نافذة على رمضان :الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم من التكوين النصي إلى تعدد النظام اللغوي.
سورة الفاتحة نموذجا : ج1
1-مدخل عام :
لاتمثل سورة الفاتحة مفتتحا كريما لكتاب الله عز وجل فحسب ، ولكنها أيضا مفتاح إعجازي، يكشف الحجب البيانية عن أسرار النسيج اللغوي الجميل، المتناغم مع النسيج الكوني البديع، المتبدي في السنن والآيات والأنظمة المصممة ،كنظام التكرار والتشابه، والدوران والتناسخ ،والانشطار والتناسل ، والزوجية والتعاقب ؛ليحقق المعادلة المعجزة : « صناعته مثل صياغته سبحانه « …
من هنا فنص السبع المثاني،يشكل مدارا لمتن السور المائة والثلاث عشرة سورة ، تطوف حوله العوالم كما تطوف الكواكب حول نفسها وبعضها: عالم الغيب وعالم الشهادة ، وعالم الخلق وعالم الأمر… كما تدور حوله المضامين الأساسية في القرآن الكريم : مضامين العقيدة ،والعبادة ، والمعاملات، والأحكام ،بشكل مصمم بدقة متناهية ، يكشف عن وجوه جلال الولوج، وتعقد البنية ،وتداخل الأنظمة اللغوية…التي تسمح بانفتاح المعنى ،واستيعابه لاختلافات عقول المتلقين عبر الأزمنة ،واقتحام عوالم لامتناهية الانكشافات النصية .
2- خصوصيات سورة الفاتحة :
تعتبر سورة الفاتحة من أعظم سور القرآن الكريم، فهي تشكل البنية الأساسية للخطاب الإلهي، نظرا لما تحمله من تكوينات نصية ، يتماهى عددها مع عدد آياتها السبع. بينما تمثل السورالمائة والثلاث عشرة ،البنى المتمفصلة المؤطرة للنص الأساس. يقول تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم » الحجر 87/15 .أول سورة يتولى المولى عز وجل تحديد عدد آياتها؛ لحكمة سامية ،ومقصد شريف ، يندرج في تكوين الإعجاز العددي ،وتربط الآية 15 من سورة الحجر السورة بواو العطف، الذي يفيد الجمع والاشتراك مع القرآن العظيم ؛ فكأنها تعادله ، وتتسمى باسمه ،ولاتجوز أية صلاة إلا بتلاوتها ، وهذا يؤكد عدة حقائق :
1- إن السورة بنية إطار للنص القرآني، تشتمل على كل شروط التعاقدالديني، بين الخالق الرحمان، رحمة شاملة تستوعب كل المخلوقات،وتطال الدنيا والآخرة ، والرحيم رحمة خاصة بعباده المتقين، تطال الآخرة ، مما يجعله سبحانه، جديرا بالاستعانة البشرية، والاسترحام والاستهداء؛ لأنه صاحب الملك والملكوت، القادر وحده على تسخير الأمور، وقضاء الحوائج … وبين مخلوق يقتضي إنعامه المتدفق، الإتيان بواجبات استتباعية كالإخلاص في العبادة، والتوكل عليه وحده ، والاستهداء ،وطلب تبيين السبيل العابرللصراط المستقيم ، المفضي إلى إسباغ النعم… بواسطة صيغة الجمع » نعبد » نستعين » للدلالة على الاستجابة للأمر،و الالتفاف حول إله واحد، يحيل على مصدر واحد للوحي ، وعلى جوهر واحد للديانات السماوية.
