من التفريط في العِرض إلى التفريط في الأرض
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
من التفريط في العِرض إلى التفريط في الأرض
إن أول ما يتبادر إلى الذهن عندما يُثار مصطلح حقوق الإنسان، هو التساؤل عن طبيعة هذه الحقوق؟ وعن المرجعيات التي يَنطلق منها الذين يُدرِجون أنفسهم ضمن خانة المدافعين عنها؟ وعن إمكانية الاستناد إلى مرجعية مناقضة لتلك المُجْمَع عليها في بلد معين لتحديد هذه الحقوق؟ ألا يقتضي المنطق أن تكون مؤطرة بالشريعة الإسلامية بالنسبة للبلدان ذات الخلفية الإسلامية التي تنص دساتيرها على كون الإسلام دين الدولة فيها، مع ما يستلزم ذلك من عدم تجاوز السقف الذي تُجسِّده الأوامر والنواهي، كما هي مقررة في النصوص القطعية بالأساس، مع العلم أن هذا السقف الذي لا تخلو منه أية مرجعية، يختلف بحسب طبيعة كل منها، إما إفراطا وإما تفريطا، غير أن الملاحظ في الواقع العملي هو عدم احترام هذه المرجعيات في عدد كبير من بلدان العالم، إما بتجاوز حدود السقف الذي تنص عليه هذه المرجعية أو تلك، وإما بالتضيق منها، وذلك لأسباب قد تكون إيديولوجية أو سياسية أو اقتصادية… أو خليطا من بعضها أو كلها. ففي فرنسا على سبيل المثال لا الحصر، نجد أنه بالرغم من مرجعيتها العلمانية، التي من المفروض أن يتسع سقفها النظري لحرية المعتقد، وحرية التعبير، وحرية التصرف في الجسد… تُضيِّق من هذا السقف حتى لا يستوعب مجموعة من ممارسات المسلمين، كما هو الشأن بالنسبة لارتداء الحجاب والعباءة في المؤسسات العمومية، وارتداء البوركيني في المسابح…على عكس ما هو معمول به في مجموعة من البلدان العلمانية الأخرى.
إذا علمنا بأن عدم التقيد بمقتضيات المرجعيات التي تؤطر دساتير بلدان العالم، مُتعمَّد في عدد منها، من قبل أفراد، وجمعيات، أو حتى من قبل بعض الأنظمة الحاكمة فيها، فإن ذلك يتجسد بشكل ملفت للانتباه في مغربنا العزيز، وفي عدد كبير من بلدان العالم العربي والإسلامي، بل وفي بلدان العالم الثالث على العموم، مع العلم أن هناك على الأقل صيغتان أساسيتان في تجاوز المرجعية المعنية، بحيث يتم في الأولى العمل على التضييق من السقف، لتصبح المرجعية أكثر خصوصية، كما هو الشأن بالنسبة للمرجعية العلمانية لفرنسا، بحيث يضيق السقف الذي يُفترض أن يتسع لمجموعة من القيم والحقوق، ويحول دون استيعاب عدد منها عندما يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين على سبيل المثال، بينما يتم في الثانية النبش في هذا السقف وخرقه، ليتسع لممارسات، وقيم لا تمت بصلة للمرجعية المعلن عنها، وهو ما يتم العمل على تجسيده عندنا وعند أشباهنا، بحيث يتم اعتماد مرجعية « حقوق الإنسان الكونية » كمعول لتقويض مرجعيتنا الدينية والثقافية، من خلال هدم السقف الذي تحدده الشريعة الإسلامية، وذلك في تجاهل تام للتناسب الذي يفترض وجوده بين الحقوق والواجبات، فعندما تطالب بعض جمعيات حقوق الإنسان وعدد من الجمعيات المحسوبة على المجتمع المدني زورا وبهتانا، بحق الإباحية الجنسية، والشذوذ الجنسي، والإجهاض، والإفطار والسكر العلنيين … فأي خدمة يقدمها هؤلاء للمجتمع؟ بل حتى لأنفسهم؟ وما طبيعة الواجب الذي من أجله تُنال هذه « الحقوق »؟ سوى إفساد المجتمع ومنظومة القيم الأصيلة، التي تتميز بها المرجعية الإسلامية، خدمة للأجندات الخارجية، سواء كان ذلك عن وعي أو عن غير وعي، مستغلين في ذلك اللبس الوارد في صياغة الفقرتين التاليتين من ديباجة الدستور:
- « إن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا ».
- « جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة. »
متناسين أنه لا يمكن الحديث عن الهوية الوطنية الراسخة التي لا يمكن أن تكون سوى الإسلام، إذا سمت الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية المستمدة منه.
والحقيقة هي أنه لو كان لهؤلاء الذين يبررون ممارساتهم هذه بالتخفي وراء الدستور ذرة من حُب الوطن، لطالبوا بإعادة صياغة الدستور صياغة صريحة، تتماشى مع الحفاظ على قيم الأمة وثوابتها، دون أي لف ولا دوران، مع العلم أن كل تلك المبادئ والقيم التي تنص عليها المواثيق الدولية أصبحت في مهب الرياح، فها هي « إسرائيل » تتحدى العالم، وتواصل إبادة الشعب الفلسطيني، رغم كل التوصيات والأحكام التي صدرت في حقها من قبل مختلف الأجهزة التابعة للأمم المتحدة، وها هي فرنسا تتملص من مذكرات المحكمة الجنائية الدولية في شأن اعتقال رئيس وزراء « إسرائيل »، ووزير دفاعها السابق، ثم كيف يمكن استساغة شرعنة الزنا، واللواط والسحاق تحت اسم المثلية، في بلد ذو مرجعية إسلامية، في الوقت الذي تُمنع فيه المثلية، والتحول الجنسي في بلد كروسيا، التي كانت إلى عهد قريب تُنَظِّر لشيوعية الجنس، وهو نفس التوجه الذي يتبناه دونالد ترامب بتصريحه « بأنه يريد وقف « جنون التحول الجنسي »، وتأكيده على أنه سيُوقِّع بمجرد تنصيبه في 20 يناير « مراسيم لإنهاء تشويه الأطفال جنسيا وإخراج المتحولين جنسيا من الجيش ومن المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية ».
إن المتفحص لأجندات عدد من الجمعيات الحقوقية عندنا، وكل الذين يسيرون في فلكها، لا يشك لحظة واحدة في استهداف مقاصد الشريعة، التي تَدخُل « الضروريات الخمس » ضمنها، بدءا بالدعوة إلى التطبيع مع التفريط في العِرض، وانتهاء بالتفريط في الدين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، في انتظار ما سيفصح عنه المستقبل من خفايا هذه الأجندات لا قدر الله. ومما لا شك فيه أن موقف السيد رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بخصوص الصحراء المغربية، والمتمثل في المطالبة بتقرير المصير، مع عدم الاعتراف بإجرائه ضمن إطار الحكم الذاتي، يندرج ضمن هذه الأجندات بِإِرْدافِه التفريط في الأرض إلى التفريط في العِرض، وهو يعلم علم اليقين بأن هذه الأرض مغربية أبا عن جد، وإن كان يجهل ذلك، وهو أمر مستبعد، فما عليه إلا أن يسأل المستعمر الفرنسي والمستعمر الإسباني اللذين لن يجدا بُدا عن الاعتراف بمغربيتها، عندما تَيَقنوا بفشل مخطط حَجْب الحقيقة، وأنه أصبح يضر بمصالحهم، أكثر منه بالمصالح المغربية، خاصة بعد تصريح جلالة الملك بأن » ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات ».
في الأخير أريد أن أهمس في أذان هؤلاء، إن كان ينفعهم الهمس، لأقول لهم بأن المغاربة لن يقبلوا بالتفريط لا في العِرض ولا في الأرض مهما حاولتم، وأن الغرب لن يرضى عنكم مهما بلغت عمالتكم وانبطاحكم له، لأنكم لن تتمكنوا من تمرير أجندته بعدما كشف طوفان الأقصى حقيقة ما تضمره المرجعية الغربية ضد كل من يقف ضد مصالحها.
الحسن جرودي
Aucun commentaire