الرفعة والضعة رهينان بتقدير القرآن الكريم أو إهماله
مما أثر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قوله : » إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين « وهذا الحديث الشريف يختزل حال الأمة الإسلامية اليوم حسب قربها أو بعدها من كتاب الله عز وجل . فمن المعلوم أن البشرية عاشت فترات تاريخية طويلة تتخبط في حيرة سببها غموض قضية الإنسان الوجودية . وقضت البشرية أزمنة طويلة تعاني من جراء البحث عن فك رمز هذه القضية . واجتهد الفلاسفة والحكماء والكهان وكل من له علاقة بالفكر والبحث من أجل الوصول إلى حقيقتها ، وانتهوا إلى حلول خاطئة لم تشف غليلا إذ جعلوا لهذا الكون أصولا تافهة تراوحت بين ماء أو هواء أو عدد أو حجارة أو كواكب أو أوهام ،وما إلى ذلك من مخلوقات واضحة المخلوقية أو حتى مخلوقات وهمية بدون وجود حقيقي . وتدارك الله عز وجل البشرية فطوى لها مسافة البحث عن حقيقة وجودها فأخبرها بذاته المقدسة التي هي علة الوجود ، وكشف لها أسرار الوجود ، والغاية منه ، وحدد لها وظيفتها من أجل سعادة زائلة وأخرى أبدية .
وتداولت الأمم عبر العصور رسالة الله عز وجل للبشرية بألسنة مختلفة ،ولكن بمضمون واحد يكشف لغز قضية الإنسان الوجودية . واختتمت رسالات الله عز وجل بأكمل الرسالات ، وهي رسالة القرآن الكريم الذي خص به الله عز وجل البشرية قاطبة بعدما كانت رسالاته تقتصر على أمم بعينها . وجاء خطاب الله عز وجل لأكرم إنسان الرسول المبعوث للإنسانية جمعاء صلى الله عليه وسلم : (( ألر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد )) . ومن جملة ما يوصف به هذا الكتاب صفة الذكر. و من ضمن دلالات الذكر أنه نقيض النسيان .ومن المعلوم أن آفة الإنسان الكبرى هي النسيان . وكانت مشكلة الإنسان الوجودية الأولى هي نسيان العهد بينه وبين خالقه كما جاء في القرآن الكريم : (( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما )) علما بأن العهد عند الله عز وجل مسؤول لقوله عز من قائل : (( وأوفوا بالعهد إني العهد كان مسؤولا )). فآفة النسيان في الإنسان هي سبب المعصية البشرية الأولى ، وهي سبب كل المعاصي البشرية بعد ذلك ، لهذا اقتضت حكمة الله عز وجل أن تكون رسالاته عبارة عن ذكر لمواجهة آفة النسيان . والله عز وجل جعل لكتابه المتضمن للذكر وظيفة الهداية . ولما كان الإنسان أعلق وألصق بواقعه المادي المحسوس الملموس فقد قرب الله تعالى منه مفهوم الهداية عبر إدراكه المحسوس من خلال استعارة الظلمات للضلال ، والنور للهداية . فالإنسان قد لا يستسيغ كيفية هداية كتاب الله عز وجل أي القرآن له وهو مجرد كلام ، ويستغلق عليه فهم تأثير هذا الكلام في الواقع .
