حديث الجمعة:((بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون))
حديث الجمعة:((بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون))
محمد شركي
لقد ربط الله عز وجل عبادة المؤمنين بآصرة متينة هي علاقة الأخوة، فقال سبحانه وتعالى في محكم التحكيم : (( إنما المؤمنون إخوة )) ،هكذا بأسلوب حصر مانع لاحتمال وجود آصرة أخرى تجمعهم غير علاقة الأخوة .
ولقد اختار سبحانه وتعالى لهم هذه العلاقة لأنها علاقة نموذجية إذا ما قيست بباقي العلاقات من زمالة أو صداقة أو جوار… أو غيرها من العلاقات التي تنعقد لأسباب وقد تزول بزوالها أو تضمحل مع مرور الزمن .
ولما كان الإسلام وهو الدين عند الله عز وجل الذي لا يقبل عنده سبحانه وتعالى دين غيره ، فإنه منزه عن الزوال والاضمحلال، ومن ثم لا يلحق العلاقات الناشئة عنه زوال أو اضمحلال. ولقد جعل الله سبحانه وتعالى علاقة الأخوة في الدين كعلاقة الأخوة في الرحم تأكيدا لمتانتها وحرمتها ، ذلك أنه ما يلزم في الأخوة في الرحم يلزم أيضا في الأخوة في الدين وأكثر بحيث قد يوجد ما يفرق بين الإخوة من الرحم كأن يؤمن بعضهم ويكفر آخرون، فتنفصم عرى أخوتهم الرحمية في حين لا انفصام لعرى الأخوة في الدين .
وعلاقة بمثل هذه المتانة والقدسية قد جعل لها الله عز وجل ضوابط تضبط معاملات الإخوة في الدين فيما بينهم والتي قوامها المحبة والرحمة والاحترام والتقدير … إلى غير ذلك مما يجعلها محل تقديس لأنها مما تعبدهم به رب العزة جل جلاله .
والقرآن الكريم يتناول بالحديث في أكثر من سورة هذه العلاقة ، ومجموع ما ذكر فيه عنها يعطينا منظومة أخلاقية متكاملة الدقة تحكم هذه العلاقة صيانة لها من كل ما يمكن أن ينال منها أو يبتذلها .
وسنقتصر في حديثنا لهذه الجمعة من تلك الضوابط على ما جاء منها في سورة الحجرات التي يعتبرها أهل العلم سورة تشريع خاص بالأخوة في الدين .
والملاحظ في ما ورد في فاتحة هذه السورة أنها افتتحت بالنهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله ، وهو نهي يصون الانحراف عن تعاليم الدين الذي لا يقام ولا يستقيم إلا بالسير على هدي الله سبحانه وتعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم وعدم تجاوزه باتباع الأهواء واعتمادها بديلا عن شرعه سبحانه وتعالى .
وبعد ذلك انتقلت السورة إلى الحث عن التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه تأدب مع الله عز وجل ، وعنه ينشأ التأدب مع غيرهما من عباد الله المؤمنين الذين يرتبطون بأخوة في الدين ، وهو في الحقيقة تأدب مع هذا الدين . ومباشرة بعد ذلك يأتي الأمر بالتبيّن فما يخص استقبال أخبار تصدر عن أصحاب الفسوق ،فتكون لها عواقب وخيمة على آصرة الأخوة في الدين وعليه أيضا ، والحث على كراهية الفسوق مع الكفر والعصيان مقابل نشدان محبة الإيمان الذي يزينه الله عز وجل في قلوب الإخوة المؤمنين ويحبّبه إليهم.
وتستعرض السورة بعد ذلك نماذج من الفسوق الذي قد ينشأ بين الإخوة في الدين منها البغي الذي يتسبب في الاقتتال فيما بينهم، وقد منعه الله تعالى وعالجه بالإصلاح بينهم عن طريق رد الباغين منهم عن بغيهم بعدل وقسط إكراما للأخوة التي تربطهم .
