*مَتاهات ذي الجْلالة
« …و »اليأس الجميل » هو اكثر فاعلية من الاشخاص المُروّجين لأمل ميؤوس منه. »
مارسيل خليفة
—————-
مَتاهات ذي الجْلالة* _نص_
في السنوات الأخيرة وهَنني الكِبر.لقد بلغت من العمر نصف قرن أو يزيد ، إذ توخينا الدقة ، عن ذلك قليلا ببعض خيبات و بضع انكسارات .فلم أجد بدّا من ترميم ذاتي المتهالكة لإصلاح ما يمكن اصلاحه مما أفسده الدهر .وعلى الرغم من أن الترميم عملية مكلفة خصوصا بالنسبة لموظف انهكته الديون و الضرائب مثلي ، فإنها ضرورية لمن أراد البقاء على قيد العيش بعد ان استنفدت منه الوظيفة كثيرا من الجهد حدّ الاهتلاك amortissement.قلت في أعماقي إنهم يستنزفوننا وبعد ذلك يُلقون بنا مثل قطعة غيار أو آلة صدئة في لافيراي .
ولأن الأمراض تاتي تباعا ،اكتشفت بعد أن رممت أسناني أن الرؤية لم تعد عندي واضحة كما كانت من ذي قبل.أصبحت أجد صعوبة ومشقة في التمييز بين الرموز والالوان والأشكال بعد أن غزت عيني عتمة. الصناديق عندي أسواء : الزجاجية الشفافة كالخشبية الصماء. يصعب علي كذلك إيجاد الفارق بين المصباح والتمساح ، بين من يركب حصانا أو يسوقه جرارا. أصابني غبش ولم أعد قادرا على التمييز بين من تحرش او تحرشت به الانتخابات الجماعية فأيقظت شهوته في السلطة والمال وبين من تخلى عن قناعته المستعارة عند أول مساومة دنيئة.
لهذه الأسباب و الأعراض وغيرها كثير قررت عن سبق إصرار ودون ترصد زيارة طبيب العيون طمعا في إزالة هذه الغشاوة حتى أتبيّن أمر هذا الالتباس قبل أن يستفحل بي الأمر.
فحصني الطبيب ونصحني أو على الأصح طالبني بإجراء عملية جراحية لإزالة الجْلالة إن أنا أردت أن أستعيد النظر و حدد لي موعدا لذلك.
في اليوم الموعود ، كنت في غرفة العمليات أنتظر دوري . كانت الدقائق تمر في إِبْطاء شديد مثل دقائق رمضان هذا الصيف. وفي الوقت الذي بدأت الشكوك تساورني في أنهم ربما قد نسوني في هذه الغرفة ، جاءت ممرضة تحمل دواءً.
شكلها لا يوحي بالبشاشة أو هكذا خُيّل إلي،تبدو صارمة ولم تكن لطيفة نظيفة خفيفة. فهي لا تشبه تلك الممرضة التي تصفها كتب القراءة المدرسية المخصصة للسنوات الأولى من التعليم الابتدائي.
أمرتني بفتح عيني اليسرى ثم قطرت فيها سائلا ، وبعدها ناولتني حبة دواء وكأس ماء ولما سألتها عن الجدوى من هذا الدواء أجابت بتأفف : » اشرب واسكت «
ابتلعت حبة الدواء بمرارة على مضض .وقلت في خاطري لماذا نحن دائما مطالبون بالسكوت. في المدرسة لقّنونا أن الصمت حكمة . في الإدارات يعتبرونه تكعريرا زائدا. وفي الشارع يطالبوننا بترخيص لكي يسمحوا لنا بإحداث بعض الضجيج . فماذا لو أسسنا حزبا للصامتين؟
بعد لحطة وضعوني في سرير متحرك واقتادوني إلى غرفة مجاورة. وضعوا على رأسي غطاء به فتحة تظهر العين .انتابني شيئ يشبه الخوف. شعرت ببعض الألم كوخزالإبر .طمأنني الطبيب بأنهم على شفا الانتهاء من العملية. وبعد حين سمعت احدهم يقول لي : « على سلامتك »
قدم لي الطبيب عدة إرشادات و نصحني بألا أطأطأ رأسي ولو في الصلاة حتى تستقر العدسة في مكانها .وعدته بأني سأحاول رغم أني أعرف أن الرأس المرفوع في وطني يكسروه بفتحة لأنه ممنوع من الصرف.
تتبعت تعليمات الطبيب فتماثلت للشفاء . وبعد مرور عدة أيام أزلت الغطاء الواقي للعين فخرجت أمشي. مررت قرب البرمان حيث يستكمل بعض النواب نومهم داخله ،وأمام البناية رأيت .رأيت بأم عيني السليمتين، رجلا أمينا اسمه أحمد يُسحل .جروه ثم جروه وعلى الرصيف وضعوه، لكنهم عن مواقفه لم يزحزحوه.
قلت في نفسي إنها عورة من عورات الديموقرطية في نسختها التجربية (beta 2 ,1) ثم تذكرت نصيحة الطبيب و مَشيت.
********
*الجلالة: La cataracteمرض يصيب عدسة العين ويفقدها شفافيتها مما يسبب ضعفاً في البصر .
Aucun commentaire