نموذج المعرفة والقيم :المنهج المعرفي واتجاه القيم في رسائل إخوان الصفا
*-سياق فكري عام:
إخوان الصفا وخلان الوفا ،من فلاسفة الإسلام في القرن الثالث الهجري، تألق منهم أبو سليمان محمد بن مشير البستي المقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني ،وأبو أحمد المهرجاني ، والعوفي…برعوا كلهم في بناء نسقهم الفلسفي، وصياغة أطروحتهم في المعرفة الكونية، والمعرفة الإنسانية ،من مرجعيات الفلسفة اليونانية ،والفكر الفلسفي الإسلامي ،على أساس التوفيق بين الحقيقة الدينية الثابتة والمطلقة ،والحقيقة الفلسفية المرحلية والنسبية. وتوجوا مساهمتهم في مراكمة الجهد و الحاصل البشري ،من المعرفة المجردة ،والمشخصة ، بكتاب متحفي سموه : »تحف إخوان الصفا » ،يشتمل على 52 رسالة ،تتطرق لقضايا العلم، والبلاغة والحكم، وطرائف الأدب ،وجوهر المعاني، ونظرات المتصوفة وتقع في 4 أقسام :
1-رسائل رياضية تعليمية.
2-رسائل جسمانية طبيعية.
3-رسائل نفسانية عقلية.
4-رسائل ناموسية شرعية وإلهية.
والمتفحص للعناوين العريضة، المشكلة لمتن الرسائل ،يكتشف تسخير إخوان الصفا ،للمعرفة العلمية للفهم المرحلي النسبي المتطور، للمعرفة الإلاهية والشرعية النهائية، من خلال تحويل المعرفة العالمة المعقدة والمركبة ، إلى معرفة متعلمة بسيطة ومتدرجة ، في أفق بناء وضعيات تعليمية وتعلمية، ملائمة ومؤهلة ،لتحقيق هذه الغاية.
وسنحاول استجماع مبادئ المنهج المعرفي القيمي لإخوان الصفا ،من خلال الرسائل الرياضية التعليمية ، التي تقع في أربعة عشر رسالة ، تخوض في عرض، وتحليل قضايا معرفية صرفة منها :
1- العدد 2- الهندسة 3- النجوم 4- الآثار العلوية 5- كيفية تكوين المعادن 6- ماهية الطبيعة 7-أجناس النبات 8- أصناف الحيوان 9-تركيب الجسد 10-الحاس والمحسوس 11-مسقط النطفة 12-في معنى قول الحكماء 13- في كيفية نشر الأنفس 14-بيان طاقة الإنسان.
انطلق إخوان الصفا في تشكيل منهجهم المعرفي القيمي من مصادرة فكرية أساسية مؤداها : »أول الفلسفة محبة وأوسطها معرفة وحقائق الموجودات وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم ». من هنا اقتصروا في تدريس المادة المعرفية للناشئة على أربعة علوم أساسية حقة وتجريبية وإنسانية :
1-علم الرياضيات.
2-علم المنطق.
3-علم الطبيعيات.
4-علوم إلهية.
*-مبادئ المنهج المعرفي القيمي:
يسجل منهج إخوان الصفا تقدما بينا على عصره ،عندما يتبنى التعليم المجزوئي بدل الموسوعي، وفق قانون التضافر العمودي، الذي يتوخى خلق الانسجام والتكامل ، بين حلقات المادة التعليمية ، كمكونات مادة الجبر،أو الهندسة…
والأفقي، الذي يركز على العلاقات بين العناصر المعرفية ، على طريق إحداث التناغم بين المواد المدرسة ،مثلا الجبر والهندسة والمنطقيات لفهم الإلهيات ،في أفق تكوين مجزوءات متكاملة ، تحقق ما يسميه بييير جيلي، ونص عليه ميلود التوري في كتاب تدبير المجزوءات ص160 ومابعدها ،بوحدة الخبرة ،حيث يربط التعلم بالمحيط، وحاجيات المتعلم والوسط البشري.
مرالمنهج المعرفي القيمي عند إخوان الصفا ،بثلاث مراحل:
1-النقل الديداكتيكي.
