الحاجة الماسة لتخليق الحياة المدرسية
لقد اقتضى التعثر الذي لحق قطاع التربية والتعليم في بلادنا خلال عقود متتالية التفكير في مشاريع إصلاحه ، وكان آخرها ما سمي ميثاقا وطنيا للتربية والتكوين، وهو ميثاق لم يحقق هدفه لسوء تقدير أو تخطيط أو تدبير، فكانت محاولة ما يسمى بالخطط الاستعجالية ، ولا يكون الاستعجال إلا حيث تكون الحاجة ماسة والوضعية محرجة. والوضعية المحرجة لقطاع التربية والتعليم هو انعدام فائدته مقابل ما يتطلبه من تكاليف مما يسبب خسارة فادحة للوطن. وفائدة هذا القطاع تتمثل في ما سميته في مقال سابق : المردودية ، وهو مفهوم شامل عكس ما ظن البعض ممن يحصرون مفهوم المردودية في نطاق ضيق لا يعدو أنشطة تعليمية تعلمية ، والحقيقة أن المردودية بمفهومها الشامل تعني كل ما يدره قطاع التربية والتعليم من أرباح تعود على الوطن بالنفع. وأهم عنصر في المردودية هو العنصر البشري إذ يمثل محور المردودية ، وعنه تصدر باقي المردوديات ، فإن صلحت المردودية البشرية صلحت باقي المردوديات .
وعندما يكون المنتوج البشري جيدا في قطاع التربية والتعليم لا يضير بعد ذلك ألا تكون باقي المنتوجات دون الطموحات.
وأعتقد أن من أولويات الخطط الاستعجالية لتدارك إفلاس قطاع التربية والتعليم التركيز على العنصر البشري الذي هو رأسمال الأمة ، والذي لا بديل ولا عوض له. وبقاء الأمم رهين ببقاء عنصرها البشري ، وبقاء العنصر البشري رهين بنوعيته ، والنوعية تصنع صناعة كما قال الله عز وجل في حق عبده ورسوله موسى عليه السلام : [ولتصنع على عيني ] بمعنى لتربى تحت رقابتي ورعايتي.
والنوعية البشرية تصنع بالتربية ، والتربية أساسها التخليق ، والتخليق مشتق من الخلق بضم الخاء واللام ،وهو في تعريف أهل اللغة الطبع والسجية والدين ، وهو الصورة الباطنة للإنسان والتي تقابل صورته الظاهرة التي تسمى الخلق بفتح الخاء وتسكين اللام. وصورة الإنسان الظاهرة تتفاعل جدليا مع صورته الباطنة. وصناعة الإنسان بالمفهوم القرآني هي توفير التناغم والانسجام بين صورة هذا الإنسان الظاهرة والباطنة. والله عز وجل لما صنع موسى عليه السلام جعل ظاهره عبارة عن بنية قوية ، وهي بنية قال فيها عز من قائل : [ القوي الأمين ] فقوة الظاهر في موسى عليه السلام ناسبتها قوة الباطن من أجل حمل دعوة الإيمان القوية في زمن كفر قوي.
فإذا كنا بصدد البحث عن خطط استعجالية لتدارك ما يمكن تداركه ، فأولى أن نتدارك أبنائنا في ظاهرهم وباطنهم ، ونصنعهم صناعة توفر الانسجام بين ظاهرهم وباطنهم.
