بـداية الـتعليمِ ونهـاية الـتعليـب
تأتي صياغة عنوان هذا المقال على غرار عنوان كتابِ » ابن رشد » الـمُعنونِ بــ » بدايةُ المجتهدِ ونهايةُ الـمقتصد « ، والذي هو كتاب وضعه ليبلغ به المجتهد في هذه صناعته رتبة الاجتهاد… وبهذه الرتبة يسمى فقيها لا بحفظ مسائل الفقه، لو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان، كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي عنده خفاف كثيرة، لا الذي يقدر على عملها. في حين أن عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة. (1) ولعل ما جعل هذا الإختيار ممكنا، هو هذا النوع من الإرتباط في المعنى بين ما سيتناوله المقال هنا، وبين مضمون كتاب ابن رشد، فـكلاهما يصب في نفس السياق نسبياً. يـعاني التعليم بعالمنا العربي من مشاكل ويواجه تحديات كبيرة، فـبرغم محاولات الإصلاح الفاشلة بكل المقاييس، والتي لا تتجاوز كونها أوهاماً إصلاحية لا تضع يدها على الجرح، وتكتفي باستيراد مناهج تعليمية من الخارج ومحاولة إخضاع عقول عربية لها، وهو الخطأ الفادح الذي تحدث عنه قبل الآن الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه » سر تقدم الأمم » حين استنكر فكرة استيراد خطط التقدم من دول متطورة ومحاولة إخضاع شعوب دول أقل تطورا إليها، وذلك ببساطة لأن كل شعب من الشعوب له ميزة خاصة وهي ما أسماها غوستاف بـ » روح الأمة » والتي تشكل جذور الأمة الخالدة التي لا تتغير مع تغير القشور والمظاهر، لذلك لابد من تفادي هذا » النقل » على مستوى الأفكار من أمة إلى أمة، لأن ما قد ينجح مع شعب قد لا ينجح مع آخر، وذلك باعتبار مناعة الشعب وتقاليده وأعرافه التي تشكل هويته الأصلية، أي روحه.
ولعل المشكل الأول الذي يتبادر إلى ذهني الآن، هو مشكل » زرع الرغبة في التنافس بدل روح التميز » لدى التلميذ والطالب. وإذا نظرنا إلى المفهومين ( تنافس / تميز ) لـوجدنا فرقا كبيرا، لأن التنافس إذا غلب على طريقة عمل مجموعة معينة فإنه يجعلها منغلقة على ذاتها ويغلق في وجهها كل محاولة للإبداع والخيال، ببساطة لأن كل ما يفعله المتنافس هو فعل نفس ما يفعله الآخرون، وكأنه في سباق وكل المطلوب الركض بسرعة لتجاوز الأول لا أكثر، فلماذا لا نصل معا للنهاية ؟.
أما روح التميز فتفتح آفاقا كبيرة، ولا يفكر خلالها الفرد بتجاوز الآخرين، كل ما يهمه أن يتميز ويخلق أساليب جديدة في التفكير والتطبيق تتجاوز ما ينهجه الآخر، رغبة في التميز والمعرفة لا الوصول قبل الآخر. وما ينتج عن هذا المشكل هو تـكوين مؤسسات / مصانع تـعليب العقول بدل مؤسسات تعليم، وأنا أكتب هذا يتراءى في ذهني مصنع كذلك الذي يقوم بتعليب الأسماك، فلا يمكن لعلبة / عقل فارغة تمر من هناك أن تملأ بغير السمك ! وهنا نتيجة التنافس واضحة، حيث لا يمكن لعقل تم إغراقه بروح التنافس أن يبدع شيئا خارج موضوع تنافسه، لأنه يكتفي بتقليد الآخرين في زمن يريد أن يكون قياسياً، دون الإلتفات لجودة الإنجاز. وفي المقابل فإن الشركات مثلا، التي ستوظف هؤلاء الأفراد، هي نفسها تتعامل بنفس المنطق، حين تتقدم لاجتياز مقابلة العمل يتم معاملتك كآلة، والتوظيف يتوقف على مدى كثرة المعطيات الموجودة في قاعدة بياناتك، وليس بناء على ما يحمل عقلك من قدرة على الإبداع، هي ثقافة تـشييئـية بامتياز .
