نافذة على رمضان :شعرية النص القصصي
قصة نوح والطوفان نموذجا.
الجزء الثاني.
4- القراءة اللسانية
تتميز القصة في القرآن بعدة سمات نصية، تتكرر في كل النماذج المعروضة ، حوالي خمسة وعشرين نصا منها :
1- السرد المزدوج: وينقسم إلى:
أ-السرد المقتضب: أي السرد المركز، القائم على تكثيف المعنى، والاقتصاد في اللغة، واستهداف المعنى المقاصدي بدقة، وأسلوب موجز.يقول تعالى : »إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن انذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم » نوح:1.
ب- السرد المفصل:أي الملتقط للجزئيات والحيثيات والتفاصيل، في امتدادات أخرى للقصة على شكل مقاطع تحمل إضافات مفيدة ، تعزز الانسجام والتمامية بين البنية الإطار والبنى المتمفصلة عنها، وتجيد التسييق بين القصة الوحدة والقصة الأجزاء، وتحافظ على الوحدة العضوية بين متن الوقائع القصصية، ومضمون السور القرآنية المعروضة داخلها بشكل متناه، يحقق قانون الوحدة الكلية:
*- إضافات مقاطع السور لمتن الوقائع في القصة الأصل :
1- سورة الأعراف : 59-64 : تبين مضمون الدعوة والوعيد بالعذاب.
2- سورة يونس : 71-75 : تكشف عن سبب فشل أسلوب الحوار المتأدب، لإقناع القوم بتليين قسوة قلوبهم ،من خلال الشكوى بطول المكابدة في الدعوة ، وتبين أن الجدل كان عقيما تمخض عنه الغرق بالطوفان.
3- سورة هود 47-49 : تبين نجاة نوح، ووصوله مع أتباعه ، وأهله إلى شاطئ النجاة.
4- سورة الأنبياء : 76-77 : تكشف عن دعم الله لسيدنا نوح ،وإنقاذه من أذى قومه ،ومن الغرق بالطوفان.
5- سورة المؤمنون : 23-31 : تصف المعاناة التي وجدها نوح عليه السلام من قومه، الذين اتهموه بالجنون ،وحاولوا التربص به لولا أن نجاه بصنع الفلك، وأمره بالانطلاق في رحلة النجاة عند فوران التنور.
6- سورة الفرقان : 37 : تكشف عن سبب هلاك قوم نوح، الذين حرفوا أصل عقيدتهم ،وكذبوا رسول الله فحق عليهم العذاب.
7- سورة الشعراء :105-122: تنقل بكل حرارة وغصة الجدل الدائر بين سيدنا نوح عليه السلام وقومه ،المتصفين بالكبر والعناد والتعصب ،عندما اشترط عليه أتباعه إخراج الفقراء، ولما رفض الاستجابة هددوه بالرجم، فأغرقهم الله وجعلهم آية في كل زمان ومكان للناس كافة.
8- سورة الصافات : 79-82 : تثني على سيدنا نوح ،الذي أبلى البلاء الحسن في تبليغ الدعوة، فكان بحق من عباد الله المؤمنين، الذين أنجاهم من الطوفان.
9- سورة القمر: 9-15 : تصف الطوفان، وهو ما يطوف بالشيء بسبب شدة السيل والريح والظلام،كما يرى الألوسي، ثم تبين مصدر مياهه ،ودوافع تسليطه ،وكيفية جريان سفينة النجاة والحياة الثانية ،التي جعلها الله ذكرى للعالمين.
10- سورة العنكبوت :14-15 : تحدد بدقة مدة الدعوة إلى توحيد الله، وهي ألف سنة إلا خمسين عاما كما يرى ابن كثير.يضاف عليها خمسون سنة بعد الطوفان كما يرى الألوسي في روح المعاني .
2- الاحتفاء بالحدث الرئيسي وتحليل أبعاده:
تحتفي القصة في القرآن بالحدث القصصي، وتعمد إلى سرده أو الإخبار عنه ،أو إدارة حوار بخصوصه لتسريع وتيرة وقائعه الصحيحة، التي تحمل أبعادا مقاصدية ،تحقق الغرض من الاقتصاص، وهو الاعتبار بالحدث وأخذ القدوة بالتحلي به أو التخلي عن صانعيه ، بعد استبطان دواخلهم ، مثلا الحدث الرئيسي في قصة نوح عليه السلام هو: تكليف الله نوحا لتبليغ رسالة التوحيد ،وهدم قواعد الشرك، بأسلوب الترغيب والترهيب ،والوعد والوعيد. أما أبعاده المقاصدية فتتلخص في:
*- الصبر على نقل الدعوة ،والحلم تجاه سفه المدعوين.