فعندما نستعرض أسس ومبادئ منظومتنا التربوية نجد الإسلام هو المرجعية المهيمنة ، بمعنى أن الصناعة من الضروري أن تكون إسلامية بحيث يكون ظاهر أبنائنا إسلاميا منسجما مع باطنهم ومتناغما معه. والواقع أننا أمام منتوج بشري يطبعه التناقض الكبير بين ظاهره وباطنه بحيث لا يوجد القدر القليل المطلوب من الانسجام بين الظاهر والباطن. فأبناؤنا بحكم تقليعة التقليد التي تسير في البشر سير النار في الهشيم تغيرت مظاهرهم الخارجية سواء تعلق الأمر بألبستهم أم بطرق تصفيف شعورهم ،ومعالجة سحناتهم. فالمتأمل لظاهر شريحة عريضة طويلة من أبنائنا المتمدرسين لا يمكنه أن يجزم بتاتا بوجود لمسة إسلامية ولو عابرة في هذا الظاهرـ المتغرب ـ إن صح التعبير بامتياز. ولعل الظاهر الغربي يعكس باطن يتمثل في انصهار اليهودية في النصرانية مع وقف التنفيذ بالعلمانية. وقد صار ظاهر بعض أبنائنا كظاهر أبناء الغرب شبرا بشبر بل صار ضبنا كضبهم ، وصار التناقض بين باطن من المفروض أن يكون إسلاميا ، وبين ظاهر تمحض لليهودية والنصرانية الموقوفة التنفيذ بالعلمانية. ولقد وقعت ناشئتنا في هذا التهجين بسبب تافه هو تقليعة التقليد التي روجت لها أفكار باطلة من قبيل العولمة التي تطمح لاستنساخ نموذج بشري وفق وصفة واحدة و وحيدة تقصي باقي النماذج من مختلف الثقافات والمعتقدات. وآفة هذه الفكرة الضالة أنها لم تفكر في احتمال أن تكون الوصفة خاطئة ـ وأعتقد أنها كذلك ـ لتكون النتيجة كارثية بالنسبة للكائن البشري حيث تنقرض باقي الوصفات وفيها الصالح دون شك فيصير من المستحيل استرجاع ما انقرض بعد ذلك.
لقد صارت مؤسستنا التربوية تستقبل بضاعة بشرية تم تصنيعها في البيوت والأحياء والشوارع حيث لا رقابة على نظام العولمة الإعلامي ، وحيث تقليعة التقليد تنشط بقوة ، وصارت هذه المؤسسات التربوية معطلة التصنيع بل تحولت إلى مجرد رافد من روافد تكريس تقليعة التقليد حيث يجد أبناؤنا عند بعضهم البعض فيها ما لم يتوفر لهم في البيوت والشوارع ووسائل الإعلام . فما إن لطخ بعض أبنائنا شعورهم بمادة الجيل حتى سرى تلطيخ الشعور بهذه المادة سريان النار في الهشيم ، وبدت رؤوس أبنائنا طلعها كأنه رؤوس الشياطين وقد صففت الشعور على هيئة أشواك القنافد ، وصار القزع أهون من التقنفد إن صح التعبير ـ ويجب أن يصح ـ واختزلت أشعار اللحى في خطوط لا تبارح عظمة الفك الأسفل. والتصقت الألبسة بالأجساد التصاقا حتى كشفت ما لا يكشفه إلا العري. ولا ترى الآذن إلا وقد حشيت بسماعات الآلات الإلكترونية الموسيقية من كل الأصناف وكأنها الوقر، هذا بالنسبة لفحولنا. أما بالنسبة لبناتنا فقد جعلهن اللباس المجسم المشابه للباس الفحول الموصوف سابقا مسترجلات ، وفعل حلق الشوارب فيهن فعلته ، وشوه التنميص الحواجب ، وأزهقت الأصباغ والألوان الخلقة والطبيعة ، وصرنا أمام مخلوقات غربية كتلك التي كانت تعرض في أفلام الخيال العلمي لتقريب صورة المخلوقات الغريبة من طبيعتنا البشرية ، ولو قدر لمن شاهد تلك الأفلام في الماضي ثم مات قبل هذا الزمان أن يبعث لظن أن المخلوقات الغريبة من عالم الفضاء قد ركبت صحونها الطائرة وحلت بين ظهرانينا. ولقد كانت الوزرة كساء يلبس فوق اللباس ليصونه ويعطي الانطباع بأن من يلبسه ينتمي لمؤسسة تربية وعلم فإذا به يصير من قبيل اللباس الداخلي أو لباس الاستحمام ، ويلبس فوقه المجسم من اللباس ، وإذا ما سأل المربي عن الوزرة أشارت لابستها من بناتنا إشارة إلى ما لا يشار إليه من مواطن العفة بلا حياء ولا خجل ولا وجل.
