قراءة في شخصيات فيلم « كيليكيس » دوار البوم 3- بوزكري: التعليم كآلية للتحرر والانعتاق
أحمد الجبلي
يجمع النقاد بأن فيلم « كيليكيس »، للمخرج المغربي الكبير والمتميز عز العرب العلوي، مشحون بالرموز والإيحاءات الدلالية الفنية التي تختزل الشيء الكثير من المعاني التي تكون الموضوع والرؤية.
فبخلاف ما يراه عدو الرموز أندريه تاركوفسكي من أن الصورة عندما تتحول إلى رمز يصبح الفكر فقيرا أو مكبلا، فاسم الفيلم « كيليكيس » نفسه كان عبارة عن رمز متداول بين المعتقلين يعني « ماذا وقع ». وبعكس ما قاله تاركوفسكي ففهم الرمز يحتاج إلى فكر حر طليق باستطاعته تحريك شبكة جميع الارتباطات بين الخلايا العصبية » synapses » لاستجماع المعطيات وتحليلها للوصول إلى المعنى الأقرب للحقيقة التي يريدها المخرج وفق رؤياه.
كما يحتاج إلى تحريك عملية الذهاب والإياب التي تقوم بها العصبونات » corpus de callosum » كعملية ربط بين مختلف الوظائف التي يقوم بها الدماغ لتسطع قوة الذهن مشعة لاستجلاء الأجزاء وربطها لتكوين صورة شاملة تزيل اللبس عن أي معنى غير مقصود.
إن مخرج الفيلم لم يعطينا دروسا يشرح فيها أهمية التعليم ودوره في التحرر والانعتاق، أو سرد علينا مقطعا نصيا يحكي لنا فيه عن سبب امتناع سكان القرية عن تعليم أبنائهم، كما لم يبين لنا لماذا الكبران أحمد رغم جهله وأميته يتحكم في المتعلمين…
ولكن الدلالات الفنية المنبثقة أحيانا من رموز وإيحاءات وصور من خلال فهمها والربط فيما بينها يمكن أن يوصل إلينا معاني كثيرة وهي معاني أبى المخرج أن يمنحها لجمهوره مجانا وفي ذلك أبهى صورة من احترام العقول وتبجيلها.
كي نعلم محورية التعليم في الانعتاق والتحرير في الفيلم كيليكيس لابد أن نتحدث عن كل متعلم على حدة له دور في معركة العزة والكرامة، فأول المتعلمين هو المناضل الكبير بوزكري، فحتى ولو كان دوره هامشيا في الفيلم أي مجرد أحمق يعيش في ركام وأطلال منسية على ما يقدمه له سكان القرية من طعام خصوصا منه الخبز والتمر، فإن تأثيره كان كبيرا حيث ظل اسمه مشعا في قلب المناضلين كرمز من رموز النضال والصمود والتصدي لعملية تحويل القلعة، التي بناها الأجداد، إلى سجن.
فمن هو بوزكري؟ وما تأثيره في القرية؟ وما الذي حوله من إنسان متعلم ومثقف ومناضل إلى أحمق يعيش خارج المجتمع وأحداثه؟
عندما نتتبع كل ما قيل عنه نجد وصفا دقيقا قد وصفه به حسن وهو يتحدث مع وفاء فسماه ب »المعلم بوزكري » وحتى نتفادى لبس المعنى الشائع في المجتمع المغربي لكلمة « المعلم » التي تعني غالبا الصانع، كما هو الشأن في رواية عبد الكريم غلاب « المعلم علي » التي يعني بها « علي » الصانع المحترف في صباغة الجلود. فإن الترجمة الفرنسية في الفيلم ترجمت المعلم ب » instituteur » والتي تعني أنه معلم كان يدرس في مدارس القرية، كما يقوي هذا المعنى قول الفقيه وهو يتحدث عنه: « هو أول واحد دخل لسجن القلعة، وهو ليس ابن هذه الأرض ولا ابن هذه البلد » بمعنى أن بوزركي كان معلما وافدا على القرية من مدينة أخرى كما هو الشأن بالنسبة للآلاف من المعلمين الذين يدرسون في القرى والمداشر بعيدا عن مدنهم وأهاليهم.
