إصلاح منظومة التعليم من وجهة نظر ابن خلدون
إصلاح منظومة التعليم من وجهة نظر ابن خلدون
يعتبر التعليم أحد أهم القطاعات الفكرية التي تناولها ابن خلدون بحثا وتقريرا كالعمران والاجتماع، والفلسفة والاقتصاد، والتصوف ، بحيث ربط المسألة التعليمية التربوية بالمجتمع أكثر من ربطه إياها بقطاعات الفكر الأخرى التي تناولها بالبحث مثله مثل علماء الغرب المحدثين أمثال » جون ديوي » و إذا كانت قوة« جون ديوي « تتمثل في تحليله لمختلف المشاكل الاجتماعية التي تواجهها التربية في مجتمعنا الحديث، فإن قوة ابن خلدون في هذا التحليل نفسه فتظهر وتتجلى في نظرته الاجتماعية الواسعة الآفاق التي كانت تواجهها التربية في عصره آنذاك ، وإن كان الفرق بينهما يتعلق بطبيعة المجتمع الذي تقوم به التربية في كلا العصرين .إلا أن الدارس لآراء ابن خلدون التعليمية والتربوية يجدها أكثر ملاءمة لأوضاعنا نحن اليوم من آراء » جون ديوي« ،وإن كنا نعيش في عصر ديوي زمانا.
عدد ابن خلدون نقائص التعليم في عهده على النحو التالي:
-1 آفة التلقين
يؤكد ابن خلدون على انتشار ظاهرة التلقين في التعليم في عهده ، خاصة في تعليم القرآن الكريم حيث كان الّصغار ملزمين بحفظ آيات من كتاب الله دون مناقشة، وبطريق عفوية آلية و كان الأطفال يكررون ما يذكره المعلم من فقرات إلى أن يتم لهم حفظها بطريقة آلية ،
و المنطق السليم يستدعي المناقشة والمحاورة من أجل اكتساب ملكة اللغة، يقول ابن خلدون في هذا السياق : » وأيسر طرق هذه الملكة قوة اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها . فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا، لا ينطقون و لا يفاوضون »
وهذا السبب الأول الذي يركز عليه ابن خلدون إنما هو سبب ملموس حاليا، و عيبا جسيما تعاني منه مؤسساتنا التربوية، و كذا الهياكل الإدارية الأخرى التابعة للمنظومة التربوية المكلفة بالمتابعة البيداغوجية. و الإشكال مع معلمينا هو إدراكهم لهذا المشكل وما مدى تأثيره في انحطاط المستوى التعليمي إلا أنهم يتغافلونه.
-2 الحفظ دون الفهم :
يقول ابن خلدون مستدلا على رأيه: » و إلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم، لشدة عنايتهم به،
وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية وليس كذالك » ، أي أن ابن خلدون يسقط الحفظ الواهي، غير الحامل لفائدة، و يرى أن القدرة أو الملكة العلمية لا تكمن في الحفظ الكثير، دون الفهم و المناقشة، و إنما وجب على المتعلم أن يفهم ما يحفظ حتى يتمكن مما هو فيه من علم، و هذا يعني أن ابن خلدون لم يرفض الحفظ، و إنما يجب أن تكون طريقة الحفظ جيدة، حيث يقول: » قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ، لمن يروم تعلم اللسان، و على قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه، و كثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ »
3 ـ كثرة التأليف في المادة الواحدة :
يرى ابن خلدون أن كثرة التأليف في تحصيل العلوم ضار، و الوقوف على غاياتها، حيث يقول: » اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم و الوقوف على غاياته كثرة التأليف
واختلاف الاصطلاحات في التعليم، و تعدد طرقها، ثم مطالبة المتعلم و التلميذ باستحضار ذلك، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل ».
4 ـ كثرة الاختصار :
في مقابل الكثرة، في التأليف للمادة الواحدة نجد كثرة الاختصارات في العلوم، خاصة عند المتأخرين، معتمدين في هذا على حصر مسائل العلم و أدلته باختصار الألفاظ و حشر المعاني في التعليل منها . و هذا طبعا يؤدي إلى صعوبة تلقى المادة العلمية المراد دراستها، بحيث يرى ابن خلدون أنها طريقة سيئة في التعليم، بحيث إن التلميذ ينقطع فهمه لها نظرا لصعوبة المعاني، مما يؤدي إلى قصور الملكات المتحصل منها، حتى ولو كانت الموضوعات المطلوبة بسيطة، يقول ابن خلدون في هذا السياق : »ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق، … وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير و البيان، فاختصروها تقريبا للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه و أصول الفقه، وابن مالك في العربية، و الخوانجي في المنطق و أمثالهم. وهو فساد في التعليم، و فيه إخلال بالتحصيل، و ذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم كما سيأتي »
فالمتعلم هنا يكون أمام أمور عدة عليه تحقيقها عن طريق التعامل معها، أهمها:
-1 الكتب الكثيرة المؤلفة في المادة الواحدة.
-2 اختلاف الاصطلاحات في التعليم ذاته.
-3 تعدد طرقه.