يتولى منهج إخوان الصفا تنظيم الصنافة المعرفية ،من خلال تشغيل مبدأ النقل الديداكتيكي ،كما وظفه عالم الاجتماع مشيل فيري سنة 1970 ،في كتابه: »أزمنة التمدرس »، وإيف شفلار في كتابه: » النقل الديداكتيكي من المعرفة العالمة إلى المعرفة المتعلمة « ص 20 السلسلة البيداغوجية ،ديداكتيك النصوص لمحمد البرهمي ، وإسقاطه على علم الرياضيات ، لتعريف المتعلم بالجوهر، والعرض، والبسيط ،والمجرد، والمفرد، والمركب، للبحث عن المبادئ، والخواص ،والترتيب ،والأنواع…فعمدوا إلى تقسيم علم الرياضيات إلى أربعة فروع :
1-الجبر، أو الأرتمتيك: ويتخصص في معرفة خواص العدد ،وما يطابقها من معاني الموجودات ، التي ذكرها فيتاغورس، ونيقوماخس.
2-الهندسة، أو الجيومتري : وتتولى عرض علم الهندسة بالبراهين ،المذكورة في كتاب أقليدس، لمعرفة المقادير والأبعاد، وكمية أنواعها، وخواصها، ومبدآ العلم النقطة ،وهي طرف الخط، ونهايته. وهي نوعان : هندسة حسية ،تتعلق بمعرفة المقادير ،وما يرى بالبصر، ويدرك باللمس كالخط ، والسطح ، والجسم ذي الأبعاد ، و هندسة عقلية ،تدرك الثقل.
ص 27 و28 من الرسالة الثانية في الهندسة .
3-علم النجوم، أو الأسطر ونومي :يهدف إلى الإحاطة بحركات ، وحقيقة النجوم بالبراهين ،من خلال كتاب المجسطي ، و كتاب علم الفلك لبطليموس.
4-علم الموسيقى : ويتوخى معرفة تأليف الأصوات ،واستخراج أصول الألحان .
وبعد إعمال العقل في المضامين المعرفية ،وضبط وظائفها ،وتحديد مرجعياتها ،لجأوا إلى ترتيب عناصر المادة المعرفية المدرسة خارجيا، أي: مع المواد الأخرى. وداخليا ،أي : بين مكوناتها الخاصة ، وفق تسلسل منطقي متدرج يحكمه قانون التسخير : الجبر والهندسة والتأليف والتنجيم والمنطقيات والطبيعيات، التي تبحث في المبادئ الجسمانية الخمسة: كالهيولى، والصورة، والزمان، والمكان، والحركة ،لتكون جميعا في خدمة الشرعيات، التي وضعت لطلب النفوس للآخرة ،وهي ستة أنواع كعلم التنزيل، الذي يخرج القراء ،والحفظة، والتأويل الذي يكون ، الأئمة ،والروايات أصحاب الحديث، والأخبار ،والفقه والسنن الذي يؤهل، الفقهاء والأحكام والتذكار ،والمواعظ، والزهد ،والتصوف الذي يعد، العباد والزهاد، و الإلهيات تبحث في العقائد وتكون رجال الدين وعلماء الأصول والقراءات … وخير مثال على ذلك حسن تنظيمهم وترتيبهم لدروس العدد : بدءا من حقيقة العدد ،وخواصه ،والفصل في التام والناقص والزائد، ومرورا بالأعداد المتحابة، وتضعيف العدد، وخواص الأنواع ، وانتهاء بالعدد الصحيح، والضرب ، والجذر، والمكعبات ،والعدد المربع، وخواص العدد المجذور، وكنموذج على ترتيب مكونات درس العدد وربطه باللفظ حيث « يدل اللفظ على المعنى، والمعنى على الاسم، والاسم على اللفظ، وأعم الألفاظ الأشياء ،والشيء واحد على سبيل الحقيقة والمجاز، والواحد لاجزء له ولاينقسم وهو ما ليس فيه غيره.والواحد بالمجاز جملة، يقال لها واحد: كالعشرة ،والمائة، والألف …والواحد واحد بالوحدة ،ونقيض الواحد الكثرة، فهو جملة من الآحاد ،وأول الكثرة اثنان وثلاثة…والكثرة نوعان : عدد وكمية ، صور الأشياء في نفس العاد والمعدود، وهي الأشياء نفسها .وأما الحساب، فهو جمع العدد وتفريقه ،وهو نوعان : صحيح وكسري ،وهو أصل العدد منه تنشأ باقي الأعداد. » ص15 الرسالة الأولى في العدد
2- الامتلاك الديداكتيكي :
اهتم إخوان الصفا بنفسية المتعلم ، ورغبتها في طلب العلوم ،والفنون والآداب، كشهوة الجسم إلى الطعام المتنوع ،وإلى التذوق واللون والرائحة، كما تعرضوا إلى قدرات المتمدرس ، وأرضياته المعرفية لحيازة المعرفة الجديدة ، بعد تجاوز عوائقها الإبستمولوجية التسعة ،التي هي نقطة بداية المعرفة : 1 هل هو؟ 2- ما هو؟ 3- كم هو؟ 4- كيف هو؟ 5- أي شيء هو؟ 6- أين هو؟7- متى هو 8؟- لم هو؟ 9- من هو؟.
