حتى فيل أبرهة لم يقل أحد بأنه لم يكن موجودا
أحمد الجبلي
تخيلوا معي لو قلت للجيل الذي ولد بعد سنة 1999 أن الملك الحسن الثاني لم يكن موجودا، فمن المؤكد أن هذا الجيل سيجد أمامه ملايين الناس الذين سيشهدون بأن الملك الحسن الثاني كان موجودا وحكم المغرب طيلة ثمان وثلاثين سنة، كما باستطاعتهم أن يحكوا لهذا الجيل كل شيء عن الملك الراحل بشكل يجعلهم لا يحتاجون إلى وثيقة تاريخية تثبت وجود الرجل لعلمهم بأن شهادة ملايين من الناس تعد أقوى من رسم الولادة نفسه، حيث أن رسم الولادة يمكن تزويره كما يمكن تزوير أي وثيقة تاريخية مكتوبة. كما تم فعلا تزوير العديد من الأحداث التاريخية خصوصا منها المتعلقة بالأمة الإسلامية.
ثم إن جيل 1999 سينمو ويكبر وسيعاصر جيل الحجة الذي روى أحداثا عاشها زمن الحسن الثاني، ثم سيأتي بعده جيل 2010 وهو نفسه كجيل سيعاصر نفس جيل الحسن الثاني وسيتلقى نفس المعلومات حيث كثر الرواة بانضمام جيل 1999 إلى جيل المعاصرة الذين عاصروا الملك الحسن الثاني، ولكن حتما سيبدأ هذا الجيل في التناقص عن طريق الوفاة، ولكن في نفس الوقت ستأتي أجيال أخرى في الوقت الذي يكون جيل المعاصرة قبل أن يفنى نهائيا قد أسس له قاعدة ملايينية من الذين سمعوا عنه مشافهة كل ما يتعلق بحياة الحسن الثاني، وقبل أن يموت آخر جيل الرواية تكون أجيال كثيرة قد تلقت الخبر عن طريق التواتر حيث يستحيل تواطؤهم على الكذب.
كما أن من المهم أن نذكر أن الأجيال تتداخل فيما بينها بشكل عجيب حيث يمكن الحديث عن جيل سيولد سنة 2000 وجيل سيولد سنة 2001 وجيل ثالث سيولد سنة 2002 وجيل رابع سيولد سنة 2003 وهكذا ستتداخل الأجيال بشكل يجعل الخبر طريا لا يموت في ذهن وعقول الأجيال كلها.
وربما ما يقال عن الراحل الحسن الثاني يقال عن العديد من الشخصيات التاريخية والمعاصرة سواء كانت هذه الشخصيات عربية أو غير عربية، سواء كانت مسلمة أو غير ذلك، فنحن كجيل الستينات نعرف بما لا يدع مجالا للشك وجود رئيس أمريكي اسمه جون كيني قد تم اغتياله سنة 1968، كما أننا نعلم، علم اليقين، حتى لو لم نكن موجودين خلال القرن الماضي بأن عبد الحميد الثاني هو آخر سلاطين الأمبراطورية العثمانية، كما نعلم بأن الأمبراطورية العثمانية لم تكن رجلا مريضا ولا كان السلطان عبد الحميد الثاني كذلك، لأن كل الذين عاصروه حكوا ونقلوا جميع الحقائق والأحداث التي حدثت أثناء تكالب الأمم الغربية على الأمبراطورية العثمانية، بمعنى أن عبد الحميد الثاني لم يكن رجلا مريضا بل هو من قام بإدخال زعماء الغرب إلى مستشفيات الطب النفسي، ولحد الآن لازال أبناء وأحفاد هؤلاء وأبناء من عاصرهم على قيد الحياة يروون تفاصيل المكر والخبث والدسائس التي تعرضت لها الدولة العثمانية على يد الغرب وأذنابه. كما أن مذكرات العديد من القادة والسياسيين لا زالت تقرأ إلى اليوم بما فيها مذكرات السلطان عبد الحميد وابنته شادية وبعض قادته السياسيين.