ومقابل هيئة مخلوق الفضاء الخارجي أو مخلوق الصحون الطائرة التي صار عليها أبناؤنا وبناتنا نجد أخلاقهم لا صلة لنا بها لا دينا ولا تاريخا ولا عادة ولا عرفا بحيث لا يقرع الآذان سوى الكلام النابي الساقط داخل الفصول وفي حرم المؤسسات ومداراتها ، فلا ينادي أبناؤنا بعضهم بعضا إلا بالطعن في أنسابهم من خلال قذف الأمهات بالفجور، ولا يغيب من خطابهم ذكر السوءات في كل عبارة يتلفظون بها ، ولا يهدد الواحد منهم صاحبه إلا بتهديد الاعتداء الجنسي عليه وعلى أمه وبألفاظ بذيئة بذاءة لا قبل لنا بها.
ولعل ذكر الغيض يجزي عن ذكر الفيض من هذه السلوكات المشينة التي يستنكرها الكل ولا يحرك أحد ساكنا لمحاربتها.فالآباء والأمهات يخرج من بيوتهم أبناؤهم وبناتهم بهيآتهم المقرفة ، ويصل إلى آذانهم خطابهم الوقح ولا يحركون ساكنا ولكنهم لا يترددون في نعت المؤسسات التربوية بكل نعت مشين ولا يترددون في الإنحاء باللائمة عليها وتحميلها مسئولية فساد أبنائهم الذين استنسروا بل استأسدوا عليهم وتدربوا فيهم على سوء الأدب مع غيرهم من المربين وعامة الناس في الشوارع والطرقات.
لقد بات من أوجب الواجبات التفكير المستعجل في تخليق الحياة المدرسية ، ومن خلال خطة شاملة ينخرط فيها المشرعون أولا عن طريق تحيين التشريعات التي تنص على التزام السلوكات الأخلاقية المسايرة لدين البلد وعقيدته ، و المنفذون من خلال تحيين وتفعيل المذكرات التنظيمية الخاصة بكل ما له علاقة بالأخلاق سواء تعلق الأمر بالهندام أم بغيره من الممارسات التي تعكس الأخلاق داخل وفي محيط المؤسسات التربوية.
ولعل مردودية صناعة جيل بأخلاق مرجعيتها الدينية هي الإسلام أفضل من مردودية تعليمية تعلمية بلا أخلاق. فالتعلم هو وسيلة العلم، والعلم في الاعتقاد الإسلامي نور، والنور لا يستقر في غير الصدور المخلقة بأخلاق الإسلام.
إنه لمن المؤسف المحزن أن نقف آباء وأمهات ومربين عاجزين أمام أبنائنا وبناتنا، وأمام الجهات المسئولة عن تدهور منظومتنا الخلقية التي مست منظومتنا التربوية. والاستعجال في الإصلاح إنما يكون في الأخلاق لأن الأمم هي الأخلاق ما بقيت كما قال الشاعر، وذهابها يكون بذهاب أخلاقها، وذهاب أخلاق الناشئة اليوم هو زوال الأمة غدا. لقد أسمعت من كان حيا، وأعوذ بالله من قول لا حياة لمن تنادي.
3 Comments
أتقدم إلى الأخ محمد الشركي بأحر التهاني على توفقه في اختيار موضوع تربوي جد حساس وكذا كيفية مناولته منهجيا واصطلاحيا ولغويا باعتماده أسلوبا ثاقبا ومعبرا، وأضيف تعليقا انطلاقا من مما ورد في المقالة: « صورة الإنسان الظاهرة تتفاعل جدليا مع صورته الباطنة »إذا كان الإقرار صحيحا إلى حد ما فإن الغالبية العظمى لتلامذتنا هم خشينو السلوك والمعاملات والتعامل مع أنفسهم وذويهم وأساتذتهم وزملائهم، بل يمكن القول أن لا سلوك لهم ولا أخلاق ولا تربية تتجلى في الانضباط وحب الآخر وحب الخير والتعاون والتضامن وغير ذلك من الصفات الحميدة. فهل تجرد تلامذتنا من هذة الصفات الحسنة كون مظهرهم أصبح خشنا بفعل ما يقدمون عليه من تشوهات خلقهم وهندامهم. إن كان الواقع هو فعلا ما تعريه ممارساتهم ، فما هي الأسباب الكامنة وراء سكوت رجال ونساء التربية والآباء والأولياء والسلطات المسؤولية؟ فلماذا لم يتصد المدير والحارس العام والناظر والمدرس والموجه وكل مسؤول عن التربية وحسن الخلق، باعتماد القانون الداخلي للمؤسسة التعليمية والقوانين الناظمة والضابطة للحياء العمومي، لمحاربة هذه الممارسات الدالة على سوء الخلق؟
إذا علمنا أن الدول النامية الغربية على الخصوص تحارب هذه الممارسات المشينة التي تمس الأخلاق ، فلماذا أصبح المسؤولون بمؤسساتنا التربوية وغيرها يغضون الطرف عنها ويتركوا التلاميذ لأهوائهم؟ وهل تؤثر هذه الممارسات سلبا في العمل المدرسي والمردودية المدرسية وتحول دون تحقيق هؤلاء التلاميذ نتائج مؤهلة؟ إن الظاهرة تستوجب دراسة عميقة
فقط أود تصحيح مُسَلّمَةٍ أصبحنا نؤمن بها وهي في غاية الخطإ كون الغرب أو الدول النامية وأساليبها تعد آية في التطور والنماء، نظن وبكل يقين أن الغرب فشل فشلا ذريعاوما زال يتخبط في مشاكل أخطر وأعقد من عنف وإجرام مسلح بل أصبحت الحملات الإنتخابية تركز كل ثقلها على السلامة والأمن داخل المؤسسات.
