ورم الانشقاق يصيب النقابة الوطنية للتعليم العالي…
أقدم مجموعة من أساتذة التعليم العالي بحر الشهر الماضي على تفعيل قرار الانسحاب من « النقابة الوطنية للتعليم العالي »، وتأسيس نقابة جديدة اتفقوا على تسميتها « النقابة المغربية للتعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر »، في سياق ما اعتبروه توجها جديدا لتصحيح مسار الممارسة النقابية، واحتجاجا على تغييب الديمقراطية ورفضا لانحراف الممارسة النقابية في إطار النقابة الوطنية.
وسيكون مجانبا للعقل والصواب القول أن قرارا مثل هذا لن يكون له تأثير على الحركة النقابية الجامعية، مثلما سنكون مأخوذين بالعزة لو دفعنا في اتجاه التقليل من شأن أثر هذا الانشقاق على الموقع التفاوضي للأساتذة الباحثين، لأنه أمر ظاهر لا يخفى على كل ذي عقل. لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا الباب هو: لماذا تم اللجوء إلى تأسيس نقابة جديدة ؟ ولماذا تم اختيار هذا التوقيت بالذات ؟ وما هي الملابسات الظاهرة والخفية لهذا القرار؟ ومن هو المستفيد الفعلي منه ؟ وهل يمكن لمثل هذا القرار أن يحل المشاكل الداخلية للنقابة الجامعية المغربية ؟
يستدعي الجواب على هذه الأسئلة كلها وضع المبررات التي قدمها المنشقون عن الإطار النقابي الوحدوي في محك التأمل والبرهان، حتى يتسنى للجميع النظر في قوة حجتهم، وتقييم الأعذار التي قدموها للخروج عن الصف النقابي، ولعل المتأمل في هذه المبررات يجدها قديمة-جديدة، إحداها القول بإصرار الهيكل الوطني على عدم تفعيل مقررات المؤتمر التاسع للنقابة، وتغييب الديموقراطية في الأجهزة الوطنية، وهذه حجة يصح وصفها بالحق الذي أريد به باطل، إذ يعرف الجميع أن المناخ السياسي والنقابي بالبلد لا يرقيان إلى مستوى ما يتحدث عنه المنشقون، لاعتبارات سوسيولوجية وتاريخية مركبة، وكل حديث عن تفعيل بنود الممارسة الديموقراطية بالشكل الطوباوي الذي يتحدث عنه هؤلاء (على مستوى الشعارات التي يصعب تنزيلها على أرض الواقع)، ما هو إلا مزايدات وقفز في الهواء.
هذا الكلام نسوقه في إطار بيان تهافت هذه الحجة، دون أن نعني أن النقابة الوطنية تعرف فعلا حالة قصوى من غياب الديموقراطية على مستوى هياكلها الوطنية، بل نعني أن النقابة تعرف وضعا محتدما من التدافع والاختلاف، لاعتبارات إيديولوجية وسياسية مختلفة، وهو وضع قديم يعود إلى زمن تأسيسها، لكنه وضع طبيعي، في مجمله، لا يخرج عن حدود السيطرة، ولا يحول دون اضطلاعها بمهامها في الدفاع عن حقوق الأطر العاملة بالقطاع، بل يساهم، في أحيان كثيرة، في الرفع من مستوى يقظتها وجاهزيتها لخوض المعارك النضالية، ويذكي لدى منخرطيها إحساسا مستديما بضرورة التعامل مع صيغ الاختلاف، ويطور لديهم الحساسية التواصلية والتفاوضية، ويمهرهم في شأن تدبير الأزمات التنظيمية.
أما بخصوص مبرر الاحتكار والاستفراد بالقرارت، وهيمنة الفصيل الواحد، فإننا لا نرى أن الوضع على هذه الدرجة من القتامة. ثم إن الحديث بلغة الفصائل والتيارات يعني أن ينسحب فحوى الاتهام على الجميع، بما في ذلك من يصكه ويشيعه بين الرأي العام، ونحن نعني أن الطرف الذي لا يتورع في إعلان تذمره من هيمنة طرف مفترض، هو بدوره منتم إلى فصيل آخر، سعى بدوره بمنطق ضمان التمثيلية في الهياكل المختلفة (جهويا ووطنيا) إلى الهيمنة على اللجان والمكاتب والمجالس، وفشل في بلوغ مآربه، فعلق ذلك على مشجب النزعة الاحتكارية، ومقولة المؤامرة، ومثل هذا التسويغ صار مبتذلا من فرط ما سمعناه مبررا للانشقاقات التي عرفتها التنظيمات الحزبية والنقابية المغربية.
ثم إن القول بالسعي إلى التخلص من هيمنة التوجه الواحد، لا يكون بخلق إطار نقابي محسوب على تنظيم حزبي، ليكون ذراعا له بالجسد الجامعي، يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، أما موضوع الدفاع عن الجامعة العمومية فيبدو أمرا بعيد المنال، لأن الجميع يعرف موقف هذا التنظيم الحزبي من الجامعة المغربية، وتصوره لطبيعة مهامها وغاياتها الكبرى، ومن شاء أن يقف على تفاصيل ذلك فليعد إلى مشروع القانون الصادر عن الوزارة الوصية القاضي بتغيير وتتميم القانون 01.00 المتعلق بتنظيم التعليم العالي والبحث العلمي، وهو المشروع الذي يظهر أن الحكومة (ومعها الحزب الحاكم المشار إليه) يسعيان بجد إلى وضع عجلة القطاع على سكة قانون السوق، ومن ثم الشروع في التملص من واجب التعامل مع القطاع باعتباره خدمة عمومية. وهو ما لا يبدو غريبا عن حكومة تجاهر باختياراتها اليمينية.
