جرادة الحكيمة ..جرادة الحمقاء
رمضان مصباح الادريسي
هذا قلته سابقا:
» تصادف وجودي بقريتي مستفركي، عشرون كلم شمال جرادة- في هذه الأيام، باكورة الربيع؛ حيث الزفرات الأخيرة لبرد الشتاء القارس – (تصادف) مع بداية المرحلة الثانية من الحراك، التي يبدو أنها ستُفضي، لا قدر الله، إلى مواجهات عضلية بين الشباب المدني، وشباب الأمن؛ إن لم تحزم حكومة السيد العثماني أمرها وتتدبر الملف – موسعة خيالها – من أوجهه المختلفة »
من أين الحكمة؟
من عدالة القضية،ومن الترافع المدني السلمي عنها؛الذي فرضه غياب الترافع السياسي؛بعد أن اختارت الأحزاب – كلها تقريبا- في مستوياتها المحلية و الوطنية ،الانحياش صوب الصناديق الانتخابية ،تمارس فيها شبقيتها السلطوية،بما اتفق؛خارج كل تخوم البرامج التنموية الجادة.
ومن وجود إطار دستوري يضمن للمواطن حقوقه ،في المطالبة بالعدالة الاجتماعية،وبنصيبه من ثروات البلاد العامة،من خلال تمكينه من فرص الكسب المشروع.
ومن وجود أطر قانونية فصلت ونزلت الكثير مما أجمله الدستور؛خصوصا في ما يتعلق بحقوق الإنسان ؛كما هي متعارف عليها دوليا.
ومن وجود خلفية اقتصادية وطنية – ثروة مادية وغير مادية – ساهمت فيها مفاحم جرادة ؛بدءا من 1927 إلى حدود سنة 1998؛وأوثق شاهد على هذا » الهرم » أو الجبل الأسود ،المنتصب شامخا ،بجانب سوق الأحد بالمدينة.
جبل نفايات معدنية، يحكي عن جبال « الانتراسيت » – أجود أنواع الفحم الحجري – التي عبرت من جرادة إلى خزائن الوطن ؛ سواء إبان الاستعمار – وصولا الى أحشاء الاقتصاد الفرنسي – أو تحت ظلال الاستقلال.
و من سبعين عاما من الكد ،والموت ردما،أو مرضا؛مما يجعل المطالبة بالبديل الاقتصادي أمرا مشروعا لا جدال فيه. بل يُطمع هذا الرصيد حتى في تقاعد مريح للمدينة كلها ،إن كانت المدن تتقاعد.
ومن عشرين عاما من تملص الدولة من التزاماتها،إزاء الساكنة ؛وهي تقرر قتل النشاط المعدني الأسود.
إن مدينة جرادة رُكبت تركيبا حول المناجم ،كما ركبت كل آليات الحفر والاستخراج والنقل بها؛فهل تفكيك كل هذه الترسانة المعدنية الضخمة،يُعطي الحق حتى لقتل المدينة وتفكيكها؟
من كل هذا وغيره وُلدت جرادة الحكيمة الصابرة ؛التي لم تطالب بغير إعادة إدماجها في الدورة الاقتصادية الوطنية النقية؛بعد أن أحرق مرض « السيليكوز » رئات الآباء والأجداد.
ووُلدت جرادة المُحرضة للدولة على ممارسة سلطاتها كاملة؛سواء الأمنية ،بتعقب أباطرة العبث المنجمي القاتل،الذين تغلغلوا في مفاصل كل التمثيليات المحلية؛أو سلطاتها الاقتصادية ، بتنزيل التزاماتها المتعلقة بالبديل.
وفي الشق الآخر تعززت جرادة الحكيمة برحابة صدر قانونية و أمنية ؛سمحت للساكنة – شهورا- بالتعبير عن مطالبها ؛ما دامت كل أسانيدها قوية؛ وبصفة خاصة التعطيل الرسمي الذي عمره عشرون عاما.
لقد نسج الحضور الأمني المسالم علاقات راقية مع تمثيليات الأحياء ؛بحيث تولت هذه الأخيرة، تنظيم المرور في كل الحراكات؛حتى لا تتسلل الفوضى الى الحكمة؛سواء كما تمثلها جرادة المتحركة، أو الدولة الرشيدة الراعية.
داخل هذه الحكمة حكمة قبلية:
هذا لا يمكن أن يتحدث فيه غير من يعرف التركيبة السكانية لجرادة؛وبتعبير آخر من يمتلك آليات مقاربة الحراك سوسيولوجيا.
كم فضلتُ لو حضر هؤلاء ضمن ترسانة الدولة،في جرادة وغيرها؛لكن من أين تحقق هذا وحكوماتنا تقصي تراكمات البحث الأكاديمي الوطني ،ولا تُحكم غير الصدمات؛وقد فصلت هذا سابقا.
رغم الاختلاط في الأحياء فان السمة الغالبة لساكنة جرادة قبلية: الزكارة،أولاد عمرو،بني يعلى،أولاد سيدي علي،بني بوزكو.. هذه التركيبة تحضر بقوة في تدبير الحراك وتنظيمه.
ومن أراد أن يتواصل ،بحق،مع الحراك عليه أن ينفذ إليه عبر هذه التوليفة الاجتماعية ؛التي عرفت السلطة الاستعمارية كيف توظفها لصالحها،من خلال تكريسها.
لو حرصت الحكومة على استثمارها في التواصل ؛ليس وفق خبث المستعمر؛بل زرعا للثقة في المؤسسات ،والوعود الوزارية المقدمة،لجرت الأمور بكيفية أخرى.