**- الهداية تنتصر على الضلال، والحق يعلو ولايعلى عليه.
***- الحامل الإعجازي لاينتهي، تحرره القصة من داخل متن الوقائع ،على شكل إشارات علمية ،أوعددية أو بيانية بلاغية ، أومحمدية.
****- هيمنة الطابع الإخباري، وتخلله بأسلوب الحوار المتوج بالحجاج:
يغلب على وقائع القصة القرآنية الطابع الإخباري ،الحامل للعبرة بصيغ فنية لغوية، وأسلوبية ،ومشوقة ،ورامزة ،وموجزة، يتخللها حوار موجه بفعل قال يقول قلنا…لتسريع شبكة الأحداث الواقعية، وإقناع المتلقي بواسطة دال التعزيز، أو دال التفنيد ،مثلا في القصة الخبر الرئيسي: » بعث الله نوحا إلى قومه خلال 950 سنة لتبليغ دعوته العجيبة » ثم يتناسل الخبر:
– مباشرته لدعوته بكل الأشكال المؤثرة والمقنعة ، التي تخاطب القلب، والعقل عند المتلقي.
– رفض القوم الاستجابة للدعوة ،وإيذايتهم لصاحبها ،واستهزاؤهم من صنعه السفينة ، واستهتارهم من الوعيد بعذاب الله.
– استعجال سيدنا نوح العذاب ، وتوجيه دعوة خاصة لابنه ، ودعوة الله بإنجاء أتباعه .
يتخلل الإخبار حوار قصير ودال مصدر ب:
– « قال ياقوم إني لكم نذير مبين ».نوح :2
– « قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا » نوح :5
– فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا » نوح :10
يعزز الحوار بحجج نصية وعقلية مقنعة للقارئ المستهدف ،مثل إحاطة رحمة الله التائبين بالمغفرة في كل وقت ، وقدرته سبحانه على خلق الإنسان من نطفة فعلقة إلى تمام الخلق كما يرى الطبري، وتسخيره كل مخلوقاته من سماء وأرض، وليل ونهار…لخدمة الإنسان ،وتلبية حاجياته والتنعم بأفضاله ، ومنحه التي لاتعد…
3- القرآنية أي الجمع بين الآيات:
تقدم القصة وقائعها بواسطة آيات محكمة البناء، تنوع بين الجملة النواة في القصة الأصل، أي داخل سورة نوح عليه السلام، والجملة التفصيلية في مقاطعها الأخرى المكررة ، في تناغم تام بين وداخل باقي السور العشر. إذ تعرض الحدث المتفجر من داخل لغة مجالية ،وتحيل قرائنها على البيئة مسرح الأحداث ،عن طريق متوالية سردية بسيطة ، تحكمها الخطية وحسن التخلص، والانسجام بين الحالات والتحولات. مثال الآية 5 من سورة نوح، التي تمثل القصة الأصل فيها « قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا » تحتوي على جملة نواة تتشكل من : نوح دعا قومه ليلا ونهارا ».وجملتها التفصيلية التي تبين مضمون الدعوة، وشرطها في سورة الأعراف : »فقال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم » :59
أما المتوالية السردية ، فتتمير بالبساطة وتتمظهر في مستويين :
1- مستوى الحالات :
أ- البداية :
*- إرسال الله نوحا لتبليغ دعوته العجيبة.
ب- النهاية :
*- إغراق القوم بواسطة الطوفان ،وإنقاذ المؤمنين الأتباع ،وحفظ زوج من كل نوع حيواني، لتستمر الحياة فوق الأرض.
2- مستوى التحولات:
أ- الحدث:
*- مباشرة نوح للدعوة بصبر وحلم.
ب- العقدة:
*-إذاية القوم لنوح ،والاستهزاء من صنع الفلك، ودعوة الأب ابنه إلى الالتحاق بالسفينة، لكنه يرفض.
ج- الحل:
صنع الفلك بوحي من الله ،استعدادا لليوم الرهيب ،وانتصار رابطة الدين على رابطة القرابة والدم.
