قضية تحريم قول الشعر على الفقهاء في المغرب
من مستجدات الإعلام عبر الشبكة العنكبوتية حق التعليق وهو حق لا يتأتى للإعلام المرئي عبر الفضائيات والبث الأرضي والمسموع عبر الإذاعات والمقروء عبر الجرائد والصحف إلا بأشكال محددة وفي حالات خاصة . ومن ايجابيات الإعلام العنكبوتي معرفة عدد القراء والمتدخلين ومعرفة التعقيبات والتعليقات والتقريظات ؛ مما يحقق التقارب الفعلي بين الناس ؛ ويجعل فكرة العالم قرية صغيرة أمرا واقعا.
وبالرغم من كون بعد المواقع لا زالت تفرض قيودا على المقالات وعلى التعقيبات خشية المتابعات القانونية في حال التجريح ؛ وحتى خشية أصحاب القرار ونقمتهم ؛ فالبداية موفقة وستأتي بالخير الكثير وستتحقق حرية التعبير بالفعل بفضل تكنولوجيا الإعلام إذا ما تغيرت عقليات المصادرة والمعاقبة والاستحواذ على وسائل التعبير وعلى السلطة الرابعة وضمها لباقي السلط لتكريس التضييق على الحريات بذريعة تطبيق القانون.
مما استرعى انتباهي تعقيب لمعقب لم يذكر اسمه وهويته واكتفى بكلمة مهتم أو متتبع ؛ وكان تعقيبه على نص شعري نشرته في موقع جريدة وجدة سيتي ؛ وهو نص غزلي ؛ ولقد عبر المعقب عن ذهوله ولا يكون الذهول إلا في الأمور العظيمة لأنني خطيب جمعة صاحب لحية خرج من وقار التدين إلى خوارم المروءة بقوله الشعر في غرض الغزل . وبالرغم من كون تعليقه تضمن التجريح وهو أمر أشكر الجريدة على نشره لتكون نموذجا لحرية التعبير وليتميز أصحاب النقد من أجل النقد عن أصحاب النقد من أجل الفضيلة والحق والعدل والموضوعية ؛ فالنقد من أجل النقد هو أحكام قيمة تعكس المواقف العاطفية المندفعة بينما النقد الهادف يعكس المواقف الرصينة الموضوعية المبررة التي تحترم الإنسان الذي كرمه الله عز وجل بالرغم من إدانة أعماله ومواقفه غير الصائبة بحكم معايير دينية أو خلقية أو ثقافية وللناس في الإدانة مذاهب .بالرغم من هذا النقد وعلى علاته فقد كان مصدر الهام بالنسبة لي أشكر صاحبه لأنه كان سببا في إثارة موضوع موقف المجتمع المغربي المحافظ من الشعر.
معلوم أن رصيد رجال الدين المغاربة قديما وحديثا من الشعر قليل قياسا برصيد المشارقة والسبب بسيط هو اعتبار قرظ الشعر من خوارم المروءة قياسا على الأكل في الأسواق والخروج بدون عمامة أو طربوش إلى غير ذلك من الخوارم وهي ضوابط من بنات العرف المحافظ الذي قد لا يكون له سند شرعي.
ولا زلت أذكر سجالا علميا بين العلامة المرحوم الدكتور عبد الله الطيب المجذوب والأستاذ الباحث المحقق عبد القادر زمامة بمناسبة مناقشة رسالة جامعية تتعلق بأبي سالم العياشي ؛ وقد بدأ السجال بعنوان الأطروحة ( أبو سالم العياشي شاعرا ) وهو عنوان لم يرض عنه الأديب السوداني المناقش وفضل عليه عناوين أخرى كشعر أبي سالم ؛ وأبو سالم الشاعر واستطرد يقول :( وما أبوسالم بشاعر ولا يضير أهل المغرب ألا يكون فيهم شعراء وقد قال الله تعالى فيهم : // والشعراء يتبعهم الغاوون // ) فثارت ثائرة الأستاذ زمامة وأخذ يسرد أشعار المغاربة التي لا مثيل لها في شعر المشارقة والدكتور الطيب يسترضيه بالاستحسان حتى رضي . لقد أثارت هذه النازلة قضية موقف المغاربة المحافظين من الشعر إذ كان الفقهاء أصحاب ذوق ومواهب ولهم أشعار رائعة في النسيب يخفونها عن العوام حتى لا تنال من مكانتهم الدينية ولربما كشفوا عنها وهم يتغزلون صوفيا بشخص الرسول الأعظم وباللذة الروحية ؛ ونماذج غزلهم الصوفي تعكس مدى خبرتهم بالغزل غير الصوفي ؛ ومن لم يعرف الغزل المحرم منه والمباح فما هو بفقيه ينتدبه الناس لمعرفة حدود الحرام والحلال في كل أحوالهم بما فيها الأحوال الشخصية .