فإذا كان التواتر ونقل الأجيال لخبر الأجيال وتوارثها لها عملا طبيعيا ومن شأنه أن يحفظ الأخبار والأحداث والسير، فماذا سيكون الأمر لو كان هناك مؤرخون ثقات يؤرخون لكل مرحلة من مراحل التاريخ، وقد كان لكل دولة مؤرخوها، وماذا سيكون الأمر كذلك إذا تعلق برسول هو آخر الرسل وأفضلهم على الإطلاق. ثم يتم التخلي عن تدوين تاريخ أهم مرحلة من مراحل أعظم أمة وهي أمة أمرت بتقييد العلم بالكتابة.
نعم كانت أمة أمية أول الأمر لكن بعد نزول الوحي أصبحت أمة تقرأ وتكتب بل وقد أمرت أمرا بأن تدون وتكتب وتؤرشف لنفسها وحضارتها وإلا كيف يمكن لنا أن نفهم قسم الله تعالى في ثاني سورة نزلت بعد »اقرأ » وهي {نون والقلم وما يسطرون}. أي إنه من العيب أن يقال بأننا أمة لا تملك أرشيفا ولا تاريخا ولا سيرا لأهم أبطالها ومؤسسيها.
إن العرب في الجاهلية قد أرخوا لخيلهم، فحفظوا أسماءها وأنسابها، أي كانت لهم أشجار النسب للخيل لحبهم لها واهتمامهم بها، فهل كان ممكنا ألا تحفظ أنسابها وهي التي تعاني من حساسية في النسب، وأكبر عار الإنسان العربي أن يشعر بأنه غير معروف النسب، ومن أشد الهجاء الذي قد يتعرض له الإنسان العربي أن يطعن في نسبه. فما بالك بنسب أهم الرجال الذين حفظوا هذا الدين ومكنوا له، فأرخ لها المسلم والكافر الرومي والفارسي.
التاريخ يتحدث عن ما قبل الميلاد ويتحدث عن آدم عليه السلام وعن تطور البشرية، كما يتحدث عن التطورات التي عرفتها الكرة الأرضية بعد طوفان نوح عليه السلام والذي اعتبر عبارة عن عملية تحديث للأرض وتطهيرها من الكفر لإعطاء فرصة جديدة للإنسانية كي تعبد خالقها.
إن أهم ما يميز التاريخ الإسلامي هو تأسيس المسلمين الأوائل لعلم الرجال، وهو علم لم تعرفه أي حضارة من الحضارات القديمة ابتداء من الحضارة السومرية، فعلم الرجال أشبه بعلم المخابرات في عصرنا، حيث لا يمكن أبدا لرجل يتحدث في الدين أن لا يعرف نسبه ومولده ووفاته وصدقه أو كذبه سهوه أو ضبطه بل وتعطى له مواصفات دقيقة حتى يعرف بها فإما يؤخذ كلامه أو يترك، بل إن من علماء الحديث كالبخاري قد ترك آلاف الأحاديث لم يروها لرجل فيه نظر، مجرد نظر، فالأحاديث التي يتم تدقيقها وفق علوم صارمة ومناهج منضبطة هي بوجه من الوجوه تأريخ لأحداث وتسجيل لأقوال وسير للرجال.
لقد دونت الأحداث التي وقعت في الجاهلية، كما دون بشكل دقيق تعرض مكة المكرمة لغزو أبرهة ومحاولته لهدمها، وقد تحدث القرآن الكريم عن الفيل وحادثة هدم الكعبة، كما دون القصة ابن إسحاق وابن هشام والطبري وابن الأثير ولم ينكر أحد وجود الفيل،
فإذا كان مجرد حيوان قد استعمل في معركة قد تم تسجيله في التاريخ، قبل البعثة النبوية، فهل يعقل أن تكون أعظم الشخصيات الإسلامية التي اعتبرت من أركان التأسيس لهذا الدين مجرد شخصيات وهمية؟ هذا لم يقل به حتى المستشرقون المعادون للإسلام، بل إن مايكل هارت عندما درس التاريخ وشخصياته المؤثرة وضع شخصية عمر ابن الخطاب من ضمن الشخصيات الخمسين الأولى الأكثر تأثيرا وأثرا، فكيف يأتي رجل مستواه الدراسي التاسعة ابتدائي ويضرب عرض الحائط تاريخا عريقا قد دونت فيه حتى الأصابع التي يستعملها الإنسان حين يدخل الخلاء ويختلي بنفسه؟
Aucun commentaire