إذن بوزكري المعلم « المدرس » هو أول من حمل مشعل مناهضة عملية تحويل القلعة إلى معتقل، فدخل في صراع مع الجهاز العسكري حتى لا يلحق العار بالقرية وسكانها، وحتى يبقى للإنسان الحق في التعبير والحرية والكرامة، فكان جزاؤه أن يكون أول معتقل بالقلعة ثمنا لدفاعه عن حرية شعب وكرامة دولة، فانتهى به المطاف إلى أحمق من شدة التعذيب، فتم تقديمه كعبرة لسكان الدوار، وكأنه إنذار وتحذير من المتعلمين، لذلك أصبح كل سكان القرية يخافون على أطفالهم من التعليم لكونه الطريق الذي يؤدي إلى الوعي والدراية بالحقوق واستيعاب ما يجري، وبالتالي هو الدافع لاتخاذ موقف ضد كل ما يمس كرامة الإنسان وعزته، وهو الشيء الذي ترفضه الطغمة الحاكمة في القلعة.
ولهذا لم تنجح المعلمة وفاء في إقناع الساكنة بتعليم أبنائهم، وقد رأيناهم يفرون منها كلما حاولت ذلك. وهذا أحد المؤشرات التي تدل على أن القرية كلها كانت سجنا وأن سكانها معتقلون، إذ لا يملكون حرية التصرف كتعليم أبنائهم، على الأقل، ضمانا لمستقبلهم.
إن الجهاز العسكري لم يكتف بتقديم ما وقع لبوزكري كنموذج لمصير المتعلمين فحسب، بل أكثر من ذلك قدم الكابران أحمد الأمي الجاهل كأحد النافذين في القرية من ذوي السلطة الذين يفعلون ما يحلو لهم، وينظمون ما شاؤوا من سهرات ماجنة، ويبتزون ذوي المال والتجارة. وقد لخص الكابران أحمد نفسه هذه المعادلة المقلوبة بقولين: » أنا ما قاريش وكنحكم فهادوك اللي قراو ». « المدرسة غي صداع الراس ». وعندما دخلت وفاء منزله لتحدثه عن تعليم ابنته، لم يدخل وراءها مباشرة، بل نظر ذات اليمين وذات الشمال خوفا من أن يقال بأن معلمة قد دخلت داره.
ولكن كان هناك أناس آخرون كانوا يعرفون حق المعلم بوزكري وفضله وقد احترموه أيما احترام حتى وهو أحمق ولازالو يلبون حاجياته ويطعمونه، كفقيه الدوار والحاجة التي خاطبته بقولها: « الله ينفعنا ببركتك » فجعلته في مقام أولياء الله الصالحين الذين يتوسل بهم إلى الله ويرجى دعاؤهم.
هناك متعلم آخر مثير للانتباه وهو حميدة أحد أعمدة الجهاز العسكري في القلعة، وهو في نفس الوقت ابن القرية، والذي يدون كل ما له علاقة بالمعتقلين في سجل يحمل أسماءهم وكل ما له علاقة بهم حتى أحلامهم.
ولكنه متعلم يعيش اضطرابا كبيرا لكونه نشأ في أحضان أم مومس وتشتغل في حانة ولا يعرف له أبا، إن هذه النشأة التي أفقدته طعم تذوق التعليم وخصاله وما يمكن أن يرفع به صاحبه، جعلته يعيش اضطرابا ملحوظا كالذي فقد بوصلة الاتجاه.
ولكن، مهما يكن، سيكون له دور وإن غير مقصور ولا إرادي في تحقيق الانعتاق والحرية والإسهام في غلق المعتقل.
ويبقى الحديث عن الأستاذة وفاء يشكل صلب الموضوع، لكونها منذ رجوعها إلى القرية وهي تتحرك في كل الاتجاهات لغرس بذرة التعليم في القلوب وإعادة الاعتبار للمدرسة التي حاربتها زبانية القلعة بتشويه سمعة المعلم بوزكري تخويفا وترهيبا للساكنة حتى يمتنعوا عن التفكير في تعليم أبنائهم.
وستكون المعلمة وفاء هي من تنقذ القرية والساكنة على السواء من الظالمين، وذلك بتهريبها لسجل المعتقلين إلى وسائل الإعلام والعالم الخارجي كاشفة عن كل أشكال الظلم والقمع والتعذيب والإرهاب الذي كان يمارسه الكولونيل وزبانيته في حق الشباب المتعلم المعتقل في أقبية مظلمة مفتاحها بأيدي أجهزة عليا نافذة تأتي به طائرة الهيليكوبتير فقط عندما تتم تصفية أحدهم تحت التعذيب والإكراه البدني.
لقد نجح المخرج الكبير عز العرب العلوي إلى حد كبير في إعطاء التعليم القيمة التي يستحقها، من خلال فيلم كيليكيس إذ بوأه مكانة رفيعة فجعله هو الوحيد القادر على محو ظلام الجهل والتسلط والاستبداد، وبذلك يكون قد برهن، بما لا يدع مجالا للشك، على صحة المقولة القائلة: « افتح مدرسة..تغلق سجنا ».
Aucun commentaire