-4 مطالبة المتعلم باستحضارها في الوقت المطلوب.
5 ـ كثرة القواعد في علوم الآلة :
يرى ابن خلدون أن الإكثار من القواعد و القوانين في العلوم التي هي آلات لغيرها مثل العربية و المنطق و أمثالهما خروج عن مقاصدها، و بالتالي يصبح الاشتغال بها لغوا.
وربما يكون هذا عائقا في تحصيل العلوم المقصودة التي شأنها أهم حيث يقول : » اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات، كالشرعيات من التفسير و الحديث و الفقه و علم الكلام،…، وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم، كالعربية
والحساب وغيرهما للشرعيات …
فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها و لا يستكثروا من مسائلها، وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده ، وقد أصاب ابن خلدون في هذا.
-6 الاقتصار على القرآن :
يرى ابن خلدون أن تعليم الطفل القرآن الكريم كعلم أساسي وضروري عام وشامل. على المعلم الاهتمام به من أجل ترسيخه لدى المتعلم الصغير السن، و هذا ما تؤكد عليه الدراسات الحديثة خاصة مع ظهور التقنيات الفنية الدقيقة في المتابعات المباشرة للسير الحسن للمؤسسات التعليمية و التربوية بحيث تبين أن تدريس القرآن الكريم ضرورة لابد منها رغبة في صقل شخصية التلميذ وتعزيز مبادئ الدين الإسلامي الحنيف فيها. لكن الاقتصار على القرآن الكريم فقط لا يتماشى و التطورات التي يواكبها التعليم بداية من عهد ابن خلدون إلى يومنا هذا.
7ـ استعمال العنف:
إن إقامة التعليم على الإكراه و الشدة و العنف بدل التشويق، وإرهاف الحس مضر بالتعليم
والمتعلم خاصة مع أصاغر الولدان لأنه من سوء الملكة ، حيث يقول ابن خلدون : » و من كان مرباه بالعسف و القهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، و ضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل و حمل على الكذب و الخبث، و هو التظاهر بما في غير ضميره، خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه »
فابن خلدون هنا يعالج مشكلة العقاب كأحد العوامل التي تساعد على حفظ النظام في الدراسة، لكنه بحثها بشكل علمي، بمعنى أنه بحث في المسألة بطريقة عميقة و دقيقة، محاولة منه في استيعابها من خلال التركيز على ثغراتها، بحيث إنه لم ينظر لأضرار العقاب
و الشدة و القسوة، من جانب واحد فقط ، و إنما بحث أبعادها التي تترتب كنتيجة حتمية قاسية في حق المتعلم من جهة، و تأثيرها على مستواه التعليمي، ومدى أحقية المعلم في إصدار هذا العقاب من جهة أخرى. وقد مثل لهذا بالعلاقة بين الحاكم و المحكوم
زد على هذا فإن ابن خلدون قد ربط بين مساوئ العقاب ومسؤولية الدولة اتجاه الأساليب غير السلمية المنتهجة من قبل المعلمين في معاقبة التلاميذ، حيث يقول : » فينبغي للمعلم في متعلمه و الوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب. و قد قال محمد ابن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين و المتعلمين: » لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا » ومن كلام عمر رضي الله عنه: » من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله ». حرصا على صون النفوس من مذلة التأديب
إن ابن خلدون لا يقف عند نقائص التعليم في عهده و لكنه يقترح بدائل من أجل تطوير ميدان التعليم، وكذا بعث جيل مثقف حامل للواء العلم و التحدي المعرفي، و قد جاءت مقترحاته على النحو التالي :
الحلول المقترحة في ميدان التعليم من قبل ابن خلدون:
بعد أن نظر ابن خلدون لواقع التعليم في عصره، من خلال تحديد ثغراته، نجده يقف مع اقتراحاته التربوية التعليمية، و التي حاولت حصرها فيما يلي:
-1 التدرج في تلقين العلوم :
تأتي هذه الطريقة كرد فعل من قبل ابن خلدون على استعمال العنف و الإكراه في التعليم في عصره، بحيث يرى أن التعليم يجب أن تتبع فيه منهجية خاضعة للمنطق، و الأسس العلمية الدقيقة، و قد شرح هذا بدقة قائلا: »اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا، وقليلا قليلا، يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن، هي أصول ذلك الفن و يقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله، و استعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن.« بمعنى أن يكون تلقين العلوم بشكل تدريجي مكرار بصفة تصاعدية بما يناسب المتعلم و الموضوع معا. بحيث إن للمتعلم قدرات واستعدادات معينة على المعلم أن يعيها ويحسن التعامل معها، كما للموضوع أو للفن جزئيات و اختلافات على المعلم أن يراعيها أيضا في تقديم علمه، و في هذه الإشارة القصيرة التي أوردها ابن خلدون في شأن مراعاة استعداد قدرات التلميذ العقلية و النفسية حضور قوي له بين علماء التربية و التعليم المعاصرين، وبين علماء النفس المحدثين أيضا.