4- التنوع الأسلوبي والغنى اللغوي:
تسرد القصة القرآنية الحدث بتفجير اللغة من الداخل ،لتحكي الوقائع والتفاصيل والحذف والقصر، مستعملة لغة منحوتة من صميم البيئة، لتكشف عن طبيعتها وخصوصيتها، لإضاءة مسرح الحدث الديني، بإضاءات مفيدة للمتن القصصي ،كلفظة التنور المحيلة على نار بركان، مما يوحي بأن المنطقة جبلية ،أوأنها تفيد الكانون الذي يعكس مستوى من التفكير يتميز باكتشاف النار، أو نمط من العيش يمارس عند قوم نوح. وكذا لفظتا السفينة والفلك ،اللتان تدلان على أن المنطقة برية لاعهد لها بالبحر .أما الأرض بساطا وفجاجا وسبلا، أي مستوية وخصبة بفضل نهر وادي حضر موت، المتفرع على شكل شجرة ، مما عدد من المعابر والمسالك . بينما الفرق بين السنة والعام، باعتبارهما يؤشران على الإطار الزمني ، في قوله تعالى داخل القصة الفرع في سورة العنكبوت : » ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما » :14 فالسنة تكون شديدة ،كسنوات دعوة سيدنا نوح الشاقة، بسبب عناد القوم .بينما العام فهو يطلق على الرخاء والنعيم ،أي العمر الأول لنبي الله قبل أن يكلف بالرسالة، ثم العمر الثاني في ظلال الإيمان بعد الطوفان.
هذا وإن اختيارات السورة الأسلوبية متجانسة تماما مع متن الوقائع ،الخاضع لخطاطات سردية وحوارية وحجاجية ،تتطلب عرض الحدث والإخبار عن الواقعة ،فكان التنويع في أسلوب الخبر بين الابتدائي والطلبي مثل : »يغفر لكم من ذنوبكم… » نوح :4 « وقد خلقكم أطوارا » نوح :14 .
أما الحوار الذي يتطلب التواصل وتبادل الكلام ،فقد استدعى استعمال اسلوب إنشائي طلبي، وهو النداء : » ياقومي » نوح :2، وتشغيل حروف العطف للدلالة على التقاسم والاشتراك، وعلى توالي الحدث القرآني، مثل حرف الواو الذي يدل على مطلق الجمع، والفاء التي تفيد الترتيب مع التعقيب، وثم التي تفيد الترتيب مع التراخي…بينما في الحوار الدرامي استعمل أسلوب التصوير المشهدي ،على نحو ما نجده في هذا الحوار المؤثر في سورة هود، بين الأب المفجوع على فلذة كبده والابن العاصي المكذب برسالة التوحيد. يقول تعالى : »ونادى نوح ابنه وكان في معزل يابني اركب معنا ولاتكن مع( من) الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. قال لاعاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم .وحال بينهما الموج فكان من المغرقين » هود : 43 ويقوم التصوير المشهدي على الوصف الحسي والنفسي والسردي لتجسيد الحدث الديني بشكل درامي بواسطة مفردات ذات ظلال صوتية ،أو بصرية ،أوتأثيرات نفسية وسيولة عاطفية ، أو ذات طبيعة فعلية حدثية من قبيل : معزل، حال ، الموج، المغرقين، نادى ،اركب معنا ،سآوي، يعصمني …لنقل هول مشهد الطوفان العظيم وهو يلتهم الابن العاق، ولكشف حقيقة العلاقة بين الأب وابنه، وهي الطاعة المزيفة المبنية على ادعاء الإيمان ،وفتور العاطفة تجاه الوالد المنكوب، الذي أشفق عليه الله فأخفى غرق فلذة كبده بالموج، بعدما فصله عن أهل شيخ الأنبياء. أما الحجاج فقد تطلب من السورة توظيف المفعول المطلق للتقرير والبيان والتوكيد ، مثل : » وأسررت لهم إسرارا » نوح : 9 وأسلوب الإثبات بالتأكيد وأسلوب النفي، لتقديم الأطروحة والأطروحة النقيضة، وعرض الفعل ورد الفعل. يقول تعالى : »إني لكم نذير مبين » نوح :2 » مالكم لاترجون لله وقارا » نوح:13 « ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات » نوح : 15
5- خلاصة:
إن قصة نوح عليه السلام تجسيد لأصل العقيدة ،وللانحرافات التي شهد ها السلوك الإيماني عند الآدميين ، بسبب التفكير النفعي الحسي الضيق، وتصوير بديع لأشكال من الطبقيات، التي كانت تنخر المجتمع البشري في دورته الثانية ،كالطبقية الدينية بين المصدقين والمكذبين، والطبقية السلوكية بين المتحضرين المتفهمين والمتأدبين وبين الهمج الأوباش والقساة المعتدين، والطبقية المادية بين السادة الأثرياء الذين يملكون كل شيء والعبيد الفقراء الذين لايملكون أي شيء، وتنضاف لهم في عصرنا هذا ،الطبقية الثقافية والعلمية بين المتحرين لآيات الله في الكون والآفاق والنفس والنص، وبين المنكرين للإعجاز العلمي والعددي والبياني في النص القصصي.
المصادر:
1- تفسير ابن كثير.
2- تفسير القرطبي.
3- جامع البيان في تفسير القرآن للطبري.
4- روح المعاني للألوسي.
5- لسان العرب لابن منظور.
Aucun commentaire