كلية الآداب وجدة : الخطاب الأشعري بالمغرب بين الاعتدال والواقعية
نظمت وحدة مقاصد وأهداف الفكر الأشعري بشعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بوجدة بدعم من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وبتنسيق مع المجلس العلمي الأعلى وجمعية حوار النسائية ندوة علمية يومي 9 و10 ماي 2007 في موضوع “الخطاب الأشعري بالمغرب بين الاعتدال والواقعية”. وفي هذا الإطار تناول المتدخلون الذين جاؤوا من عدة جامعات محاور متعلقة بالفكر الأشعري، فتطرقت دة. ختيري مليكة من كلية الآداب بوجدة إلى جهود الفقهاء المالكية في ترسيخ المذهب الأشعري بالغرب الإسلامي .ثم تناول د. محمد المصلح من نفس الكلية "دور العقيدة في ترسيخ جذور المدرسة الفقهية المالكية بالغرب الإسلامي".من جهتها عالجت دة. فتيحة العبدلاوي من وزارة الأوقـاف والشؤون الإسلامية العلاقة بين العقيدة الأشعرية والفقه المالكي . "من التنوع والاختلاف إلى التوسط والاعتدال مساهمة في إبراز الجوانب التنويرية للفكر الأشعري بالمغرب" كان عنوان مداخلة د. عبد القادر بطار من كلية المتعددة التخصصات الناظور.
أما الدكتورة نز! يهة امعاريج رئيسة الوحدة فقد عنونت مداخلتها ب"الفكر الأشعري : دعوة سنية وضرورة حضارية". وبعد تدقيق النظر في بعض المصطلحات من قبيل "أهل السنة" و"السلف" و" الفرقة الناجية"، بينت الأستاذة بأن" السلفية ليست صفة تختص بمن عاش في القرون الثلاثة الأولى بل هي منهج يمتد إلى كل من أتى بها كانوا عليه من الاعتقاد المنسوب إليهم".
وإذا كانت المصطلحات السابقة – تضيف الأستاذة- قد استعمل على وجه الترادف كما نجد عند ابن خلدون وغيره، وهي تعنى ما كان عليه أصحاب القرون الثلاثة من حيث الانتماء المرحلي وما كانوا عليه من حيث المنهج العقدي، فإن الانتساب إليهم ممن تأخر عن زمنهم ممكن ومتحقق بالتزام منهجهم وطريقتهم، وهذا ما نجد عند الأشعري في كتابه الإبانة حيث يقول: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل وبسنة نبينا محمد (ص) وما روى عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل متوبته قائلون ولما خالف قوله مخالفون. بعد ذلك أكدت المتدخلة على الضرورة المجتمعية الإنسانية ل! هذا الفكر والمراد بذلك حاجة المجتمع إلى هذه العقيدة لما تمتاز به من مق ومات تحقق استقرار المجتمع وسعادة الإنسان، وفي مقدمة هذه المقومات:
1- الوسطية والاعتدال ، إذ أن وسطية العقيدة الاشعرية مستمدة من روح وسطية الدين الإسلامي، ومنهجه، وهو النظام الذي يقوم على التوازن الرافض للتطرف أو الإفراط والتفريء قال تعالى:{وكذلك جعلناكم أمة وسطا} قال الرازي "بمعنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر". ولهذا فسرت هذه الوسطية بالعدالة، لأن الشهادة على الناس لا تكون مدحا وتشريفا إلا أن يكون الشاهد حالة حكمه على الناس عدلا لا يميل إلى أحد. ويبقى الشاهد الأساسي على اعتدال هذه العقيدة وملاءمتها للمجتمع أمورا منها:
أ- الانتشار الواسع الذي حظيت به دون غيرها من المذاهب المعاصرة المنافسة لها رغم سنيتها، كمذهب أبي جعفر الطحاوي الذي ظهر بمصر، ومذهب أبي منصور الماتريدي الذي ظهر في بلاد ما وراء النهر.
ب- اعتناق هذه العقيدة من طرف كبار الشخصيات من مختلف المذاهب الإسلامية فالعقيدة الأشعرية هي العقيدة الوحيدة التي جمعت بين المالكي والشافعي والحنبلي.
ج- تحقيق علاقة التصالح بين التصوف والفقه بعد الفتور والجفاء الذي بلغ ذروته إبان مرحلة الح! لاج [ ت 309] وأتباع الإمام أحمد.
