مواقف ،أو مذكرات مدرس
(4 )مواقف
اشتريت دراجة نارية ، بمعية صهري الخبير في الدراجات ، لتكون المركب الذي سيريحني من مشقة التنقل راجلا لسبعة كيلوميترات ، هي المسافة ، ذهابا وإيابا ، بين الفرعية المسند إلي فيها مهمة التدريس ،وبين الخم المأمول لدجيجات حارسة مدرستنا المركزية.
أفرغت جعبتها من البنزين صباح يوم إثنين ، واستعملتها كدراجة عادية للوصول إلى محطة سيارات الأجرة الرابطة بين مدينتي وجدة الحبيبة والناظور . سارت الأمور كما كان مخططا لها حتى محطة الوصول ، حيث سينبهني أحد الناصحين لخطورة الطريق، وصعوبة المرور وكلفته العالية ، دون خوذة، إلى بلدة فرخانة .
فكرت ثم قدرت أن الأسلم لي ولدراجتي ، والأقل تكلفة هو سيارة الأ جرة ، ثم التزود من فرخانة بالبنزين ومتابعة المسير . وكذلك كان.
كان الإياب أيسر من الذهاب . كنت أشفق من حالها وهي تتكبد عناء الصعود ، وأسعد لخفتها ونشاطها أثناء النزول .
رافقتني ، قرابة التسعة أشهر ، ولم تشتك يوما ، بالرغم من عدم اهتمامي الشديد بها . ألفها التلاميذ وتعودوا على رؤيتها أوعجلتها الأمامية خارج الفصل ،تستمع إلى قولهم وتنظر ، حين الاستراحة ، إلى أفعالهم .
كانوا سبعة وعشرين ، بين السبعة والأحد عشر عاما ، يلجون المدرسة أول مرة ، لا أحد منهم يفهم كلمة عربية ،ولايعرف مدرسهم من لغتهم الأم إلا كلمات . ملء أشداقهم يضحكون حين أحدثهم بالريفية ، يحسبونني أمازحهم والأمر لم يكن كما كانوا يظنون . تعلموا لساني ولم أتعلم لسانهم .
لست راضيا عما قدمته لهم ، فلم يكن النقص في الخبرة ودخول عالم التربية والتعليم بعد تكوين ، أقل مايقال عنه أنه هزيل وجد ضعيف ، هو السبب الوحيد .
كنت ، سواء في الصباح أو في المساء ، عند الصعود أو أثناء النزول ، أراها تتقدم ، يوما عن يوم ، بقطيعها نحو طريقي .
حدثت ، يوما ، زميلا لي عن جمالها وشبابها وحسن مظهرها وأشياء أخرى ، أستحي، بعد ما صرت إليه اليوم ، عن ذكرها بله نشرها والمجاهرة بها .
تعلق الزميل ، وهو من ساكنة الناظور ، براعية الغنم وأصر على مصاحبتي ورؤيتها والمنطقة التي تعيش بها .
اشترطت عليه ، بعد أن بالغ في الالحاح ، أن لايكلمها ، لا باللسان ولا بالإشارة ، وإذا ما أعجبته وانجذبت نفسه إليها ، نسلك الطريق الصحيح ونتبع السبيل المستقيم ونخاطب أهلها في أمرها .
نزلنا عن الدراجة غير بعيد منها . نظر إليها وأطال النظر ، ولكنها ما إن رأتنا حتى أشاحت وجهها عنا وأدارت لنا ظهرها وتشاغلت بخرفان لها . كانت أول وآخر مرة يزور فيها الفرعية إلى أن أبدله الله مكانا خيرا من مكاننا وأقرب إلى أهله وذويه .
كنت أعجب لجرأة زائدة ، في بنات المنطقة ، على الرجال ، فعلمت من بعضهم أن للنساء عليهم سطوة كبيرة ، لايقبلها ، كرما ، إلا قليل منهم ؛وبدا لي ، حينها ، أن أحد أصدقائي كان محقا عندما أخبرني أن للنساء قدرة عالية على معرفة وفك الرموز السرية للرجال .
كنا نجلس ، أغلبنا عزابا ، متحلقين حول أكواب الشاي ، لانتحدث ، لساعة أو أكثر ، إلا عن الجنس اللطيف وفيهن ، وكنت أسمع من بعضهم كلاما يضحكني وآخر يبكي من قلبه حجر أو أشد . وللرجال فيما يجذبهم إلى النساء اختلاف وتباين كبير .
فمن متعلق بالشعر الأسود الطويل إلى محب للبياض والطول إلى ميال إلى النحافة والقصر مع شيء من السمرة ويسر الحال . كنت كلما جمعنا مجلس إلا و تذكرت أحد الأصحاب ، سألني مرة ، ونحن جالسان في المقهى ، عن أحد الأشخاص يتتبع بعينيه كل طويلة قامة تمر بجانبه . قلت : لاأعرفه ، ولكن يبدو من خلال سنه وهندامه أنه متزوج وشبع زواجا . قال : نعم ، وزوجته امرأة صالحة ولكنها نحيفة وقصيرة . جزم بعد ذلك أن كل من تلحق عيناه نحيفة فالبدينة له ، في البيت ، بالمرصاد ، وكذلك الشأن بين من كان نصيبه الطول والذي له القصر . تأمل الجالسين من حولنا والرجل
ثم قال : لهذا السبب ، والله أعلم ، سمح الله للرجال بالتعداد ؛ فمن لم تكفه الواحدة أضاف حتى يكمل العدد أربعة .
لم أستسغ كلامه ولا منطقه ولكني لم أعترض عليه ، لما بدا لي من شدة اقتناعه بما توصل إليه .
لم تمض إلا سنوات قليلات حتى التحق باجتماعاتنا إخوة قدموا الدين والخلق وطيب النفس عن الجمال والنسب
والمال ، وتحولت مجالسنا إلى حلقات ذكر وعلم . كنا نتقاسم المواضيع ، حسب الميولات والاستعدادات ، ويلقي أحدنا موضوعه المختار ونمضي أكثر الوقت في مناقشة مضامينه .
أربع سنوات ستمر، بعد الوظيفة وتحصيل أول راتب ، لأجد نفسي مدفوعا ، غير مرغم ، إلى دخول القفص الذهبي ، وأصير ، بعد أن كنت خير الناس ، مثلي مثل الناس ، وأعوذ بالله العزيز المعز من سوء العاقبة، وأن أصير إلى المعرة بين الناس .
يتبع
Aucun commentaire