ومن الفسوق أيضا شيوع السخرية بين الإخوة، فيكون فيهم ساخر ومسخور منه ، وهو خروج عن ضوابط الأخوة حيث يظن الساخر بنفسه كمالا واستقامة مقابل ظنه بغيره نقصانا أو عيبا واعوجاجا مع أن علاقة الأخوة تجعلهم متساوين كأسنان المشط لا تتقدم سن على أخرى كي يؤدي المشط دوره كما ينبغي وإلا لم يسم مشطا . وما ينتج عن فسوق سخرية البعض من البعض الآخر غضب المسخور منهم من الساخرين انتصارا لكرامتهم المبتذلة ، الشيء الذي يولد عداوة وبغضاء بينهم تهدد أخوة الدين في الصميم ، ومن ثم تهدد الدين نفسه .
وتستعرض السورة أشكالا من السخرية تتمثل في اللمز، وهو ذكر العيوب الخلقية بفتح وضم الخاء ، كما تتمثل في بالتنابز بالألقاب المستكرهة التي تنال من الكرامة وقد كرم الله تعالى عباده ونزههم عما يحط من شأنهم وهم على دين الإسلام تربطهم أخوة بسببه .ومن أجل صرف الإخوة في الدين عن سلوك السخرية المشين من لمز وهمز وتنابز بالألقاب ذمه الله عز وجل بقوله تعالى : (( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون )) ،الشيء الذي يعني أن الإيمان لا يجتمع مع الفسوق في قلوب المؤمنين . وهذه الصيغة المستعملة للذم في اللسان العربي تدل على شناعة فعل الفسوق، ومن ثم تدل على التشديد في منعه وتجريمه وتحريمه ، ويعتبر الفسوق عند الله تعالى بكل أشكاله ظلما ، والظلم هو وضع الأمور في غير ما وضعت له الشيء يسبب اختلالها وفسادها .
ومما نهت عنه السورة أيضا سوء الظن ،وهو شكل من أشكال الفسوق ، يفضي إلى الظلم ، وقد حذرت من كثير منه لأن بعضه يكون إثما أو ذنبا أو خطيئة أو سوءا . ولمّا كان بعض الظن إثما، فإن تنكبه يقتضي اجتناب الكثير منه حذر الوقوع في الآثم منه وهو فسوق .
ومن عجيب أنواع الفسوق التي أشارت إليها سورة الحجرات أن بعضها يشد برقاب بعض كما يقال ،ذلك أنه قد تكون أول خطوة في سلوك طريق الفسوق هو الظن الآثم الذي يكون سببا في السخرية بالمظنون بهم سوءا بشكل من أشكالها لمزا أو همزا أوتنابزا بالألقاب …أوغير ذلك مما يسلك من طرق في السخرية . ومن الظلم أن يساء الظن بالإنسان لتعريضه للسخرية بشكل من الأشكال بناء على الظن السيء الذي يسلبه حقه من الاحترام والتقدير والتوقير ، فتمتهن كرامته الإنسانية ، ويهضم ما توجب له الأخوة في الدين من حقوق.
ومن الفسوق المنهي عنه أيضا في هذه السورة التجسس، وهو اختلاس النظر أو السمع أو هما معا لاقتحام ما لا يحق اقتحامه مما يخفى من أحوال الناس أو أوضاعهم بغرض أو نية النيل منهم إما إيقاعا بهم أو سخرية منهم أو الوقوع في أعراضهم اغتيابا أو بهتانا وزورا . ولقد قرب الله تعالى معنى شناعة التجسس من خلال صورة مقرفة تتمثل في أكل الأخ لحم أخيه ميتا، وهي صورة من الشناعة والقبح والتي تتقزز منها النفوس .
وتشكل أنواع الفسوق المذموم في هذه السورة بأسلوب الذم (( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان)) خطا أحمر كما يقال لصيانة الأخوة في الدين ، وهي لا تصان إلا بمنظومة أخلاقية يختزلها بدقة ما نهى عنه الله عز وجل في بعض آيات هذه السورة التي لا تسع تفصيل القول فيها إلا مجلدات ضخمة .
