في ما يرى العاقل الغافل
في ما يرى العاقل الغافل..
من أقبح أنواع الاستبداد هو استبداد الجهل على العلم، و استبداد النفس والهوى على العقل.. كلمة على الطاير- كما يقول أهل الكرة – أسوقها هذه المرّة في مستهلّ الكلام للمستعجلين ،ولمن لا يريدون متابعة وجهة « نظري أو قَدري » على متن هذا البوح، الذي هو بمثابة همسة في بحر متلاطم من الصيحات التي ذهبت أدراج الريح ،مثلما هي الصيحات في واد ،لم يسمع لها سوى الرجع و الصدى..
أقول : همسة أرجو ألا تنصب لصاحبها بعد ذلك مشانق الانتقاد والتجريح .. قال أحد الحكماء الصينيون: « إن أكثر ما يثير غيظي ،أولئك الذين ينظرون إلى أصبعي ويتركون ما أردت الإشارة إليه » .
رأيت فيما يرى النائم على جرحه، الغافل عن أمــره وشأنـه، أنّ طيفا قد زارني بينما أنا تائه في غبار الأسواق وضجيجها, فشدّ من ثوبي وأصلح من هندامي.. وطفق يكلّمني بحديث الناصح الواعظ، من غير أن يستمع إليه المارّة و العابرون:
أي أُخَيْ.. إذا ابتليتَ بالكتابة فلا تستتر مثل ضمائر الجبناء.. وإذا صادف أن حظيت بقارئ، فاحتف به مهما كان رأيه, لأنّ القراءة هذه الأيام يشبهون خِـلاّن العنقاء. و إذا أراد الأخير أن يعرف ما في نفسك ويترك ما في رأسك ،فلا بأس.. قل له مثلاً: أنا أحب الكسكس والطجين بالسفرجل المعسل و اللحم ،والسفر الى بلاد الإفرنج بمفردي.. ولا أطيق الذهاب إلى الحمّام الشعبي ولا مزامير السيارات.. ولا التبوّل عكس الريح، أو على جذوع الأشجار كما يفعل كثير من الناس.. كما أنّني مطلاق » لا أُرَبّي الكَبْدَة على أحد » أي لا أستحمل الحب أكثر من شهر العسل, ذلك لأنّي أحبّذ الندم على ما فعلت أكثر من الندم على ما لم أفعل.. أليس الفشل أجمل من عدم المبادرة ؟!..
أمّا إذا كان رأسك نادر الامتلاء مثلي « أي خاوي ».. كي لا تفهموني غلط، لأنّ اللغة حمّالةُ أوجه » ، وسألوك عن الكتابة التي لا تُتقن غيرها، فقل لهم: أنا أكتب كي أتبادل الحب العابر مع الناس، وأُشْغل قلمي عن مآرب أخرى لا دخل لي فيهـا، ليسمو بي اسمي قبل أن يروه مصلوباً على ورقة في جريدة، فيقولون ساعتها في سرّهم – وبعد فوات الأوان- : مسكين، لقد ظلمناه قليلاً.. ولا يغني – حينئذ – كثير عن قليل..« فهمتيني ولا لا ؟؟ ».
وإذا اتّهموك بالنرجسيّة والتغزّل بالذات، فذكّرهم بأنّ البحيرة قد غرقت في عيني نرجس ، لأنّها قد شاهدت كلّ الذين يُحبّهم على صفحات عينيه، ولا تنس أنّ من يَنحني عند البحيرة هو متواضع بالضرورة، مثل رّجل نّبيل يُقبّل يَـد امرأة في رواية من روايات العصر الوسيط ..
أمّا الأنانيّة فهي – كما الشّتيمة- لا يمارسها كاتب حقيقي، لأنّ الكتابة فعل محبّة وعطاء.. لكنّ ما يُناقضها هو حُبّ الذات، فمن لم يوطن نفسه على حب هذه الحياة بحبّ نفسه و وُجوده بداية.. فلن يُحبّ أحداً ولن يُحبَّـه خالق أو مخلوق.