إن عقل الحراك ،سواء سالم ،أو تهور وتحدى،يتأسس على الاشتغالات العديدة لهذا الحضور القبلي ؛وقد وصل الى حد استعادة ثقافة قديمة؛خلناها تفككت بفعل الدولة الوطنية الحديثة: التنافس بين الدواوير، التسابق صوب البطولات،إعلاء قيم الشجاعة والإقدام..
حتى الحضور النسوي مرده الى هذا النوع من التباري القديم ؛وقد شاهدنا جميعا « المرأة ذات المقلاع » وهي تثبت فروسية النساء أيضا.
وأنا أنبه الى هذا الأمر الذي لم أجد له أي صدى في تعامل الحكومة مع الحراك؛لا يغرب عن بالي استعداد ساكنة جرادة للمضي قدما ،وصولا الى أمور لا تحمد عقباها؛لا يريدها لبلاده إلا خبيث شامت.
لعل نوازل الريف حاضرة في أذهان الحكومة،ولهذا فهي ماضية في المقاربة الأمنية .
لا يا سادتي إن الحسيمة هي غير جرادة: حراك الحسيمة يحضر فيه الترف أكثر من الحاجة؛وشبابه لابس ومنتعل وشبعان؛في مدينة ذات جمالية أخاذة.
أما شباب جرادة فحاجتهم،بل فاقتهم وحش أسود يطاردهم ،حتى في أحلامهم؛ مما يجعل حتى السجن والخبز الأبيض أعز ما يطلب.
رجاء من الحكومة أن تنتبه الى هذه الفوارق ؛وتجلس الى أصحاب الحاجة جلوس مصغ ثقة،وليس جلوس محقر مسوف.
من أين جرادة الحمقاء؟
من سياسيين محليين ازوروا ،وما عاد لهم حضور في غير لقاءات التواصل الرسمية ،التي لا تعتقد الساكنة ،ولا تثق في كونها سترسم شيئا.
من أمناء أحزاب سياسية تنكروا حتى لما يلزمهم به دستور البلاد من تأطير بناء للمواطنين. إنهم يتتبعون أخبار جرادة من بعيد ؛ بل ويعرفون عن « الغوطة » السورية أكثر مما يعرفون عنها.
من المجلس الاقتصادي والاجتماعي ،الذي يرجى انعقاده بها ،لتدارس أوضاعها ؛بل أوضاع المنطقة الشرقية كلها ؛وهي المنطقة التي تعيش منذ عشرات السنين اغلاقات متعددة ومتسلسلة:
مناجم بوعرفة،مناجم تويست،مناجم جرادة..ثم إغلاق الحدود المغربية الجزائرية..
ألا يتطلب كل هذا نشاطا ما،لهذا المجلس، بالمنطقة المضطربة، والجهة كلها ؟
(أستحيي،هنا، من المقام الملكي السامي أن نطالبه بالتدخل في كل التفاصيل ؛والحال أن مؤسسات تدبير الدولة قائمة..)
ومن منطق المبارزة الذي أجج الصدام ،بين قوات حفظ الأمن العام ،و شباب ؛أغلبهم لا يفسر الحضور الأمني الكثيف إلا برغبة الدولة في تدميرهم.
ومن ارتباك واضح – أحيانا – في التوظيف المشروع للعنف الرسمي؛الذي به تحفظ الدولة هيبتها؛وهي دولتنا جميعا ؛وليست دولة المسؤولين فقط.
يظهر هذا الارتباك في توظيف الناقلات الأمنية لرهبة المداهمة السريعة،في منطقة جبلية، سفحية مشجرة؛مما يصعب حتى التحكم في القيادة.
لا يُقبل هذا النوع من التدخل الأمني ؛في وجود وسائل أرقى وأنجع؛كما لا يقبل من الحراكيين ،مهما تكن الدواعي ،رشق القوات العمومية ،بله حرق آليات رسمية من الملك العام.
ومهما قلنا فان مثل هذه المواجهات ،وهي تقع حتى في الدول الراسخة في الديمقراطية، ليست سوى استمرار للحوار بوسائل أخرى. بل هي دليل على فشل كل محاولات التواصل السابقة؛مما يستدعي طرح الأسئلة الحقيقية:
لماذا لا يثق المواطن في المسؤولين؟ لماذا يُحقر مؤسسات الدولة ؛وهو يعرف أن هذا لا يؤدي إلا الى خراب الأمم؟
حينما أنعت جرادة هنا بالحمق ،فاني أقصد جرادة بشقيها المواطني ،والمؤسسي؛لأن الوطن كله معني ،ويتضرر من سوء تدبير الأزمة.
لا يجب أن تُحجز مقاعد للفرجة،حينما يكون هناك ما يتهدد الأمن العام. ولا أجد نفسي هنا مضطرا للتذكير بالوضع الإقليمي في عالمنا العربي ،فكلنا نعرف ماذا ينتج عن التهور ؛من أي جهة لاح.
ما قسوتي بهذا النعت إلا لأزدجر ؛خصوصا وأنا مقتنع بأن تضرر الوطن ،بما يقع في جرادة هذه الأيام،أكثر من تضرر مواطنيها وأمنييها.
ومقتنع أيضا بأن الحكومة لم تسلك في جرادة مسالك التواصل البناء ،والإنصات الهادئ،والإقناع المؤسس بالتصدي لجبر عثرات الالتزامات السابقة.
إن المواطن ،هنا،مضطر للمطالبة بحقوقه ؛والدولة مضطرة للحفاظ على القانون ،وعلى هيبتها؛ ألا تستشعر الحكومة إلزامية تنفيذ التزاماتها؛بالحضور الميداني الكثيف والفاعل؟
اللهم احفظ البلاد والعباد؛فلا أحد يحب مكروها لوطنه ،إلا من جهل..
Aucun commentaire