وغير خاف أن أهل الدين و الورع العظماء كانوا ولا زالوا شعراء ويكفي أن نذكر منهم الإمام عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه والإمام الشافعي رحمه الله ؛ وما الداعية الكبير يوسف القرضاوي حفظه الله منا ببعيد. وغير خاف شعراء الإسلام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كابن رواحة وحسان وكعب وغيرهم الذين لا يخلو شعرهم من غزل يؤهل السامع لجلائل الأمور بعد ترقيق مشاعره .
ولعل القرآن الكريم قد رفع من قيمة الشعر خلافا لما يعتقده أصحاب فهم( ويل للمصلين) الذين يقفون عند حد (والشعراء يتبعهم الغاوون) ولا يقرؤون الاستثاء المشرف للشعراء وهو :( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وانتصروا من بعد ما ظلموا) لقد نهى القرآن عن الكذب ( يقولون ما لا يفعلون ) وهو ما عبر عنه الحديث أيضا بقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم :( لئن يمتلأ جوف أحدكم قيحا أو صديدا خيرا له من أن يقول شعرا )فالكذب يشوه الحقائق ؛ ولا يمكن أن يصاحب الإيمان والصلاح ؛ وما كل الشعر كذب عملا بقاعدة : أعذب الشعر أكذبه ؛ وما كل ما يقوله الشاعر ينسب له فعله ؛ فلو كان الأمر كذلك لضاقت الدنيا بما رحبت فما يقوله الشاعر عن نفسه قليل إذا ما قيس بما يقوله عن الإنسان كانسان
وهو ما يعرف بالهموم الإنسانية بغض الطرف عن الأزمنة والأمكنة وعن الأشخاص ؛ ويعبر عنه نقديا بالصدق الفني وهو غير صدق الواقع . فالشاعر ينظم شعرا عن كل القيم الإنسانية بعيدا عن إدانتها وإصدار حكم القيمة عنها ؛ وحتى إن فهم موقفه المتحيز من خلال ما يفضحه تعبيره فتجربته يحكم عليها بقدر قربها وبعدها من هموم الإنسان وبقدر صدقها الفني وهو غير صدق الواقع ؛ صدق ما يمكن وقوعه وهو لم يقع أي محتمل الوقوع .
فقصيدتي أنشودة الحب السجين عبارة عن تجربة إنسانية قد تقع لآلاف الناس فصورتها كما تقع دون أن أكون ملزما بالإقرار أو الاعتراف بأنها تجربة تعنيني؛ لهذا من غير المبرر الذهول لأنني قلتها وأنا خطيب جمعة ؛ فالقصيدة قلتها كشاعر لا كخطيب ؛ ولا مبرر لانتفاء صفة الشعر عني لكوني خطيب جمعة ؛ ولا يشترط في الخطيب ألا يكون شاعرا إن لم نقل العكس .وان سمح له بقرظ الشعر فلا مبرر لمنعه من فن النسيب والا صدق مزاح المرحوم الدكتور عبد الله الطيب مع الأستاذ زمامة والذي فحواه أنه لا يضير أهل المغرب ألا يكون فيهم شعراء لأن الله قال ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) وقياسا على ذلك لا يضيرهم ألا يكونوا فيهم مصلون لأن الله تعالى قال أيضا: ( ويل للمصلين ).
لقد غاب عن ذهن من انتقدني باسم نكرة مخافة أن يدنس اسمه بشعري المدنس في نظره أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم استمع إلى الشعراء واستنشدهم وقالوا في حضرته الغزل ولم يستنكف عن الإنصات لهم وكان خبيرا بالشعر يعرف أصنافه وهو الذي أوقف الجارية المادحة له عندما قالت : (وفينا نبي يعلم ما في غد ) فقال لها لا تقولي هذا وقولي غيره مما كان ينصت له. وهو الذي كان يقول للخنساء : ( هيه ياخناس ) وهو يشاطرها أحزانها وهي تبكي صخرا أخاها بعواطف من سنخ عواطف الغزل والنسيب التي تعتبر من خوارم المروءة عند المحافظين عندنا في أرض المغرب الجميل الذي تغري طبيعته وجمالها بقرض الشعر ؛ والعين التي لا ترى إلا العيب عين سخط فهي عن كل حسن كليلة.وأخيرا أقول التعقيب لا يمثل إلا صاحبه وأنا له محب لأن الذي خلقه كرمه بقوله تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم ) فلا يجوز لي أن أجرحه كانسان وكل ما ذكرته هم التعبير عن عقلية ضائق أفقها في قضية الشعر ومن يحق له أن يقرظه وماذا عليه أن يقول وأن لا يقول .
ولأهل الشعر و عشاقه خاصة النسيب منه أقول لا خوف على النسيب في المغرب فسيظل رقيقا عذبا
والتمسوا للمحافظين عذرا في صدق الطوية وحسن النية والغيرة على دين الله والمنبر بأسلوب تنكب الحقيقة والصواب وإنما الأعمال بالنيات .
Aucun commentaire