أي أُخَيْ.. لا تنس أنّ الكتابة هي نَحتٌ في الريـح، تماماً مثل المسرح فن « الآن والهُنا ».. وجد لكي يموت، فأمّا الذي يُخَلَّـد فهو المستقبل الذي لن نتعرّف إليه أبداً.. ذكرني ذلك بمقولة الفيلسوف الفرنسي الكبير » لويس ألتوسير= Louis Althusser « :(الحاضر مستقبل لا يفتأ يحضر، والماضي حاضر لا يفتأ يمضي ).
و اعلم أنّ خجل الرجال أمام كلمات الشّكر أقوى وأهمّ من حياء النساء المصقول بالفطرة، ثم لا تشكر أحداً على قول الحقيقة، لأنها إذا سمت النفوس، كان طلبها للحقيقة والحقّ فرض عين لا يسقط عنها مهما قام به غيرها.. و اعلم دائماً بأنّك لا تعلـم، فإن ساورتك نفسك يوما بغير ذلك، فقد انتهى عِلمك وعَمَلك معا.
و تذكّر يا صاحب الرأس الندية، أنّ السُّطورَ قُبورٌ للصّدور.. ، وإن أشدّ ما أخشاه على رأسك، أن تُصبح قاسية عَصيّة فتُكَسَّـر ،وصوتك المبحوح يَغْـرقُ في الّلجَـج فيُغمَــر، وحينها ، عليك سلامُ الله والمُـدن والقُـرّاء أجمعين.
غـاب الشّاهد في زِحام الأسواق، واختفى بين المارّة والعابرين، مثل قصفة من ريـح ندية تحللت بين ذراع العاصفة. أما أنا.. فتابعت التّيـــه بين الجموع، وكلّما تَفرّستُ في ابتسامة أحد المُتعبين، تَنَـفّستُ حكمة صديقي، فتَسَلَّــلَ قولُه إلى مَسْمَعي، مثل نسائم الفجر الأولى، أو لمس رُطَـبِ النّهود : »ستَظلّ تنزف يا جُرحاً لا يُباد.. و ستواصل رَقصك يا جسداً لا يُـصاد.. فإنْ هو صِيد، أُبيــدَ و أبـــادَ.. قد تُغادرك العُيون ويَمَـلُّ جُنونَك الجُنون، وقد يُحَمِّـــلُك الأُفق « إفكـاً » وخطيئة، وقبل الوصول إليك، قد ينتحر الجواب.. وتُدَمّرك الحقيقة..!
ثم رأيت فيما يرى الهائمُ على وَجـهِ التّيــه، المُتحاملُ على رفع رأسه رغم صلابتها و كبر حجمهـا، أنني طفِقْتُ أصيح في الناس ملء فِـي: « مَنْ كان منكم بلا قلم أو بلا حبر، فليرمني بحجـر، لعلّي ألملم الأمل والألــم. فاجتمع من حولي خلق كثير، وقالوا لي: لا تثريب على كلامك أيهـا المسافر الحائر.. عُدْ من حيث أتيت، قبل أن تُمحى رُسومُك وتُطمَس معالم نعلــك، فتصبحَ مُوحِشاً بعد أُنس، ومشوهاً بعد حُسن.. فشكرتُ لهم حسن الصنيع، وعُدت إلى البيت، وأنا أردد قول امرئ القيس:
لقد طوّفتُ في الآفاق حتى ***** رضيتُ من الغنيمة بالإياب
محمد المهدي ـ تاوريرت
13/05/2015
1 Comment
سلام الله عليكم أستاذي الكريم محمد المهدي
وجدت نصك عميق الدلالة فوقفت أمامه قائلا: القلم وجود وكينونة وإن غاب خطه بقي حطبا للنار
شكرا مع دوام فيض قلمك27RC