لهذا تحرى إخوان الصفا الدقة ، في ضبط مفهوم العلم : »وهو صورة المعلوم من النفس ،واعلم بأن أنفس العلماء علامة بالفعل ،وأنفس المتعلمين علامة بالقوة. وأن التعلم والتعليم ليسا شيئا سوى إخراج ما في القوة ،يعني الإمكان إلى الفعل ،ويعني الوجود.فإذا نسب إلى العالم سمي تعليما، وإن نسب إلى متعلم سمي تعلما. »ص99-100 .
وحددوا بأستاذية واقتدار مباحث العلوم ومقاصدها في :
1-العلوم الرياضية: وتهدف إلى طلب المعاش وصلاح أمر الحياة الدنيا…
2-العلوم الشرعية : وتتفرع إلى ستة ،تروم ضبط العلاقة بين الخالق والمخلوق، وصلاح أمر الآخرة.
3-التدخل الديداكتيكي :
في الرسالة الثامنة في الصنائع التعليمية ، انبرى إخوان الصفا ،إلى طرق الاكتساب العلمي، وحللوا العملية التعليمية التعلمية من عدة مداخل، أولها تعريف التعليم : » هو تنبيه النفس العلامة بالفعل، للنفس العلامة بالقوة. » و »التعلم هو تصور النفس، لصورة المعلوم . » ص106 وثانيها عرض طرق التعلم ،وحصرها في ثلاث :
1-الحواس .
2-البرهان.
3-الفكر والروية.
وثالثها تحليل العملية التعليمية التعلمية ، فالتعليم « هو الدلالة على الطريق . وأما التعلم فهو » الطريق من القوة إلى الفعل ».
فالمعلم دال ،والتعليم دلالة ،والتعلم طريق، والمعلوم مطلوب ،مدلول عليه.
وهذا العلم المدرس يخلق الامتداد، ويفتح باب حذق الصنائع، ومهننة المعرفة . لذلك ربطوا بين علم الهندسة والصناعة ،لمعرفة الأبعاد: كالطول، والعرض، والعمق .ومعانيها كل ما يتصور في النفس بالفكر. ومن هنا أفاض الإخوان ،في دراسة النقطة ، وهي شيء لاجزء له ،ويدرك عقليا ،ثم تدرجوا في عرض قضايا الهندسة ، من أنواع الخطوط :المستقيم ، والمقوس ، والمركب ،أي :المقوس المنحني ،ووصف الخطوط، وأنواع الزوايا، وأنواع الخطوط القوسية ،والسطوح ، والأشكال المستقيمة ، مما له علاقة بالصناعة والصنائع العملية : » إخراج الصانع العالم، الصورة ، التي في فكره ، ووضعها في الهيولى. والمصنوع: هو جملة مصنوعة من الهيولى، والصورة جميعا، وابتداء من النفس الكلية ،فيها بقوة تأييد العقل الكلي، بأمر الله جل ثناؤه. » ص106.
