نفس الغياب
نَفَس الغياب
غياب بحجم الحضور, حضور الذين آوتهم القبور و أنفاسهم بين أحبّتهم تدور. حضور تشهده الوسادة التي كانت تؤنس خده وتسند ظهره في أيام المرض الأخيرة. تكاد تنطق لتقول أنه كان هنا وهو يستسلم للنّوم أو يقاوم الدّاء متسلّحا بالتّسبيح وبالدّعاء . حضور يشهده دفء اللّحاف حين كان يهجره ليعانق لسع القرّ وهو ذاهب لصلاة الفجر.
أشجار الزيتون التي كانت تحيط بمسجد عمر ابن الخطاب, حيث كان يحلو له المقام, تكاد تبوح بمناجاته كلما جلس تحتها قبل صلاة الفجر في انتظار فتح الباب. ورغم أن الزيتون لقي حتفه مؤخرا بقرار من مجلس المدينة فما زالت الجذور هناك حافظة للعهد تشهد له حسن الجوار والجلوس في سكينة.
أما العصا التي أعانته على حمل جسد أنهكته الأيام والأسقام فلن تنسى مصافحته لها كلّما هَم ّبالخُروج وكيف كانت تردُّ المصافحة بأحسن منها فتأخذ بيده إلى بيت مريض أو بيت عزاء وترافقه إلى المسجد من صلاة الصبح إلى صلاة العشاء.
جلابيبه مازالت تحفظ أنفاسه مذ اختار التحرّر من محاصرة سروال ومعطف لجسد فضّل حرية الحركة داخل جلباب لا يفرض عليه الاحتياط في الحركات والسكنات للمحافظة على أثر المكواة.
أمّا العمامة البيضاء, والتي كانت تميّزه, فما زالت هُنا تحمل بصماته وهو يطويها بشكل خاص ويلفّ بها رأسه بطريقة مميّزة. عمامة كانت لا تترك رأسه إلاّ في عُهدة المخدّة : لا يمكن أن ترى رأسه إلاّ فوق وسادة أو تحت عمامة. تلك العمامة التي بقيت وحيدة لأول مرّة في المصحّة تنتظر عودته بعدما جرّده الممرّضون من لباسه وأسلموه إلى الجرّاح.
مازال صدى دعائه لي يتردد في كل مكان في البيت .كلما قبّلت يده ,أكرمني بقوله: « الله يجعلك من عباد الله الصّالحين ». كان يدرك بفراسة المؤمن حاجة الأب لابن صالح. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له. » فاللّهم اجعلني من عباد الله الصّالحين لأكون أهلا للدعاء لأبي رحمة الله عليه.
» أفضل طريقة لتحب أحدا هي أن لا تنسى أبدا أنك ستفقده يوما ما. » مقولة فرنسية لطالما ردّدناها وتناسيناها. فماذا لو أحسسنا بقيمة من حولنا من أحبة وحاولنا الإحسان إليهم والتجاوز عن زلاتهم وابتسمنا في حضورهم قبل نبكي غيابهم؟
1 Comment
تعازينا الحارة ايها الابن البار وندعوا لهم بالرحمة والمغفرة والهمكم الصبر والسلوان