رأينا الطلبة الصينيين أكثر تقليدا للطلبة الأمريكيين في كل ما هو متعلق بقشور التحضر، إذ يفاجؤونك بانتمائهم لمعتقداتهم ولهويتهم الصينية من خلال سلوكيات وممارسات تعكس فلسفة »كومفشيو » أو الزعيم « ماو » أكدناها في تعليق آخر أن إصلاح العملية التعليمية ليس من اختصاص التربويين وحدهم بل هو مشاركة لفاعلين من كل القطاعات والجلوس في طاولة واحدة وطرح المشاكل، ثم تبني خطط عمل متبوعة ببيان توضيحي فور انهاء اللقاءات وتفعيلها، لامركزية القرارات في إطار خصوصية المناطق التعليمية. مازلنا نعيش صراعا مع الذات من نحن؟ ماذا نريد؟ التربية هي تربية القدوة،وسوف نضل نعيش هذا النقاش العقيم عن تدهور وضع مجتمعناونجتر المعلومة لأجيال لأن خطاباتنا لم تلج الخطاب العلمي الذي فيه التحليل النقدي لم أشرك معي طلبتي في طرح أسئلة عن الدين الإسلامي ومعانيه السمحة وعن أخلاق الرسول (ص) بأدوات علمية بحتة.
هنا يضع المدرس قرطا على أذنه وآخر في أنفه ولا أحد يحاسبه، ومدرس آخر يعرفه الجميع أنه لوطي، ومدرسة أخرى « يسمونها « السحاقية » لأنها تعيش مع واحدة من طلبتها ثم يقولون إنه بلد ديموقراطي مفعم بحقوق الإنسان.
جزاكم الله خيرا على نواياكم الحسنة
يعكس المقال صورة امينة لواقع شبابنا في المدارس والمعاهد،وهو واقع مزر مريض.اعتقد ان مقاربة هذه الظواهر تحتاج الى فحص شامل لبنية المجتمع ككل وفي كافة المجالات،وما نراه في المدارس هو انعكاس لما انتابنا وتقبلناه من مظاهر الحداثة الخادعة المستوردة،والتي صار عقلاء منابعها يشتكون مما انتجته في مهدها،وان اولى علامات التحلل والانهيار قد بدأت مع تخلي الحاكمية عن تقويم السلوك ودرء الاعوجاج،كان ذلك يوم حذفت شرطة الاخلاق من الشوارع والحارات،ويوم قيل ان المدرسة للتعليم لا للتربية،يوم رفع شعار حقوق الانسان ولو كان في ذلك اعتداء على حقوق الغير …الخ .ان مجتمعا مريضا في صحته الخلقية والقيمية لا يمكن ان يفرز الا ما نراه وما لا نراه وهو ادهى وأمر،اننا في حاجة الى استعادة تلك المقومات التي لولاها لما كان لأمتنا ذكر بين أمم الأرض ،وان المطمح شريف والغاية نبيلة ولكن كيف يتسنى اعادة بناء الهوية ونحن في خضم متلاطم لا نقوى على مصارعة امواجه؟