مناسبة حديث هذه الجمعة ،هو استفحال واستشراء وشيوع ظلم الفسوق بكل أشكاله وأنواعه بين المسلمين ، خصوصا الأنواع المنهي عنها في سورة الحجرات ، وقد ساهم في انتشارها على أوسع نطاق سوء توظيف واستعمال وسائل التواصل الاجتماعي التي وفرتها تكنولوجيا التواصل التي قطعت أشواطا بعيدة في التطور .
وغالبية الناس والمسلمون من ضمنهم يقعون في أخطاء سوء استخدام تلك الوسائل التي كان من المفروض أن تقتصرعلى التواصل الهادف، ونشدان مختلف المنافع التي تتحقق بواسطتها إذا ما أحسن توظيفها واستعمالها . ولقد سيطر الاستعمال العابث لهذه الوسائل على معظم الناس ، وتحولت من وسائل نافعة إلى وسائل ضارة خصوصا عندما يستعان بها على الفسوق الذي يعتبر في دين الإسلام ظلما شنيعا .
ولقد أضحت السخرية بين المسلمين بعضهم من بعض سلوكا مهيمنا وعملة رائجة بينهم إذ يستقبلون كل لحظة تمر بهم كمّا هائلا من أنواع السخرية عبر وسائل التواصل المرئية، والمسموعة، والمرسومة، والمخطوطة، ويتفاعلون معها ويسجلون إعجابهم بها عبر أشكال من التعابير كأشكال وجوه ضاحكة أو عبر إشارة أصابع تدل على الاستحسان أو بتكرار حرف الهاء « هههه » هكذا الذي يستعمل تعبيرا عن السخرية والضحك، فضلا عن أساليب أخرى دالة على استحسان فسوق السخرية بكل أنواعها من تتبع للعورات والعيوب ،ولمز وهمز ، وتنابز بالألقاب …
ولقد أصبح الناس يقتحمون على بعضهم البعض ستائرهم ويصورون أحوالهم بعدسات هواتفهم المحمولة وهم لا يشعرون ثم يسوقونها على أوسع نطاق عبر وسائل التواصل بغرض السخرية التي نهى عنها الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم دون وخز من ضمير ، أوازع من دين أو خلق . وإنهم ليقعون كل لحظة في فسوق السخرية متعمدين وعن سبق إصرار ويعتبرونه هينا وهو عند الله عظيم.
ومن الناس من تربوا في أوساط عائلية فاسدة التربية ، فشبّوا على سلوك السخرية والضحك من غيرهم ومنهم من شابوا على ذلك، وترهلوا ولمّا يقلعوا عنه بل راكموا ظلم الفسوق في سجلات سيحملونها معهم إلى آخرتهم تنوء بها كواهلهم ، ويدفعون مقابلها ما في جعبهم من حسنات إذا ما اقترفوا منها شيئا لأن جرائم الفسوق حالقة تحلق الحسنات ، وتجعل أصحابها مفلسين إفلاسا في الآخرة أخطر من إفلاس المال في الدنيا . وإن هؤلاء لا يقبلون النصح بالتحلل من فسوق السخرية من الغير بل قد يعادون من ينصحهم بذلك وينهاهم عنه ،ويقاطعونه مع أن لهم مندوحة عن السخرية بنصح يقبلونه، وينصحون بدورهم ممن يسخر منهم بإصلاح ما يعاب عليهم إذا ما وجد فيهم ما يجعلهم ضحايا الفسّاق الواقعين في أعراضهم بالسخرية والاستهزاء واللمز والهمز والتنابز . ومن أشنع أنواع السخرية مع أنها كلها شنيعة، السخرية من الصفات الخلقية بفتح الخاء للناس، وهي من اختيار الله عز وجل ومن خلقه وحسن صنعته وإبداعه ، وهوالذي أبدع سبحانه في جمال صور بني آدم تكريما لهم وصيانة لهم من كل ابتذال لكن الساخرين يعيبون ما لا يجوز أن يعاب من خلقه وصنعته وإبداعه سبحانه وتعالى .