وهذا ما يفسر استيعاب العقيدة الأشعرية لكبار رجال التصوف السني كأبي علي الدقاق [ت 405] وأبي نعيم الأصبهاني [ ت 405] وأبي القاسم القشبري [ ت 465].
2- الاختلاف والتنوع : إن الخاصية الأساسية لموضوعات العقيدة، أنها تقوم على الثبات والاستقرار، إلا أن ورود بعض الآي المتشابه في الكتاب العزيز قد فتح الباب أما المشتغلين بالعقيدة لاعتماد قانون التأويل بالنسبة للآيات التي قد يوهم ظاهرها التشبيه والتجسيم الذي لا ينسجم مع مبدأ التنزيه الإسلامي، كوصفه سبحانه وتعالى بالوجه واليدين والعينين والاستواء وغيرها من الصفات الخبرية. وهذا الأمر جعل إمكانية الاختلاف واردة بين العلماء، إما بحسب اختلاف موقفهم من الآي المتشابه في إمكانية تأويله أو تفويض معانيه، أو بحسب التزامهم بضوابط التأويل المحددة عند العلماء. ولعل ما زاد مبدأ التنوع والاختلاف عمقا في الفكر الأشعري، وجعله ينحو منحى الهدوء والاتزان والتعقل مع الآخر، ضدا عن التطاحن والاصطدام ثابتان أساسيان.
الأول: أن قضية الإمامة، العنصر الأساس الذي أشعل فتيل التطاحن بين فرق المسلمين، هي من فروعه ! وليست من أصوله والاختلاف في الفروع لا يولد الاقتتال.
الثاني: ترسي خ مبدأ التفاؤل والتبشير بدلا عن مبدأ التشاؤم والتنفير، وذلك من خلال ما يلي:
أ- الإيمان تصديق ثابت في القلب والمسلمون كلهم شركاء في هذا الأصل، يقول الأشعري"، ولا تكفر أحدا من أهل القبلة"
ب- الجنة مصير كل مسلم لم يشرك بالله: يقول الأشعري:"وقنطوا الناس من رحمة الله وأيسوهم من روحه وحكموا على العصاة بالنار والخلود فيها خلافا لقول الله تعالى:{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}
ج- رؤيته سبحانه وتعالى في دار القرار فضل ثابت للمؤمن دون الكافر، يقول الأشعري: وندين بأن الله يرى في الآخرة بالأبصار … يراه المؤمنون…ويقول: إن الكافرين محجوبون.. كما قال "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون."
د- من خرج من الدنيا مقصرا نرجو له النجاة إما بفضله سبحانه أو شفاعته صلى الله عليه وسلم أو التصدق عليه والدعاء له يقول الأشعري:"ونرى التصدق على موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك".
فمنطق التطاحن منفي بانتفاء مسبباته، فالإيمان ثابت للجميع والجنة مصير كل مسلم، وبهذا استطاع الفكر الأشعري أن يذوب أسباب الاختلاف، ويقرب المسافات، ويشيع ثقافة التنوع بدلا عن ثقافة ! الإقصاء والاحتكار.
3-رفض تكفير المسلم وهجرة المجتمع.
لقد كان لترسخ ثابت التنوع والاختلاف والترويج له، الفضل الأكبر على واقع الأمة ومستقبلها، ولعل أهم الآثار الواقعية لهذا المبدأ، التصدي لأخطر ظاهر عرفها المجتمع، وهي ظاهر تكفير المسلم لذنب يرتكبه.
إن العقيدة الاشعرية بثوابتها الإسلامية وأبعادها الواقعية قد رفضت تكفير المسلم لذنب يرتكبه "يقول أبو الحسن الأشعري". لا تكفر أحدا من أهل القبلة لذنب يرتكبه…ولا ننزل أحدا من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله عليه وسلم بالجنة ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين". وفي كتاب المقالات يؤكد أن موقفه هذا هو من صميم ما أثر عن أصحاب الحديث حيث يقول:"لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه"
إن الموقف الأشعري السابق يكشف عن مجموعة من الحقائق هي:
1- أن العقيدة الأشعرية هي امتداد شرعي لعقيدة السنة في موقفها من المسلم الفاسق، حيث يبقى باب التوبة مفتوحا في وجهه ما لم يغرغر، وترفض تحديد مصيره في الآخرة، "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه الكتاب…".