ولعل أبرز مثال يمكننا إدراجه هنا، لبيان أوجه النقص في ذلك، هو مثال شرطة « مايكروسوفت » والطريقة التي يتعامل بها بيل غيتس مع من يتقدم لمقابلة العمال، فـبدل أن يجتاز مقابلة واحدة، يجتاز في الواقع أربع مقابلات، وكل مقابلة تتم مع موظف بمستوى مختلف عن سابقه، وحين يتم اجتيازها كلها يقابله بيل غيتس شخصياً، لأنه يقول إنه يريد أن يشارك في اختيار من سيعمل لديه، فيقوم بطرح ثلاثة أسئلة عليه، الأول هو :ما الذي يثيرك ؟ والثاني : كم هي كمية المياه التي تصب في نهر الميـسيسيبي كل يوم ؟ والسؤال الثالث والأخير : هل عملت في شركة أعلنت إفلاسها مباشرة بعد انسحابك ؟ قد تبدو هذه الأسئلة غريبة نوعا ما، وتخالف كل الأسئلة التي تطرح في الشركات العادية، والتي تكون من قبيل : كم سنة اشتغلت في هذا الميدان؟ في أي شركة كنت تعمل ؟ ما هي أرقام هواتف من كانوا يشرفون عليك ؟ بما أنك حاصل على الماستر في هذا المجال، فما كان موضوع رسالتك ؟ إلخ من الأسئلة التي تـهمل بشدة ذلك الجانب الإنساني في الشخص، وتعامله على أساس أنه مجرد وعاء مملوء بـمعطيات يجب أن تكون في المستوى ليتم قبوله، ناهيك عن المظهر الخارجي ! بالنسبة لـغيتس، فإن أسئلته تخفي وراءها كل الحكمة في حسن اختيار الموظف، فهو لا تهمه الإجابات بقدر ما تهمه طريق الإجابة وانفعالات المتلقي. السؤال الأول ( ما الذي يثيرك؟ ) هدفه معرفة مدى طول النظرة التي يحظى بها الشخص، وخياله أيضا، لأن هذا السؤال يقبل أكثر من جواب، وبالتالي يكون في طرحه اختبار لمدى قدرة الآخر على ترتيب أفكاره أو الإندفاع بكل جرأة نحو التعبير.
السؤال الثاني ( كم كمية المياه التي تصب في نهر الميسيسيبي كل يوم ؟ ) ليس هدفه – بالتأكيد – هو الجواب، لأن بيل غيتس نفسه قد لا يعرفه! الهدف منه هو اختبار انفعال المتلقي ومدى قدرته على تدبر الأمر حين يتلقى سؤالا لا يعرف جوابه!
السؤال الثالث ( هل سبق لك أن عملت في شركة أعلنت إفلاسها بعد انسحابك ؟)، هنا قد يتردد المتلقي في الإجابة، ويترنح بين الـ »نعم » والـ »لا »، ويخشى أنه إن قال نـعم لن يتم قبوله، غير أن ما يهم بيل غيتس هو الحقيقة، بل الأكثر من ذلك يفضل أن يكون الجواب نعم ! يقول بيل غيتس بخصوص هذا « أن تكون في شركة ناجحة شيء سهل، ولكن عندما تفشل فإنك تكون مرغما على التفكير بطريقة مبتكرة ومبدعة، تصل بها إلى أعماقك وتفكر. ففي الشركات الخاسرة يجب دائما أن تناقش افتراضاتك. أنا أريد أن يكون من يعملون معي قد مروا بتجارب كهذه. » هكذا إذن يتبين كيف أن بيل غيتس يقدر الفشل، وكما يقال فإنه بدل القول إنني فشلت ألف مرة، يجب علي القول إني اكتشفت ألف طريقة تؤدي إلى الفشل ! فالفشل هو نجاح بطريقة ما، أو بالأحرى هو نصف الطريق نحو النجاح، فلا يمكن أن نتصور ممن لم يفشل في حياته أن يكون قد جرب شيئا جديداً.