ولعل أدنى مراتب الفضيلة، وحسن الخلق أن يستر المسلم على المسلم عيوبه ، وأعلاها أن يهديها له ، وهي خير ما يهدى حتى لا يكون عرضة للسخرية ولكن يجب أن يكون ذلك بأسلوب لا ينال من كرامته ،ويكون بناء على ما في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من استقامة ، وهو ما يتسع له صدره لأنه من نصح الله تعالى ونصح رسوله صلى الله عليه وسلم وهو نصح لا يضيق منه صدر مؤمن . ومن أهدي إليه عيبه، ولم يقبل الهدية، فهو أول الساخرين من نفسه وأول المسيئين إليها، لأنه يجعلها عرضة لسخرية الساخرين . والساخر عيبه هو السخرية نفسها
،فإن نبه إلى عيبه هذا ،ولم يرض به، ولم يقبل النصح بتصحيحه لتنكبه كان بدوره موضوع سخرية، وحاق به عيبه ، ومعلوم أن كل ضحكة بضم الضاد وفتح الحاء يكون بالضرورة أضحوكة أو يجعله الله كذلك عقابا له على فسوقه وظلمه بتعاطي السخرية من الناس.
ومن أنواع الفسوق الشائع في المسلمين وقد نهوا عنها فضلا عن فسوق السخرية ،فسوق سوء الظن، وفسوق الاغتياب ، وفسوق التجسس وما ينتج عن ذلك من زور وبهتان بأساليب وأشكال كثيرة ومختلفة استرعى مؤخرا انتباه الرأي العام الوطني منها ما نشره أحد العلمانيين على موقع من مواقع الشبكة العنكبوتية يعرّض فيه ببعض المسلمين المطالبين بفتح المساجد المغلقة بسبب جائحة كورونا افتراءا عليهم واتهاما لهم بنية مبيتة لنشرها تآمرا منهم على البلاد والعباد قيادة وشعبا على حد قوله طاعنا ومشككا في دينهم ووطنيتهم ، وقد وافقه بعض المعلقين على مقاله من خلال تعليقاتهم التي ذيلوه بها، وتابعوه فيما افتراه بهتانا وزورا وهو يحمل وزر فسوقه وأوزارهم فيما سن لهم من فسوق علما بأن المساجد وحدها هي التي تلتزم توصيات الحجر كاملة دون غيرها من المرافق التي تتحول غالبا إلى بؤر للوباء بتجاهل توصيات الحجر دون أن تنتقد أو ينتقد ما يطالبون بفتحها والجائحة في عز انتشارها . ومثل هذا الفسوق كثير تتناقله وسائل الإعلام المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، الشيء الذي يقتضي التوبة وبراءة الذمة منه لأنه ظلم ، والظلم ظلمات يوم القيامة وساء حملا .
اللهم إنا نعوذ بك من فسوق بعد إيمان ، ونعوذ بك من الوقوع في ظلم الفسوق مهما كان نوعه ، ونعوذ بك من أن يستزلنا الشيطان وقبيله من الإنس والجن لإيقاعنا في إثم الفسوق وظلمه . اللهم بصرنا بعيوبنا واسترها علينا ، وقيض لنا الناصحين من عبادك المؤمنين الذي يهدون لنا عيوبنا وجازيهم عنا خير الجزاء . اللهم وفقنا لحسن عبادتك وطاعتك . اللهم إنا نعود بك من كل وسيلة أو سبيل يفضي بنا إلى الفسوق . اللهم تجاوز عنا ما اجترحنا منه عمدا أو سهوا .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تنويه : المرجو اعتماد هذه الصيغة من حديث الجمعة لأن الصيغة الأولى التي أرسلت إليكم سابقا تضمنت بعض الأخطاء المطبعية ولكم جزيل الشكر مع الامتنان.
Aucun commentaire