فضلا ع! ن التسلم بخلوده في النار، إما لشفاعته صلى الله عليه وسلم أو لعفوه وكرم ه سبحانه وتعالى قال الاشعري:"فإن قال قائل: فحدثونا عن الفاسق من أهل القبلة أمؤمن هو؟ قيل له: نعم مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه وكبيرته من كان فيه إيمان فهو مؤمن".
2- العمل على نشر ثقافة التسامح والتعايش والتجاوز.
3- رفض منطق الإقصاء والوصاية وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة على حساب النسبية الثابتة للإنسان.
ومن متممات الضرورة الاجتماعية السابقة في حرصها على استقرار المجتمع وسعادة الفرد، نجد الفكر الأشعري يؤكد على ثوابت منها:
– اتقاء الفتن والحفاظ على الجماعة:
إن الرفض الشديد لمنطق التكفير إنما كان اتقاء لعواقبه الوخيمة على المجتمع المسلم، ذلك لأن الحكم بالتكفير على المجتمع فضلا على أنه مغالطة فكرية- لأن الحكم بالكفر إنما يكون على الفرد وليس على المجتمع، فهو إيذان بالاقتتال بين أفراده ودعوة إلى مناهضة الجماعة، وكل ذلك مخالف لروح الإسلام الذي دعا إلى التصالح وحث على الجماعة قال تعالى:{إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم} وقال(ص) "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية". إن الحفاظ على الجماعة وحقن دماء المسلمين مطلوب وواجب شرعا والسبيل إلى تحقيق ذلك اعتبار جميع أ! هل القبلة مسلمين وتجنب إثارة الفتن وسفك دماء الأبرياء وهو الأمر الذي روج له الفكر الاشعري بقوة وعمد على ترسيخه داخل المجتمع بثوابته السابقة.
4-الواقعية:
لا أحد يجادل أن الثوابت السابقة التي أقرها الفكر الأشعري إنما أريد به شيء آخر غير إصلاح واقع الأمة وتصحيح تصوراتها، إلا أن الشاهد الأكبر على التلاحم الحاصل بين هذا الفكر والواقع، كونه جاء استجابة لتطلعات هذا الواقع، ولبيان هذه الحقيقة نشير أن النسيج الأشعري قد نشأ في تفاعل تام مع الواقع، فهاهو ذا الأشعري يذكر أن تأليفه لكتابه المسمى بأصول أهل السنة إنما تم بطلب من الفقهاء والشيوخ من أهل الثغر ببلاد فارس يقول الأشعري:"أما بعد: أيها الفقهاء والشيوخ من أهل الثغر بباب الأبواب حرسكم الله بسلطانه وأيديكم بنصره، فقد وقفت على ما ذكرتموه في كتابكم الوارد على بمدينة السلام…ووقفت على ما ذكرتموه من أحمادكم جوابي على المسائل التي كنتم أنفذتموها إلي في العام الماضي…ووقوع ما ذكرته لكم فيها الموقع الذي عهدتموه وعرفتم وجه الصواب فيه". وهكذا فإن قاعدة ارتباط الفكر الأشعري بواقع الأمة، ومواكبته لتطوراته قد ظلت مضطردة في م! ا جاء بعده من مؤلفات علماء الاشاعرة إلى زمن متأخر جدا، فالباقلاني يؤلف كتابه الإنصاف بطلب من سيدة فاضلة أرادت البيان لقضايا عقدية أشكلت عليها، والجويني يؤلف كتابه العقيدة النظامية بطلب من الوزير السلجوقي العظيم نظام الملك، والغزالي يؤلف كتابه شرح الأسماء الحسنى جوابا على سؤال أخ سأله وتقى الدين المقترح يضع شرحا على كتاب الإرشاد لإمام الحرمين لتبسيط عقيدة أهل السنة التي استعصى فهمها بعد سيادة الفكر الشيعي الفاطمي بطلب من علماء عصره.
وتختم الأستاذة قائلة إن مقومات الفكر الأشعري واقعية تصلح للفرد والمجتمع، وقوة هذه العقيدة تكمن أساسا في صياغتها لنسق عقدي له من النضج والصلابة ما يستطيع به مواكبة متطلبات الواقع والإجابة على تحدياته. وهكذا يكون الفكر الأشعري قد أسهم إسهامات نوعية ريادية في مجال الفكر السني والواقع المجتمعي للأمة فكان بذلك دعوة سنية وضروة حضارية.
محمد السباعي
Aucun commentaire