والله عز وجل يقرب منه ذلك عبر طريق المحسوس عندما يذكر الظلمات والنور. فالإنسان يعرف الظلمات والنور من خلال تناوب الليل والنهار ، ويدرك الفرق بينهما حيث يكون عرضة للمخاطر في الظلمة ، ويأمن على نفسه في النور. وحين يستوعب هذا المعنى المحسوس فإنه يسهل عليه استيعاب المعنى المجرد فيعرف أن الضلال يعرضه للمخاطر ،والهداية هي سر نجاته من خلال مقارنة بين الظلمة المادية والظلمة المعنوية ، وبين النور المادي والنور المعنوي. وأسلوب الله عز وجل في إقناع خلقه هو الانطلاق من واقعهم المادي المحسوس من أجل الوصول بهم إلى الواقع المعنوي المجرد ، أو بتعبير القرآن الكريم من عالم الشهادة إلى عالم الغيب . وقد كشف الله تعالى عن هذا الأسلوب بقوله جل من قائل : (( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )) فالظلمات والنور في عالم الشهادة أفقان من الآفاق المحيطة بالإنسان لهذا يثبت الله تعالى للإنسان حقيقته الوجودية من خلال هذين الأفقين . ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى دقة التعبير القرآني الذي أشار إلى الظلمات بصيغة الجمع بينما أشار إلى النور بصيغة الإفراد لأن الظلمات متعددة والنور واحد . ففي القرآن إشارة إلى الظلمات المادية كما هو الشأن في قوله تعالى : (( أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها )) فالظلمات في البحر اللجي متراكبة بعضها فوق بعض الشيء الذي يحجب الرؤية حتى أن جارحة اليد القريبة من جارحة العين لا تكاد ترى شيئا من شدة تراكب الظلمات. وفي هذا دليل على تعدد الظلمات مقابل انفراد النور. ومما يؤكد تعدد الظلمات أيضا قوله تعالى: (( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث )) وهي ظلمات متراكبة أيضا كظلمات البحر اللجي إذ تكون الأجنة في أكياس ، والأكياس في الأرحام ، والأرحام في البطون وكلها ظلمات. وعلى غرار تراكب الظلمات المادية في أفق البحر اللجي أو أفق بطون الأمهات تتراكب ظلمات الضلال بحيث قد تتعدد معاصي الإنسان فيهم على سبيل المثال بجريمة السرقة فيرتكب من أجل ذلك جرائم أخرى كالقتل أو هتك الأعراض ….
لهذا كانت ظلمات الضلال متعددة بتعدد أحوال أصحاب الضلال ، بينما نور الهداية واحد ولا يكون حال أصحابها إلا واحدا. ويبين الله عز وجل كيفية إخراج القرآن الكريم الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم في قوله جل من قائل : (( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )) فمصدر اختلاف الناس تضارب مصالحهم في هذه الحياة وتعارضها . فلو أنهم احتكموا في تدبير مصالحهم إلى أنفسهم أو إلى شرائع أهوائهم لكانت مصالحهم عرضة للضياع بسبب تعارضها وبسبب ميل شرائع الأهواء إلى تغليب بعضها على بعض ، لهذا جعل الله تعالى شرعه حكما بين الناس لفض الخلافات بينهم بعدل وقسطاس. ومن هنا نتبين أهمية حضور القرآن الكريم في حياة الناس لأن هذه الحياة لا يمكن أن يخاض غمارها دون شرع من خالقها الخبير العليم بما يصلحها وما يفسدها. ومن رحمة الله عز وجل بالخلق شرعه الذي يفض في كل اختلاف بينهم مصداقا لقوله تعالى : (( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم )) فمن رأفة ورحمة الله عز وجل بالناس القرآن الكريم الفاصل بين خلافاتهم في مختلف معاملاتهم وإلا صارت حياتهم جحيما لا يطاق بسبب اختلاف مصالحهم ومسايرة أهوائهم لاختلافها مما يولد شرائع متضاربة ومتناقضة قوامها الأهواء وليس الحق والعدل .