يقول المنشقون أيضا بوجود تمثيلية غير متكافئة للفعاليات الجامعية (على المستوى الفئوي لا السياسي أو الإيديولوجي) في الإطار النقابي الوحدوي، وهذا أمر لا يمكن تكذيبه بأي حال، فهو باد لا يسعى أحد إلى تغطيته، ثم إن الأدبيات والمقررات النقابية تشهد بذلك وتعترف به، وتراه مشكلة ينبغي حلها سريعا، من خلال تجاوز النمط الفئوي التجزيئي الذي تم به معالجة الملفات وتدارسها مع المسؤولين عن تدبير القطاع. وللإشارة أيضا فمسألة التفاوض على قاعدة الفئات ليست إشكالية بسيطة مثلما يريد المنشقون إشاعته، بل هي مشكلة عويصة ترتبط بمتغيرين رئيسين على الأقل: أولهما تنوع صيغ التوظيف بالقطاع، وتعدد الشواهد الجامعية التي التحق بموجبها الأساتذة والموظفون بهذا القطاع، وثانيهما تفاوت درجات الضرر التي لحقت عددا من الفئات، ومن ثم صعوبة إقناع المتضررين وغيرهم بالتفاوض على قاعدة الحلول الجماهيرية.
أما بخصوص اختيار هذا التوقيت بالذات، فالأمر لا يحتاج إلى بذل مجهود فكري، لأنه مرتبط ببساطة شديدة بالأجندة الداخلية للتنظيم الحزبي الحاضن لهذه النقابة الجديدة، ومرتبط أيضا بالاستحقاق الانتخابي الذي لم تعد تفصلنا عنه سوى ايام معدودة، ونعني انتخاب ممثلي الموظفين في إطار اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء (المزمع تنظيمه يوم الثالث يوليوز 3 يوليوز 2015).
لقد كان حريا بهؤلاء النظر مليا، بشكل موضوعي حيادي، في حصيلة النقابة من زاوية مكتسبات الأطر العاملة بالقطاع، وكذا من منظار دفاعها عن الجامعة العمومية التي ترفع شعار جر قاطرة التنمية بالبلد، بعيدا عن منطق « المزايدة والتبرير » الذي تم اللجوء إليه للدفاع عن قرار الانشقاق، وذلك لكي يستقيم الحكم ويسلم التقييم، وتتضح الصورة الحقيقية لما تحقق من المطالب، فينكشف بذلك البون الفاصل بين ما تم رفعه من شعارات وبنود في الملف المطلبي، وبين المنجزات على أرض الواقع (باستحضار الشروط الذاتية والموضوعية)، وبذلك يكون من المتاح قياس المسافات، وتقييم الحصيلة، ووضع اليد على مكامن الداء والعطب في الجسد الجامعي.
لقد أتيح للمغاربة المنشغلين بالشأن النقابي أن يقفوا على التبعات السلبية للتشرذم النقابي، وأن يتلمسوا تهاوي الثقل التفاوضي للنقابات بسبب مسيرة الانشقاقات التي عرفتها المركزية-المركزيات النقابية، أفلا يبدو لهؤلاء أنه من المستحيل تحقيق نتيجة مختلفة من تجارب متماثلة ؟ أفلا يتعظ هؤلاء ؟ أيتوقع المنشقون غير مزيد من التضعضع؟ أم أن الحسابات التي دفعت في اتجاه تأسيس النقابة الجديدة غير تلك المعلنة في هذا الصدد؟
لقد كان حريا بالأساتذة المنشقين عن النقابة التفكير في الاعداد والتحضير للمؤتمر الوطني للنقابة هذه السنة بدل التفكير في الانشقاق، والدفع في اتجاه إقناع المؤتمرين بالانتصار لتصورهم النقابي، ثم الدعوة لتوفير الإمكانيات المادية والمعنوية واللوجستيكية لإنجاز مهام التدريس والبحث العلمي، وكذا المطالبة ببناء كليات جديدة لاستقبال الوفود الغفيرة والمتزايدة للطلبة، مع تمكينها بالزاد البشري والمادي والتشريعي الذي يسمح لها بالمساهمة في تحقيق الإقلاع السوسيوإقتصادي، مثلما كان حريا بهم أيضا رص الصفوف، والتكتل في إطار الإطار النقابي الوحدوي للوقوف في وجه من يسعى إلى المساس بمكتسبات الأساتذة في التقاعد، والنضال من أجل توقيف مسلسل التسويف والتماطل الذي يعرفه الملف المطلبي الوطني.
هذا ليس سوى جزء يسير من التحديات التي تنتصب أمام الجامعة المغربية، وخيار الانشقاق لن يزيد هذه المشاكل إلا تعقيدا، وسيحول معركة النقابة دفاعية محضة لا يراد منها سوى الحفاظ على ما تحقق من مكتسبات، ومن المؤكد أن يقال عن المناخ النقابي الجامعي بعد انصرام سنوات ما يقال اليوم عن المناخ النقابي المدرسي، سيحن الجميع إلى سنوات الوحدة، وسيستشعر الجميع حجم الخسارة التي كان بالإمكان تجاوزها بقليل من الحكمة والتبصر. فعل تسمعون ؟
Aucun commentaire