خلاصة الأمر أن السر وراء نجاح شركة مايكروسوفت هو عشق بيل غيتس للتميز لا التنافس. يقول كاتب أمريكي : » إن بإمكان آلة واحدة أن تقوم بعـمل 50 من العمال العاديين، في حين لا توجد آلة واحدة تستطيع القيام بعمل عامل واحد غير عادي » وإذا عدنا للنظام التعليمي، فإن المثال الياباني خير مثال للنظام التعليمي الكامل ; فاليابان تعتمد على » عقلية الوفرة » التي تقر بأن هناك الكثير من الموارد الطبيعية والبشرية التي لم يتم اكتشافها بعد، وبأن نجاح أحد الأشخاص لا يعني بالضرورة فشل الآخرين، وهذا ما يشير إليه ستيفن كوفي في كتابه » العادات السبع لأكثر الناس فعالية « ، حين يبرز أيضا بأن المجتمعات التي تقوم على » عقلية الندرة » بمعنى أنه لا يوجد ما يكفي الجميع، وأنه يجب أن تكون أسدا كي لا تأكلك الذئاب، إلى غيرها من عبارات الذاتية يتم ترديدها بدون معرفة خطرها، هذه المجتمعات لا تقوم بــبناء قادة بل مديرين، والفرق كبير بين المدير الذي يكتفي بتلقين الأوامر وبين القائد الذي يتعامل مع من يقودهم على أساس أنهم مشاريع قادة أيضا وليسوا مأمورين. وإذا كانت اليابان قد أدركت موطن الخلل وقامت بتصليحه، فلأنها وجدت نفسها قبل ذلك في عزلة فرضت عليها لمدة ثلاثة قرون، مما أدى إلى تحفيزها على البحث المستمر والدؤوب عن طريقة للتقدم مكتفية بذاتها وما لديها من خبرات وما تواصل بناء، ثم أدركت أن المعرفة أهم من السلاح والثروة المادية، والإحصائيات تؤكد أن الشعب الياباني أكثر شعوب العالم قراءة للصحف العالمية، والأكثر شغفا بتعلم لغات العالم والسفر ودراسة سلوكيات المجتمعات، ولهذا يرجع السبب في كون منتجاتها تنافس في السوق العالمية، لأنها قامت بدراسة طبيعة السوق وما تحتاج إليه وأبدعت في طرق فرض نفسها بالمعرفة.
وربما وجب على الأنظمة التعليمية العربية إن كانت تملك رغبة حقيقية في الإصلاح، أن تتوقف عن استيراد المناهج والخطط التعليمية من دول قامت بتأسيس تلك الخطط انطلاقا من دراساتها الخاصة لوضعية شعوبها الذهنية والسيكولوجية والإجتماعية، فكيف يعقل أن يقوم بلد بتطبيق خطة بلد آخر على شعبه ؟ ما أريد قوله بصريح العبارة، أننا لن نتقدم إن لم نقم بمحاولات جادة لدراسة العقليات العربية ومحاولة تطوير مختلف أنواع الذكاء (السلوكي – العاطفي – الإبداعي – العملي – النظري ..) وليس فقط الذكاء الذهني – الحسابي الذي يجعل من العقل وعاء يتم ملؤه عن طريق الحفظ الذي لا ينفع بشيء. وهناك مشهد معبر فيلم هندي يدعى » الـحمقى الثلاثة » حين طلب الأستاذ الجامعي من البطل رانشو أن يقدم له تعريف » الآلة » كما هو في الكتاب، في حين أن هذا الطالب قدم له تعريفا صحيحا أيضا ولكن بأسلوبه الخاص ليتم طرده بعد ذلك وقبول تعريف طالب آخر قام باستعراض ما في الكتاب، والمثير أن الطالب عاد بعد وصوله للباب، فسأله الأستاذ عن سبب عودته، فأجابه : » لقد نسيت أدوات تحتوي على ملخصات، تحليلات، تشرح معلومات وتحل إشكاليات، وتكون إما مغلفة أو غير مغلفة، تحتوي على صور وقد لا تحتوي عليها، وتحتوي أيضا على فهرس وعلى لائحة مراجع، وتثير أحيانا العقل للتفكير « ، فرد عليه الأستاذ بعد هذا التعريف المطول :أجب ببساطة ماذا نسيت؟ فرد الطالب : نسيت كتبي ! ثم سخر منه قائلا : ألم يكن بالإمكان قولها في كلمة واحدة ؟ .. هنا يرد قائلا : لقد كان هذا ما فعلته بخصوص تعريفي للآلة ولكنك طردتني لتقبل إجابة مطولة كهذه !. وينهي كلامه بنصيحة للطلبة الآخرين قبل خروجه : لا تحاولو أبدا حفظ معلومة بإمكانكم إيجادها في الكتاب متى شئتم !
