نظرات العلامة الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي في التربية VIDEO
نظرات العلامة الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي في التربية
محمد شركي
استضافت اليوم جمعية النبراس الثقافية بمدينة وجدة في افتتاح موسم أنشطتها الجديد فضيلة العلامة الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي الذي ألقى محاضرة وازنة في موضوع التربية . وهو موضوع جرت العادة أن تحتكره الثقافة الغربية ، ودأب الناس عندنا على استيراده كما تستورد البضاعة من الغرب، لأن الناس عندنا يعانون من عقدة التبعية للغرب ، ومن عقدة فقدان الثقة في الذات . وتأتي محاضرة الأستاذ العلامة لدحض هذه العقدة وفكها . فبعد شكر جمعية النبراس التي ظن بها خيرا ، وتمنى أن تكون كذلك ، مهد لموضوعه بعلاقته بالتربية الذي يحق له بموجبها أن يقدم نظراته فيها ،لأنه عاشرها تلميذا ومدرسا في كل أسلاك التعليم حتى غادر الجامعة منذ ست سنوات مضت على تقاعده . ويعتبر الأستاذ المربي السيد الشاهد البوشيخي أن التربية هي شغله الشاغل ، وموضوعها شاسع شساعة الأمة المسلمة في ماضيها وحاضرها . ويتمحور موضوع محاضرته حول أزمة التربية ، ومن ثم كانت له نظرات في هذه الأزمة. والأزمة عنده ليست في درجة المعضلة التي لا حل لها ، بل هي مجرد احتقان يمكن تجاوزه إذا ما وجد الرجال الأكفاء . أما التربية عنده فهي فن صياغة الإنسان ، والتعليم بكل أنواعه هو شكل من أشكال هذه الصياغة ، إلى جانب أشكال أخرى تتمثل في الأسرة والمجتمع وغيرهما .
فكل هذه المؤسسات تحاول صياغة الإنسان . وكل المجتمعات البشرية تشتغل بالتربية لنفس الغرض . والأمة المسلمة بمفهومها الجغرافي من طنجة إلى جاكرتا معنية بهذه التربية أيضا . ويتمنى الأستاذ المربي أن تستعيد الأمة المسلمة وليس الإسلامية عافيتها وهويتها ، وتتجاوز حالة التشرذم في شكل ولايات مفككة ، ويتمنى أن تصير عبارة عن ولايات متحدة إسلامية لا تنتسب فقط للإسلام بل تتشبع به . وأشار إلى أن المتفائلين ينتظرون ظهور الأمة المسلمة خلال القرن الخامس عشر الهجري . ونعت الأمة بالمسلمة ، هو نفس النعت القرآني المناسب الذي بدأ مع نبي الله إبراهيم عليه السلام . وهذا النعت يعني ضرورة الدخول في دائرة الإسلام . والدكتور البوشيخي ينظر إلى أزمة التربية في الأمة المسلمة من زاوية النتيجة. وواقعها عنده يدعو إلى تصنيف ثلاثي هو :
1 ) التربية الموروثة أو التقليدية ، وهي التي لا تزال حاضرة في قطاع كبير عند الذين لم تطحنهم آلة العولمة الغربية .
2 ) التربية المستوردة التي أدخلها المحتل وفرضها فرضا، وأوكل بها من يتعهدها بعد رحيله من الذين طحنتهم العولمة .
3 ) التربية الباعثة التجديدية التي تحاول صياغة الإنسان بالشكل السليم وهي تخطط لصياغة من يصحح للأمة مسارها .
وكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة له أزمته الخاصة به . أما النوع الأول فأزمته هي تحضير الأمة لتكون قابلة للاستعمار حسب تعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله . واستمرار هذه التربية لا يمثل الحل . وأما النوع الثاني فأزمته أنه صاغ نموذجا لا يمثل حتى ذاته، لأن تربيته مستوردة ،علما بأن الذات ليست الطين بل هي الهوية ، والمستورد مجتث لا محالة، إذا ما اهتزت أرض الأمة وربت ، وأنبتت . وأما النوع الثالث فأزمته تتمثل في الفشل في تقديم نموذج يقدم الأصل ، وهو الوحي على الفروع . ولا يشعر الدكتور البوشيخي بالحرج حين يقول أن التربية توجه التاريخ بمفهوم بداية البشرية ونهايتها ، وهو تاريخ بداية نهايته هي بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . وعبر التاريخ كان الرسل صلوات الله عليهم مربون يصححون مسارات التاريخ البشري ، لأن الأصل في هذا التاريخ هو السوية التي سوى بها الله عز وجل كل شيء خلقه ، وأن الانحرافات طارئة على التاريخ البشري. وحيثما كان الاعوجاج أو الانحراف تكون التربية ، ويكون المصلحون الذين يصلحون ما أفسده المفسدون. ويأتي بعد إصلاح الأنبياء إصلاح الحواريين ومن يليهم . ولا يخرج عن هذه القاعدة خاتم الأنبياء وحواريوه من الصحابة الكرام رضي الله عنهم الذي تربوا في مدارس واقعية في مكة والمدينة من قبيل المدرسية الأرقمية وما شابه وفق ضوابط وضعها الله عز وجل كضابط الصلوات الخمس اليومية ، التي هي بمثابة الرئة التي تصفي دم الأمة المسلمة باستمرار. والتربية في نظر هذا المربي أنها بانية الأجيال، والعادة أنه يخضع لها الصغار عندما تكون أمور الحياة مستقرة على التسوية التي سواها الله عز وجل ، ولكن عندما يقع الانحراف ، فالجميع يخضع للتربية صغارا وكبارا . والتربية تصنع مصير ما بعد الحياة ، لأنها توجه الإنسان ليسير في الحياة الدنيا وفق منهج معين ، وذلك ما يحدد مصيره في الآخرة، أو الحياة الأبدية المفارقة للحياة الدنيا الزائلة أو المنتهية. وتناول العلامة بعد ذلك إشكالات الأزمة في أنواع التربية الثلاثة . أما أزمة التربية التقليدية فتتجلى في تقديم الطين على الدين
. أما تقديم الدين على الطين فيفضي إلى ولاء الله عز وجل . وقياس العبادة يكون من خلال معرفة الإنسان ما الذي يغلبه في عبادته الطين أم الدين ، الزائل أم الخالد . والذين يغلبون الطين على الدين إنما يبيعون الدين بعرض الدنيا . وكعادة العلامة استعمل في هذا السياق التعبير العامي » المحبة ليست في الرأس وإنما بين الأضراس » واستشهد على ذلك بقصة محبة عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله له : » الآن يا عمر » . ونبه المحاضر إلى طبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالية وليست الطينية . ومن أزمة التربية التقليدية تقديم الفروع على الأصول ، واستشهد على ذلك بوضعية المعاهد التربوية قبيل دخول المحتل في القرويين والزيتونة والأزهر حيث غيب الفقه الأكبر ، وهو فقه معاد بن جبل إشارة إلى ما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه سلم عندما بعثه إلى اليمن ، وحلت الفروع محله ، ولم يكن ذلك موفقا . ومن المؤشرات على الأزمة تقديم المصلحة الصغرى على المصلحة الكبرى ، التي كانت سببا في انحطاط الهمم ، وامتناع التواصل الروحي وحتى المادي. ومن المؤشرات أيضا تقديم الدنيا على الآخرة ، أو بعبارة أخرى غياب مفهوم الآخرة من الحياة الدنيا . ولا يعرف الحياة الحقيقية في نظر الأستاذ المحاضر إلا من يحسن معاشرة القرآن الكريم لأن الحياة الحقيقية هي حياة الخلد، وليست حياة الفناء. ومن مؤشرات الأزمة أيضا التمكين للوهن وهو حب الدنيا وكراهية الموت . ونتيجة الوهن هي تداعي الأمم على الأمة المسلمة التي تصير غثائية يسهل جرفها كما يحمل الماء الغثاء. والحياة الحقيقية عند الأستاذ المربي هي محبة الموت أو الإقبال على الآخرة. واستشهد في هذا المقام بقول القائل: » رأس الخطايا حب العاجلة « .
