أَلَمْ يَانِ للذين غَنِمتهم الفرنسية أن يرفعوا أيديهم عن العربية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
أَلَمْ يَانِ للذين غَنِمتهم الفرنسية أن يرفعوا أيديهم عن العربية
من المعلوم أن التوجه الفكري والثقافي للفرد غالبا ما يُؤسس ابتداء من سن معينة، في ظروف معينة، وانطلاقا من معطيات معينة في سياق معين، ومع الوقت يتبين له حسن أو فساد توجهه، وذلك حسب ملاءمة التوجه الذي انخرط فيه مع القناعات التي ترسَّخت لديه من خلال تعامله مع المعطيات التي تُوفرها له البيئة التي ينمو فيها، وهنا تبرز أهمية استشراف المستقبل والتنبؤ بما قد تؤول إليه الأمور قبل الانخراط في أي توجه كان، وإلا فإن المستقبل جدير بأن يفصح عن نفسه دون أن يستشير أو يُحابي أحدا، ولعل ذلك ما عبر عنه طرفة بن العبد في بيته الشعري الذي يقول فيه:
سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلاً وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ
وآنذاك يوضع الفرد أمام الأمر الواقع الذي يُفترض معه تقييم مدى نجاعة توجهه الفكري والثقافي، بناء على التجارب الحياتية التي عاشها وهو يتقدم في السن، ومن ثم فإما أن يكون التقييم إيجابيا ويتم معه الاستمرار في نفس الخط الفكري، وإما أن يكون سلبيا وهو ما يفرز حالتين، الحالة الأولى يكون للفرد فيها إمكانية بناء توجه جديد طبقا للقناعات التي راكمها خلال مساره السابق، حتى أن البعض ينقلب على توجهه القديم 180 درجة. أما الحالة الثانية فهي التي يستحيل فيها الرجوع إلى الخلف والانطلاق من جديد، أو لنقل لتجديد التجربة وتنقيحها بما يتماشى مع قناعته الجديدة، وذلك إما لأن الفرد أصبح مُقيدا بقيود تفرضها الجهات التي كان يضن أنه يستفيد منها، كما هو الشأن بالنسبة لأولئك الذين ينخرطون في شبكات الاتجار بالمخدرات على سبيل المثال، وإما لأنه خُتم على قلبه وعلى سمعه، وجُعل على بصره غشاوة، فأصبح عاجزا عن الفقه والسمع والإبصار
في الأيام الأخيرة أُطلقت عريضة إلكترونية تجمع التوقيعات من أجل « القطيعة مع الفرنسية » في المغرب، ولعل السبب الرئيسي في إطلاقها يَكمُن في المعطيات التي أتت بها الأيام من تلقاء نفسها، والتي كانت إما مجهولة أو مُتَجاهَلة، وهي تلك المعطيات المتعلقة بالعلاقات الفرنسية المغربية، من قبيل حرمان عدد كبير من المغاربة من التأشيرة، والموقف المتذبذب من الصحراء المغربية الذي أصبح جليا بأن فرنسا، من خلال زيارة رئيسها للجزائر، تُناهض الوحدة المغربية، وقبلها رفع قيمة رسوم تسجيل الطلبة المغاربة بالجامعات الفرنسية إلى حد لا يطاق، بالإضافة إلى العنصرية التي يعاني منها المغاربة خاصة الذين تُشتم منهم رائحة الإسلام، والبقية تأتي.
وهذه المعطيات كفيلة بأن تدفع بعدد كبير من المغاربة، سواء كانوا قاطنين بالمغرب أو بفرنسا إلى إعادة النظر في توجهاتهم الفكرية والثقافية ومنها اللغوية التي تم تَبنّيها خلال مرحلة بداية الاستقلال، التي كان يغلب عليها منطق الولع بثقافة المستعمر حسب ما أورده ابن خلدون في مقدمته « في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده »، أو لأن خروج فرنسا من المغرب كان يوحي بأنها قد تخلت عن قناعتها « الاستعمارية »، من خلال استقبالها لعدد كبير من المهاجرين والطلبة الذين كانت توفر لهم مجموعة من المنح الدراسة، مع العلم أن قيمة رسوم التسجيل كانت منعدمة وفي أسوإ الأحوال كانت رمزية، وأنه فيما مضى من الزمن كان لا زال للغة الفرنسية بريق في المجال العلمي قبل أن تصبح عاجزة عن مسايرة اللغة الإنجليزية. يُضاف إلى كل هذا أن أهداف الفرنكوفونية تجاه اللغة العربية بالنسبة للمغرب واللغات المحلية بالنسبة للمستعمرات السابقة، لم تكن قد تجسدت بعدُ بما يكفي في الواقع حتى تكون آثارها التدميرية بادية للعيان.
من هنا أعتقد أن العريضة قد جاءت في وقتها ليستفيق الذين اختاروا، عن قصد أو عن غير قصد، التوجه اللغوي الذي فرضته ولا زالت تفرضه فرنسا عن طريق الفرنكوفونية، ويعلموا أن توجههم هذا مآله البوار والخسران، ولا أدل على ذلك حرمان مجموعة من علية القوم من التأشيرة على الرغم من تنويههم بماما فرنسا في كل وقت وحين، وفي هذا مؤشر قوي على أن الامتيازات التي لا زال يتمتع بها البعض مرهونة باستمرار مصالحها، وأن أدنى ضرر يلحقها يكون بمثابة القطرة التي تُفيض كأس الحرمان ليطال الجميع دون مراعاةٍ لإِلٍّ ولا لذمة.
يتبين من خلال هذه المعطيات على قلتها مقارنة مع تلك التي يتم التستر عليها، أنْ لا مستقبل للمغاربة إلا في لغتهم التي ينص عليها دستورهم، وأن أولائك الذي راهنوا على التعريب في بداية الاستقلال كانوا يتمتعون بحاسة استشراف المستقبل، لأنهم كانوا مقتنعين أن عز الأمة ومجدها لا يمكن أن يكونا خارج هويتها اللغوية والدينية، وأن الذين اختاروا السير في ركاب الفرنسية والفرنكوفونية، وعلى رأسهم أولئك الذين مأسسوا لسيادة اللغة الفرنسية في التعليم رغما عن الدستور، لا يمكن إلا أن يوصفوا بأقل من كونهم قصيري النظر، لأنهم كانوا حريصين على مصلحتهم الشخصية التي لن تدوم كثيرا أمام إصرار الشعب المغربي على التشبث بالدين الإسلامي تشبثا يجعل من اللغة العربية مطلبا أساسيا لا محيد عنه، وأن ما عدا ذلك مضيعة للوقت وإطالة للطريق المؤدية إلى التقدم المادي والمعنوي الذي يرنو إليه كل المغاربة، ومن ثم فلا سبيل أمام إخواننا الفرنكفونيين الذين لا زالوا يعاندون من أجل سيادة الفرنسية وثقافتها، إلا الرجوع إلى الأصل عملا بالمثل العربي القائل بأن « الرجوع إلى الأصل فضيلة » وليعلموا أن الوقت قد حان إن لم يكن قد فات ليرفعوا أيديهم عن العربية ويفسحوا لها المجال للانعتاق من أغلال الفرنسية وثقافتها، حتى تسترد مكانتها المتميزة ضمن لغات العالم المتطور.
Aucun commentaire