يظهر جلياً أن عادة الحفظ ما عادت تنفع سوى لتحصيل بعض النقاط في امتحان مصيري، حيث يشعر الطالب خلال مدة الحفظ بأنه آلة أو ببغاء تقوم بترديد كلام بنفس الطريقة التي يقوم بها الآخرون، ما يجعله يشعر بالملل التام، وعدم الرغبة في مواصلة ذلك، وهنا يكمن المشكل .. لأن الإستمتاع / الرغبة في فعل الشيء أساس إتقانه، فلا يمكن أن تصادف أينشتاين مثلا وتسأله عما إذا كان يحب الفيزياء فيرد : » والله لا أحب الفيزياء، لقد تم دفعي إلى البحث فيها رغما عني، وإنه مجرد حظ هذا فقط ! » ولم حاولنا تتبع مرحلة حياة الموظف في عالمنا العربي منذ الطفولة نجدها كالتالي :لعب ولهو ومشاهدة للتلفاز منذ مرحلة ما قبل المدرسة، ثم دخول المدرسة وبدء عملية التلقين والحفظ والنقل بدون طعم، لا يكلف البعض نفسه عناء محاولة فهم التلميذ » المختلف » الذي لا يقبل ما يقدم إليه ويحاول فعل شيء جديد، فيتم استدعاء والديه على أساس أنه فاشل بكل المقاييس، وتتواصل سلسلة النعوت من كل الأطراف » أنت فاشل لا تصلح لشيء »، ومن الطبيعي أن يكون فاشلا، لأن ما يقدم إليه خاص بذوي الذكاء الذهني، أما هو فقد يملك ذكاء من نوع آخر، لا يأخذه النظام التعليمي بعين الإعتبار، وبالتالي يتحطم الطفل ويبدأ بالتذمر كل مرة يسمع فيها كلمة مدرسة.
ومع مواصلته الدراسة يصطدم بعد المرحلة الإبتدائية بأن المواد التي يدرسها لها معاملات، مثلا هو لا يحب الرياضيات ويجد أن معامله أكبر من معامل العلوم الطبيعية التي يعشقها، وبالتالي سيكون تحصيله ضعيفا جدا، وقد يؤثر هذا على معدله النهائي، فيأتي القرار برسوبه أو نجاته من الرسوب ببضع نقاط، طبعا حسب أساليبنا التقييمية للعقول، والدليل أنه لو تابع نفس المسيرة الدراسية في بلد أروبي مثلا، لكانت نتائجه مذهلة في تلك المواد التي كان يعتبر فاشلا فيها في بلد عربي. ثم يواصل الدراسة إلى حين حصوله على الباكالوريا ثم تأتي مرحلة التوظيف، فيعمل في شركة مثلا كتلك التي تتعامل بعقلية الندرة، فيصبح آلة كغيره من الآلات، وهكذا إلى أن يتم تكوين آلي مجتمع بأسره! » والسؤال المطروح : ماذا قدم هذا الجيل الذي بني بهذه الطريقة لـبلاده ؟ هل اخترع شيئا ؟ أبدع في مجال يعشقه ؟ تـميز أم اكتفى بالتنافس على السراب ؟ ويأتي الجواب مؤسفاً للجميع، وطارحاً لعدة علامات استفهام لا يجب أن تطرح بالأساس، لأنها نتيجة حتمية ما وصلنا إليه ! كيف لنظام يبني مقلدين ويكرس لثقافة التماثل أن ينتج غير ذلك ؟ كخلاصة لكل هذا، أذكر عبارة لطالما اعتبرتها » وصفا شاملا » أواجه بها أي شخص يتـحدث عن التعليم بالبلاد العربية وهي : » لا يمكن لنظام تعليمي لا يتقن التعامل مع الموهوبين أن يكون نظاما تعليميا ناجحا، كل من ليس ناجحا بمقاييسنا هو فاشل، وهذا خطأ فادح، والمشكلة ليست كوننا لا نقبل بوجود مقاييس أخرى، ولكن المشكلة أنـه تم جـبلُنا على مقياس واحد يمنعنا من رؤية المقاييس الأخرى
Aucun commentaire