وأكبر خطر يتهدد الإنسان هو آفة النسيان كما مر بنا لهذا حذر الله تعالى منها في قوله عز من قائل : (( استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله )) فاستحواذ الشيطان الرجيم على الإنسان إنما يكون عن طريق ركوب آفة النسيان المتأصلة في هذا الإنسان. والتعبير القرآني هنا أيضا من الدقة بمكان فالاستحواذ عمل الحوذي الذي يسوق الدواب وهو عبارة عن غلبة وسيطرة إذ يسيطر الشيطان على الإنسان تماما كما يسيطر الحوذي بالزمام على الدواب ويسوقها كما يشاء ، وتنقاد له مرغمة . وليس من قبيل الصدف أن يأمر الله عز وجل الناس باتخاذ الشيطان عدوا في قوله عز من قائل : (( إن الشيطان لكم عدوا فاتخذوه عدوا )) ومعلوم أن عداوة الحسد هي أقبح وأخطر العداوات ، ووسيلة أخطر عدو هي ركوب آفة النسيان كما فعل بأول إنسان ليخرجه من الجنة حسدا من عند نفسه . وهدف الشيطان الرجيم هو صد الإنسان عن الذكر مصداقا لقول الله عز وجل : (( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله )) فدأب الشيطان أن يوقع العداوة بين الناس في مختلف أحوالهم ومعاملاتهم، ذلك أنه على غرار ما يوقعه بينهم من عداوة في الخمر والميسر يوقع بينهم نفس العداوة في مختلف المعاملات والأحوال ، وذلك بصدهم عن الذكر وجرهم إلى نسيانه. ومن العقوبات التي تلحق الإنسان المعرض عن القرآن الكريم اقترانه بالشيطان مصداقا لقوله تعالى : (( ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين )) فالله عز وجل إنما يقرن الأعشى عن القرآن بالشيطان كما يقرن الإنسان عادة بين ثورين في نير واحد فيسوق أحدهما الآخر في نفس الاتجاه ، والله تعالى يعقب على هذا الاقتران يقوله : (( ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا )) لأنه إنما يسوقه ويجره إلى المعصية التي وقع فيها وقد جمعهما نير واحد أو قران واحد.
ومن طرق استدراج الشيطان للإنسان نحو آفة النسيان حمله على الانشغال بالأموال والأولاد فوق الحد المشروع الذي شرعه اله عز وجل ، وهو أمر حذر من الله عز وجل أيضا في قوله عز من قائل : (( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون )) إن الخسارة الحقيقية في ميزان الله عز وجل هي أن ينشغل الإنسان عن القرآن بالأموال والأولاد. فحين ينصرف الإنسان كليا إلى أمواله وأولاده يظن أنه يصونهما ، والحقيقة أنه يخسرهما لأن القرآن إنما وجد ليصون هذه الأموال ، وهؤلاء الأولاد بكيفية معلومة في شرع الله عز وجل. ومهما حرص الإنسان على أمواله وعلى أولاده فلن يبلغ حرصه عليهما حرص الخالق جل وعلا ، ولهذا فالخسارة تكون فادحة عندما تحظى الأموال والأولاد بالأهمية على حساب الاهتمام بالقرآن الكريم . وقد أشار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مفهوم الخسارة والربح في حياة الإنسان باعتبار حضور أو غياب القرآن في حياته ، وذلك في الحديث المشار إليه في فاتحة هذا المقال وهو قوله عليه السلام : » إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين » فمفهوم الرفعة والضعة إنما يكون باعتبار حضور أو غياب القرآن الكريم في حياة الإنسان. ولنا دليل في أفق من آفاقنا من خلال حال شارب الخمر على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر. فشارب الخمر ضعته ملموسة في واقع الناس حيث تزدريه الأعين ،ويسخر منه الناس ،وهو يسير ثملا مترنحا، وقد هانت عليه نفسه وكرامته فابتذلها بالكشف عن سوءاته ،وحاز اللعنة وهو يتبول أمام أعين الناس ،أو يفوه بالكلام النابي القذر بسبب فقدان وعيه وهو سكران، فيصغر في أعين الناس حتى بعد استرجاع وعيه بعد سكره. فهذا نموذج من يضعه الله عز وجل بالقرآن لأنه لم يحرم ما حرم القرآن. وعلى غراره يقاس كل من عشا عن القرآن أو هجره فيكون مصيره الضعة . وخلاف ذلك أن كل من أبصر القرآن وأحضره وحكمه في حياته حاز الرفعة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