2- ترتبط السورة الكريمة عضويا بباقي السور ،عن طريق عدة ارتباطات كالارتباط التفصيلي، مثلا على نحو ما نلحظ بين سورة البقرة وآية المغضوب عليهم، حيث التحليل المسهب لأسباب الغضب الإلهي على قوم سيدنا موسى عليه السلام، ومن لف لفهم من الأمم من قبل ذلك وبعده ،وكارتباط سورة آل عمران بآية الضالين، إذ تتولى الكشف عن مظاهر الضلال الذي مس عقيدة قوم سيدنا عيسى عليه السلام، ومن سار في فلكهم ، وكارتباط الآية » أنعمت عليهم » بسورة النساء الآية : 4 ، التي حصرت المنعم عليهم في النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين حيث تنبئ بمرحلة الصديقية التي خلفت مرحلة النبوة …وكارتباطات الدليل ،و المرسل، والمرسل إليه، و الرسالة…
3- ترتيب السورة الأول في المصحف الشريف ، وكلماتها 31 كلمة، وحروفها 139 حرفا ، ومكيتها ،و عدد آياتها السبع ،كما تصرح الآية 15 من سورة الحجر له رمزيته المقدسة ،المحيلة على موجودات في عالم الخلق والأمر،مثل سبع سموات، وطبقات الذرة ،وعدد أيام الأسبوع…
4- التوزيع العادل للآيات يشي بالعدالة الإلهية ، وبقدرة الخالق ، واستغنائه عن الولاء البشري، واستحقاقه للحمد ،فهو مسهل الاستجابة، ومستتبع الشكر على النعم، إذ يخصص ثلاث آيات له سبحانه ،ويشمل عباده بمثلها ،ويجعل الآية : » إياك نعبد وإياك نستعين » نصف نصف، مصداقا لقوله (ص) عن أبي هريرة: » هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل » رواه مسلم. فالعابد يلزمه معبود والمستعين يحتاج إلى مستعان.
ويؤشر هذا التقسيم المقسط ،على ارتقاء العلاقة التي تجمع بين الخالق والمخلوق، المرتهنة إلى ميثاق تعاقدي المؤسس على عدة مبادئ : كحرية الاختيار، التي تستتبع المسؤولية ، واستحقاق الجزاء ، والتمتيع بالحقوق ،والتكليف بالواجبات، قبل المحاسبة.
5- الحضور المحمدي:
الرسول (ص) هو المخاطب » بالكتاب » الذي هو مضمون الآيات المخصصة للرسالة المحمدية داخل القرآن الكريم ، الموجهة إليه (ص) مباشرة ، أو بطريقة غير مباشرة ،على نحو ما نجد في سورة الفاتحة ، حيث المخاطِب واحد، والمخاطَب متعدد، يستوعب شخص الرسول (ص)، وسائر أتباعه من المؤمنين برسالته، جعلهم الله يتلون كلامه سبحانه في صيغة مناجاة وتضرع فيه ذلة ، نيابة عليه كنوع من الإقرار بقبول مقتضيات التعاقد، والإشهاد على الإخلال بمبادئه ، التي تحيل عليها مضامين باقي السور.
*- مضمون الميثاق الديني:
1- ما يخص الخالق :
يستعرض الرب سبحانه في الآيات الثلاث الأولى من هذه السورة الكريمة ، باعتباره متعاقدا، عظمة ذاته، وجلال قدره، وجميل صفاته ،من وحدانية خالصة ، منزهة من القسيم والنظير والشبيه والمثيل ، ومن ملكية ومالكية لكل شيء ،وحاكمية في كل شيء.فهو القادر سبحانه على الفعل، والخلق ، والأمر، وتسخير كل شيء لمخلوقه البشري ،في جميع أحوال طاعته ، وأوضاع عصيانه ، عند إيمانه وكفره ، فهو الهادي إلى الطريق السوي ، والدال على دروب الهداية ومسالك النوربلطف سبحانه . إنه الرحمان الرؤوف بكل مخلوقاته ،والمنعم عليها بفضائله ، التي لاتعد ولاتحصى ، وهي صفة تختص باسم علم واجب الوجود » الله » على سبيل التمام والكمال، وهو الرحيم الذي يخص عباده المتقين برحمته الخاصة بهم في الآخرة ، وهي صفة يشاركه فيها رسول الله (ص) « فهو حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم » التوبة : 128 . لكن في مجال الرأفة والرفق فقط ، لا في مجال الإحسان والإنعام.
