إرادته قتلا، وهزيمة، وتوبة، وعذابا.
وإذا ما كان سبب نزول هذه الآيات الكريمة هو غزوة بدر الكبرى، وكانت العبرة في كلام الله عز وجل بعموم لفظه لا بخصوص سبب نزوله، فإن إرادة الله سبحانه وتعالى وحكمته من كل نزال يكون بين عباده المؤمنين وهم أذلة بسبب قلة عددهم وعدتهم إذا ما اتقوا وصبروا مع الكافرين على كثرة منهم عددا وعدة، تكون نهايته بشارة النصر للمؤمنين الذي هو من عند الله عز وجل وحده يجريه وفق إرادته وحكمته. ولا يُسأل عن كيفية تحققه، فما تحقق منه يوم بدر قد يتكرر، وقد يحصل غيره بما لا علم لأحد به إلا الله عز وجل.
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بما قرره الله تعالى في محكم التنزيل من حصول نصره لعباده المؤمنين وهم أذلة بسبب قلة العدد والعتاد على أعدائهم الكافرين شريطة أن يكونوا من المتقين الصابرين.
وما أحوجنا اليوم في هذا الظرف العصيب إلى هذا التذكير، وأرض الإسراء والمعراج تشهد نزالا عنيفا بين أهلها وبين من احتلوا أرضهم، ودنسوا مقدساتهم، وقتّلوهم، وهجّروهم، وأسروهم، وقد شجعهم على ذلك من يؤيدونهم، ويدعمونهم بالعتاد، وفي المقابل هم دائما ساكتون على جرائمهم، ويغضون عنها الطرف، ويعطلون القرارات المتخذة ضدهم في المحافل الدولية، الشيء الذي جعلهم يتمادون في ظلمهم وطغيانهم، وهو ما جعل أصحاب الحق المهضوم ينتفضون ويثورون انتصارا لمقدساتهم المدنسة باستمرار ولكرامتهم. وأمام قوة المحتلين العسكرية، ودعم الغرب لهم دون حدود أو شروط قد يدب بعض اليأس إلى نفوس بعض المؤمنين، فيفل ذلك من عزائمهم، ويرددون مقولة من قالوا: ((لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده))، وهي مقولة تستوجب التذكير بقوله تعالى: ((وما النصر إلا من عند الله))، ومقولة الفئة المؤمنة الثابتة ممن كانوا مع طالوت، وهي: ((قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)). ومهما تكن نتيجة هذا النزال الدائر اليوم فوق أرض الإسراء والمعراج، فإنه يقال لمن يتكهن بنتائجه ما قاله الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((ليس لك من الأمر شيء)) لأن الله تعالى فعّال لما يريد وهو القائل: ((إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)) صدق الله العظيم.
اللهم إنا نسألك النصر القريب لعبادك المؤمنين في أرض الإسراء والمعراج، ونحن على يقين أن وعدك حق، وأنه ناجز لا نرتاب في ذلك أبدا، وأنه بشارة منك نحمدك عليها الحمد الكثير الذي يليق بعظمتك وجلالك. ونستغفرك من كل ذنب يحول بين استجابة دعائنا، ونبرأ إليك منه.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
Aucun commentaire