وأما أزمة تربية التغريب المستوردة فتكمن في التبعية للغرب ، حيث أسس الغرب مراكز تربيته ، ورحل عنها، ولكنه ترك من يقوم بأمرها بعده ، ويجعلها تشتغل كما تركها من أجل صياغة الأتباع الذين يمكنون لنظرته للواقع في كل شيء . والعالم في نظر الأستاذ المربي منذ القرنين 18 و19 حسم الأمر لفائدة الطين أو المحسوس بالنظرة الغربية . وقد غرب التاريخ عند الأمة المسلمة وحقب وفق التحقيب الغربي . ومن مؤشرات أزمة هذه التربية التمكين لتصنيف العلوم وفق المنظور الغربي حتى أن التوجيه في المرحلتين الإعدادية والتأهيلية عندنا ، هو توجيه لعلوم المادة ، مع إهمال التوجيه لعلوم الحقيقة ،التي جاء بها القرآن الكريم ، والذي هو العلم المحيط المطلق المفارق لعلوم الإنسان النسبية . وقد لفت العلامة الأنظار إلى حقيقة أن الله عز وجل خلق الكون وما فيه للإنسان ، ومن أجله وسخره له ، ليتفرغ الإنسان لخالقه عوض التفرغ لما سخر له ، لأن الأشياء خلقت للإنسان ، وخلق الإنسان لله عز وجل . وأزمة التربية المستورة من الغرب أيضا أنها تكرس التبعية له في كل شيء حتى في الفقه ، حيث اختفت معالمه إلا النزر اليسير منه في مدونة الأحوال الشخصية . أما أزمة تربية ما بعد مرحلة التغريب، فتتمثل في عدم الانطلاق من الأصل الجامع الذي هو كتاب الله عز وجل .
فالمفروض في الأمة أن تكون واحدة ،لكون الأصل الجامع واحد ، ولا ينبغي أن تكون طوائف متشرذمة. وجمع الأمة وتوحيدها يكون انطلاقا من المتفق عليه ، وليس من المختلف عليه . ومن مؤشرات أزمة هذا النوع من التربية عدم اعتماد المنهج الجامع ،وهو السنة النبوية الشريفة . وبناء المسلم الجامع يكون بالمنهج الجامع لا بالمنهج الطائفي ، لأن الطبائع في نظر الأستاذ المربي متعددة ، ولا يمكن تعميمها ، بل يجمعها المنهج الجامع . والأستاذ يفضل التسمية القرآنية وهي الأمة المسلمة التي سماها الله عز وجل كذلك في القرآن الكريم ومن قبل . وإذا ما انفصل المسلمون عن بعضهم جسديا فإنهم في الحقيقة أرواح مجندة يجمع بينها التآلف لأن الكل يتصل بالله عز وجل . ولا عبرة في نظر الأستاذ المربي بالأشباح من أجساد وأحزاب ، وجمعيات ، وطوائف ، وطرق … بل العبرة بالأرواح .ومن مؤشرات أزمة تربية ما بعد التغريب أيضا التأثر بالتجارب التاريخية التي ليست أصلا ، لأن القرآن يساير التاريخ ، ويخاطب كل فترة تاريخية حسب مستواها، ومثل الأستاذ المحاضر لذلك بدلالة آية ( كأنما يصعد في السماء ) التي تحققت من حقيقتها أجيال السرعة ، بينما سلمت بها الأجيال السابقة . ومما يدل على تغطية القرآن الكريم لكل مراحل التاريخ صيغ التعبير عن المستقبل ( سنريهم ) ،وهو تعبير مستقبلي، لأن موضوع الإيمان غيب وليس شهادة .
ومن مؤشرات الأزمة في تربية ما بعد تربية التغريب أيضا الدخن ، وهو نوع من الفساد الخفي . وأنهى المحاضر محاضرته الشيقة بالحديث عن التربية المأمولة ، وهي تربية التلقي من الأصل وهو القرآن ، وعرض التلقي على هذا الأصل ، والانطلاق من الأصل الجامع ، ومن المنهج الجامع وهو السنة النبوية الشريفة لصياغة المسلم الجامع ، لتعود الأمة المسلمة سائدة وقائدة من أجل راحة البشرية جمعاء ، وتحريرها من الطواغيت. والحقيقة أن محاضرة العلامة فاقت ما عبر عنه بتواضع وسماه مجرد نظرات ، بل هي توجيهات جوهرية لبناء التربية الربانية التي تصلح اعوجاج التاريخ المتبقي من عمر البشرية التي آذنت بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقرب نهايته كقرب سبابة اليد من الوسطى . والحقيقة أيضا أنه يحق لنا أن نفتخر ونعتز بهذا المربي الكبير، الذي ينهل من الأصل لبناء مفاهيمه وتصوراته خلاف مناهل المربين الذين ينهلون إما من الفروع ، أومن الموارد الغربية الغريبة عن الأصل والموبوءة. ولقد قدم النصح الثمين لأصحاب التربية ما بعد تربية التغريب ولكن هل من مذكر ؟
1 Comment
ألم يسمع الناس بالمنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا؟