-2 الإلمام بقدرات المتعلم وعدم إرهاق فكره :
يرى ابن خلدون أنه من واجب المعلم أن يعرف نوعية المتعلمين الذين يتعامل معهم، بمعنى أن يدرك مدى قدرة استيعابهم للمعلومات التي يتلقونها من قبله، ونوعيتها، لأن الفكر الإنساني بطبيعته يتطور تدريجيا، بحيث يتأثر بما يكتسبه من معلومات و مهارات و ما يعرض له من خبرات تتحكم كلها كما وكيفا في سلامة ونمو فكر المتعلم، وسلامته و إنجاحه. لذلك نجد ابن خلدون يربط هذا الاقتراح أو هذا الرأي بتطور الفكر الإنساني الذي يتطور شيئا فشيئا.
-36 عدم الانتقال من فن إلى فن آخر قبل فهمه :
يؤكد ابن خلدون على ضرورة الانتقال بالمتعلم من علم إلى علم جديد إلا بعد التأكد من فهم ما سبقه، أي أن ابن خلدون هنا يتحاشى الخلط الذي من الممكن أن يصيب المتعلم و الذي سيؤدي به إلى العجز وعدم الفهم، وقلة التحصيل، حيث يقول : » و لا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره، ويحصل أغراضه، و يستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره، لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد، و النهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم، و إذ خلط عليه الأمر عجز عن الفهم، وأدركه الكلل، و انطمس فكره،ويئس من التحصيل، وهجر العلم و التعليم » .
-4 الابتعاد عن التجريدات و اعتماد الطرائق الحسية للصغار:
يبعد ابن خلدون طريقة الأساليب التجريدية، خاصة مع المتعلمين الصغار، لهذا وجدته يؤكد على التجربة الميدانية، وفي هذا دليل على خضوع منهج ابن خلدون في الميدان التعليمي إلى المنطق العلمي، بحيث يقول في هذا الصدد : فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجيا. ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة، إلا في الأقل، و على سبيل التقريب و الإجمال و بالأمثال الحسية ، فالعادة هنا تتحقق وتكتسب بصورة واضحة مع التعليم الحسي عكس صعوبة حصولها مع التعليم عن طريق التجريد، لأن الملكة التي يريد ابن خلدون تكوينها، لها دعامتان: دعامة حسية جسمية،وأخرى فكرية معنوية لذلك كان نقل المعلومات إلى التلميذ بالمباشرة أصوب و أكمل .
-5 تنويع الأساتذة للكبار :
يرى ابن خلدون أن ما يزيد المتعلمين كمالا في التعليم هو كثرة الأساتذة /المشيخة
وتوزيعها خاصة لهؤلاء المتعلمين الكبار، و كذا الرحلة في طلب العلوم، حيث يرى أن ما يزيد في كمال التعليم الرحلة7في طلب العلوم ولقاء المشيخة، ويؤكد هذا قائلا: » فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخه… و تعدد المشايخ، يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها، وتنهض قواه إلى الرسوخ، والاستحكام في الملكات، ويصحح معارفه ويميزها » وهذا رغبة في رفع مستوى التعليم وترقيته.
-6 عدم الاقتصار في التعليم على القوانين اللغوية المجردة عن الواقع و الاستعمال.
يفضل ابن خلدون لو أن المعلمين يعتمدون واقعهم اللغوي في تعليمهم للقوانين اللغوية، أي أنهم يأخذون منه في دروسهم الملقاة على تلاميذهم، فيضربون في معطياتهم التطبيقية أمثلة نموذجية مأخوذة من واقعهم المحيط بهم، و ذلك نظرا لاقتراب المتعلمين من واقعهم هذا يوميا، وهذا ما لم نلاحظه نحن اليوم في واقع مدارسنا.
أخيرا أقول : إن ابن خلدون قد حاول إرساء مقاييس وقواعد للتعليم ناسبت عصره، وتناسب عصرنا الحالي رغم التقدم التكنولوجي، وكذا التطور في الفكر التربوي التعليمي الذي آل إليه التعليم بمناهجه وطرائقه اليوم. رغم خلو عهده من هذه التقنيات و الوسائل المساعدة للمعلم
والمتعلم، وكذا لكل ما يخدم ويساعد على السير الحسن لهذه الهيكلة. لكن ما وجدته واضحا في آراء ابن خلدون التعليمية ومقترحاته كبديل للنقائص التعليمية في عصره، هو إلمامه العام بهذا الميدان في إطار اجتماعي بحت أي أن ابن خلدون حاول أن ينظر للمدرسة كهيكلة وبناء اجتماعي يتحسس المجتمع بكل مشاكله، و يتحسسه هذا المجتمع بدوره، ولا شك أن انتقادات و مقترحات ابن خلدون لا زالت صالحة في ضمان سير مدرسة جيل معاصر سليم فكريا
ومعنويا، أي مدرسة معاصرة تخدم الطفل فكريا، و تراعي أبعاده النفسية بكل تقلباتها من جهة، وأحواله الاجتماعية بكل فوارقها من جهة أخرى، في تجليات مظاهر الحياة.
Aucun commentaire