وأخيرا لا بد من العودة إلى واقع حال المسلمين اليوم مع القرآن لتسجيل غفلة كثير من الخلق المحسوب على الإسلام عن القرآن الكريم ، حتى وقر في نفوس كثير من الناس أن القرآن هو شغل طائفة من الناس ، وأن سواد الناس لا يعنيهم في شيء ،مع أنه من ضروريات الحياة التي لا مندوحة عنها.. والقرآن ليس شغل المساجد وحدها ، ولا هو شغل حفظة كتاب الله عز وجل بل هو شغل كل من ينتمي لدين الإسلام، لأن المسلم لا يمكنه أن يخوض غمار هذه الحياة دون وجود القرآن ،ودون تحكميه في كل شؤون الحياة وهو الذي يتضمن شرع الله الخبير بمصالح العباد . وقيمة المسلمين إنما تتحدد بقدر حضور القرآن الكريم أو غيابه من حياتهم. فعندما نتأمل قيمة القرآن في حياتنا نصدم بالنتيجة المؤلمة وهي بعدنا بمسافات فظيعة عن القرآن لأننا في الغالب نحكم شرائع أهوائنا في حياتنا عوض تحكيم شرع خالقنا سبحانه. فالأمة التي تضيق من بناء المساجد وتؤثر عوضا عنها المصانع كما يتردد ذلك عادة على ألسنة البعض من الذين لا يعنيهم القرآن في حياتهم أمة تختار الضعة على الرفعة. والأمة التي لا تنفق مالا وجهدا ولا وقتا من أجل أن يكون القرآن حاضرا في حياتها أمة تختار الضعة عوضا عن الرفعة. والأمة التي يكون فيها حافظ كتاب الله عز وجل في أدنى درجات السلم الاجتماعي بحيث يقل أجره عما يسمى الحد الأدنى للأجور أمة تختار الضعة بامتياز لأنها لو كانت تقدر بالفعل القرآن الكريم في حياتها لرفعت من شأن حفاظه ولم تجعلهم عرضة للهوان من خلال إفقارهم. وأنا أتساءل كم هو أجر الرهبان والأحبار عند اليهود والنصارى الذين يقرؤون التوراة والإنجيل حتى لا نقول يحفظونهما كما يحفظ حفاظنا كتاب الله عز وجل عن ظهر قلب مقابل أجر الحفاظ عندنا؟ ولقد روى لي أحد الفضلاء حكاية تعكس الضعة التي تلحق الغافلين عن القرآن ومفادها أن أحد الحفاظ عندنا قضى عمرا طويلا يؤم المصلين ويقرأ عليهم القرآن بثمن بخس دراهم معدودة لا تزيد عن الخمسمائة درهم شهريا . ولما قهره الفقر رحل إلى بلاد النصارى ولم يجد عملا سوى رعي قطان الخنازير بنفس الثمن الذي كان يؤم به المصلين ولكن ليس شهريا بل يوميا. ولما بلغ خبره إلى من كان يؤمهم عاتبوه ولاموه فكان جوابه أنهم ضيعوا القرآن الكريم بإفقار حافظه فأوجب الله تعالى لهم الضعة فصارت الخنازير أولى منهم بالحافظ راعيا لها لأن الله تعالى يرفع بالقرآن أقواما ويضع به آخرين فبلغت ضعة الذين أفقروا حافظهم درجة دون درجة الخنازير .
ومن غرائب ما بلغني أيضا أن حافظا من حفاظنا حاصره الفقر فهاجر إلى دولة خليجية فلم يطب له بها مقاما، فعاد ليجد نفسه محروما من صلة بسيطة كانت الوزارة الوصية عن الشأن الديني تصرفها له ليعيش منها لعقود من السنين . ولما طالب بها وقد عاد إلى ممارسة عمله بأحد المساجد، قيل له إنك قد هاجرت دون إذن الوزارة ولا حق لك في الصلة بعد الهجرة حتى لو أنك عدت لشغب منصبك، وكـأنه عاد من دولة الخليج ببئر من البترول يدر عليه الأرباح . إن أمة فيها مثل هذه الحكايات المؤلمة أمة لا تقيم شأنا للقرآن الكريم ، ولا ترغب في رفعة يرفع الله عز وجل بها من يهتم بكتابه الكريم . فمتى سيصير لهذا الكتاب شأن عندنا ؟ ومتى سنهتم بمن يحفظ هذا القرآن ونصون كرامته تقديرا للقرآن الكريم ولمنزل القرآن الكريم رب العالمين جل شأنه على أشرف المرسلين صلى الله عليه وسلم ؟، ومتى سيرفعنا الله عز وجل بالقرآن ؟ بعد ضعة الله وحده أعلم بأوان زوالها وقد علقت بنا منذ زمن بعيد ، وجعلتنا عبرة لأمم الأرض .فاللهم لطفك بنا يا رب العالمين .
Aucun commentaire