2- ما يخص المخلوق :
يعرف الله جل وعلا بعبده محمد (ص) ومن خلاله بكل البشر- بصفتهم المتعاقدين معه- بطبيعة ذات الإنسان الذي سمي بذلك لأنسه ولنسيانه وسقوطه في الخطأ ؛ فهو يحتاج إلى هداية ،وبالبشر لبشرته ؛ فهوبطبعه فقير إلى غنى الله ، محتاج إلى قوته ؛ لذلك هومفطور على العبودية له وحده ؛ليتحرر من كل الجبابرة والصنميات والأهواء…
3- ما يخص الخالق والمخلوق:
تعتبر فاتحة الكتاب بمثابة ميثاق عقدي، ذي مضمون عبادي ومعاملاتي، مؤسس على التنصيص الموجز على علم الأصول ، الذي يبحث في ذاته وصفاته سبحانه ، وعلى علم العبادات وكيفية أدائها ، وعلى علم الأخلاق المتمركز حول موضوع القيمة : » الهداية والاستقامة » ، وعلى مراتب البشر ومنازلهم يوم القيامة ، وعلى النبوات ، والتأسي بقص أخبار الأمم السابقة ، كما يرى الألوسي في روح المعاني ابتداء من ص 36 ؛لذلك يقتضي العدل الإلهي تمتيعهم بحق الحرية والاختيار، نظرا لما يترتب عنهما من تنفيذ للأحكام ، وتقدير لمسؤولية الفعل ،و استحقاق للجزاء وثواب العمل…وسورة الفاتحة حسب الصحابي الجليل أبي الدرداء أفضل من القرآن كله ، نظرا لقطعيتها وإحكامها ، فنورانيتها غلبت الجمال على الجلال ، فجسدت العدل الإلهي في المناصفة الكمية والنوعية بين الإله ومخلوقاته ،وهذا يشكل جوابا مفحما لادعاءات الإرهاب ،المنسوب باطلا إلى الإسلام ، وافتراءات الجبر والتسيير المطلق، المعزى سفها إلى أعدل العادلين، وللدعوات المزيفة والمغرضة كالتساوي في الإرث ،ومنع تعدد الزوجات ، و تشييد المساجد الشاملة، حيث تؤم المرأة بالمصلين ،من الذكور والإناث في صف واحد ، جنبا إلى جنب…
إن سورة الفاتحة تؤكد على أشكال من الروابط كالرابط:
1- الديني :
ويكون في قرب المخلوق وإمداد الخالق، مقابل التوسعة ، والرضى.
2- البلاغي:
ويكشف أنواع حسن التخلص، والارتباطات المختلفة بين سورة الفاتحة وباقي السور ، على المستوى الدلالي ، أو البياني ، أو اللغوي …
3- النصي :
يتميز البناء النصي لسورة الفاتحة بسبعة تكوينات ، تخلق الانسجام مع العدد سبعة ، ومضاعفاته في السورة الكريمة ؛لتجعل نص السورة من سبع طبقات:
1-التكوين الدلالي.
2- التكوين التركيبي.
3- التكوين الصوتي.
4-التكوين البياني.
5- التكوين الإعجازي: العلمي والعددي والتشريعي…
6- التكوين الخطابي : يتبدى في شكل الحضور النبوي : مباشر ، أو غير مباشر ، بالحوار ، أو بالإخبار،بالوعظ ، أو بالتحليل والتحريم.
7- التكوين اللغوي:
ويتضمن القوانين الناظمة للنسيج اللغوي للجملة القرآنية النواة ،أو التفصيلية ، المتشكل من الحروف المشغلة في السورة، وغير المشغلة لحكمة ، ومن الكلمات المباينة ،أو المواطئة ، أو المترادفة ، أو المشتركة ، ومن التراكيب والأساليب، ومن الصيغ اللغوية والفنية ، حيث يحكمها على مستوى اللغة ، قانون المماثلة ، وقانون المخالفة ، وقانون الانصهار. يتبع
Aucun commentaire