لهذا فصلوا في تحديد ماهية الهيولى ،عندما تكون أشكالا، ونقوشا ،وأصباغا . والموضوع عندما يصنع الصانع، هذه الأشكال والنقوش. وهونوعان : بسيط كالنار، والتراب، والماء ،والهواء .ومركب: مثل الأجسام المعدنية ، والحيوانية ، والنباتية . والمصنوع عندما يتهيأ ويوجد. والأداة عندما يستعمله الصانع في صنعته ، أو صنعة أخرى.
وقادهم الاستعراض التطبيقي لمهننة المعرفة ، إلى تحديد أنماط المصنوعات :
1-بشرية : تتكون من النقوش، وأصباغ الأجسام الطبيعية.
2-طبيعية :تتشكل من صور ،وهياكل الحيوانات ، وفنون أشكال النبات والمعادن.
3-نفسانية :تتمحور حول نظام المراكز، كفلك القمر، وأصل الأشياء كالماء ،والتراب ، والهواء ،والنار.
4-إلهية : تستوعب الهيولات ، والمبدعات ، والمخترعات الجديدة.
ثم رصدوا العلل الصناعية .فلكل معلول صناعي أٍربع علل: علة هيولانية كالخشب مثلا ، وعلة صورية مثل الشكل المربع ، وعلة الفاعلية كالنجار، وعلة التمامية مثل الكرسي.
وإلى جانب اهتمامهم بالمعرفة في منهجهم ،اكترث إخوان الصفا كثيرا بالنفس، باعتبارها وسيطا فعالا بين العقل والمحيط ،في عملية التلقي ، وصقل المواهب ، وتنمية القدرات ،وترقية الدرايات والملكات.
فاعتبروها : » جوهرة روحانية حية بذاتها ، فإذا قارنت جسما صيرته حارا مثلها . »ص113 لأنها تملك قوتين :
1- قوة علامة: تنزع نحو رسوم المعلومات من الهيولى ،وتصورها في ذاتها.
2- قوة فعالة : تخرج الصور في فكرها ، وتنقشها في الهيولى الجسماني، ليكون مصنوعا لها.
ويوصل الاستبطان لجوهر النفس الإنسانية ، إخوان الصفا إلى تقسيمها إلى قسمين :
1-نفس ناطقة ، أو إنسانية : تتشهى العلوم والمعارف ، وتنزع نحو الاستكثار والتعمق. وتتشهى الصنائع والأعمال والحذق والافتخار، لأنها تتشهى العز، والرفعة ، والرقي ،والفرح ، والسرور، واللذة ، والراحة…ص123
2- نفس الملكية وقدسية أي : فوق إنسانية : تروم القرب من الله.
وهذا التصنيف للنفس البشرية ، يفضي بهم إلى اعتبارها مصدر الأخلاق والقيم: » المركوزة في الجبلة « ، ودافع السلوك والمعاملة ،التي تتحكم فيها الطبيعة :
1-مريخية :ميالة إلى التعصب، والجدال والخصام.
2- مشترية : نزاعة إلى إبداء الآراء، والحوار، والورع واللين.
3- تابعة للاعتقاد والمذهب.
كل نوع من النفس، وكل نمط من السلوك، يتطلب شكلا من المعرفة ،ويقتضي استدعاء مبحث الإياغوجيا ،للبحث في ماهية العلوم ،ونوع الأسئلة ، وطبيعة الأجوبة ،لتأمين الانتقال إلى الخوض في جنس ملائم من العلوم ،واستنفارإيساغوجيا ، للبحث في مداليل الألفاظ و المعاني الستة ، المؤثة لنسيج الخطاب العلمي ،من قبيل الشخص والنوع والجنس، والفصل والخاصة والعرض .ص102 ولضبط هذه المدلولات نحتاج إلى أنولطيقا ، التي تشتغل على كمية الأنواع ، وكيفيات الاستعمال لإنتاج شيء محسوس ، قابل للتعلم.
إن منهج إخوان الصفا المعرفي والقيمي ، يعد بحق مقاربة عقلانية للمعرفة الإنسانية ، ومدخلا رئيسا لعلوم النظر في حقائق الأشياء ، والوجود والكون ، وعالم الإنسان ،يروم تقريب فهم المتعلم، من النظر في علم المعرفة.
*-المصدر:
-رسالة إخوان الصفا لإخوان الصفا :
Aucun commentaire