نموذج المعرفة والقيم :المنهج التربوي عند ابن سحنون قراءة في رسالة آداب المتعلمين
لانغادر قيروان تونس دون أن تستوقفنا ثلاث قمم : القابسي ،ابن خلدون، ثم ابن سحنون، الفقيه المالكي المزداد بالقيروان سنة 202 هجرية ،والمتوفى عام 256 هجرية ، المنفتح على علوم عصره، وثقافة بلده ،صاحب المنهج التربوي المتميز، المبثوث بين ثنايا، وطيات رسالته القيمة : » آداب المتعلمين ».وهو منهج يكشف أن الكتاتيب القرآنية ،لم تعد ترتكز على العنف ،والضغط، كما كانت ، مما يؤشر على توجه نحو اتجاه تربوي جديد، يقوم على سبعة أصول صحيحة :
1-التنظيم : يرتكز الزمن الدراسي عند ابن سحنون، في رسالة آداب المتعلمين ،على ثلاثة أزمنة رئيسية :
أ-زمن الحفظ : ويتم داخل الكتاتيب القرآنية التي أسسها الفاتحون، كموسى بن نصير، وعقبة بن نافع، ومن سار على نهجهم، كإسماعيل بن أبي مهاجر… ويشمل التدريس بها حفظ القرآن الكريم، وتعلم قراءته، برواية نافع وكتابته خطا ،ورسمه بالشكل ،وإتقان الهجاء، ونهى عن التغني بالقرآن ،وتلحينه ، يقول /ص/ : » إن الله تعالى يحب، أن يقرأ القرآن ،كما أنزل. » »اقرأوا القرآن بلحون العرب، وأصواتها ،وإياكم ولحون أهل الكتابين، وأهل الفسق » .الجامع الصغير للسيوطي نقلا عن الأمهات 1 ص43 . ويعتبر هذا الزمن الأول إجباريا، حيث يكون الطفل مرتاح البال، نشيطا ،ذاكرته فتية ،ولاقطة ، و في لياقة تامة ،لاستيعاب المتن القرآني، وتثبيته. ويوصي ابن سحنون أن يصطنع المؤدب، منهج الرعاية والتتبع، وتحفيزالمتعلمين بالدنانير، أو الفاكهة يقول: أخرج ما عندك من الأيتام ، فيشتري لهم الفاكهة ،ويطعمهم ،ويدهن رؤوسهم ،ويقبل بين أعينهم، ويقول ما عسى أصنع لكم ،اللهم هذا الجهد مني » معالم الإيمان الجزء 2 ص 235 236 .
ب-زمن الفهم: ويعتبر زمن التفتح، وتنويع التكوين من خلال تعدد العروض التربوية، كالحساب، والشعر المستحسن غير المائع ، وأخبار العرب وأنسابهم، واللغويات :كالنحو، والغريب، والخط ، وزاد ابن سحنون الخطابة على علماء عصره ،، لتأهيل الطفل منذ حداثة سنه ، وتدريبه على الفصاحة ،والشجاعة الأدبية…
ج- زمن الترويح وتصليب الذات :
يسمح ابن سحنون للمتعلمين، بعد بذل الجهد في التحصيل والاكتساب ،باللعب والتريض، في الاستراحة ، وأوقات الفراغ ، والعطل ،لأن الحركات الرياضية تساهم في بناء جسم المتعلم ،وتروح عن نفسه، وتدفع عنها الملل والتعب .يقول ابن سحنون مخاطبا ،أحد المؤدبين : » وما حال صبيانكم في الكتاب ؟ فقلت له : » ولع كثير باللعب » فقال : « إن لم يكونوا كذلك، فعلق عليهم التمائم. يريد ألا يكسر الأطفال عن اللعب، إلا المرض. » كتاب المدرك للقاضي عياض الجزء 4 ص 242 مطبعة الرباط. ألا يعتبر هذا تنصيصا على حقوق الطفولة ،ومن جملتها حق اللعب، الذي يؤكد عليه الإمام أبو حامد الغزالي في : »ينبغي أن يؤذن للصبي بعد الانصراف من الكتاب، أن يلعب لعبا جميلا ،يستريح إليه من تعب المكتب ، بحيث لايتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب ،وإرهاقه في التعلم دائما يميت قلبه ، ويبطل ذكاءه ،وينغص عليه العيش ،حتى يطلب الحيلة، في الخلاص منه رأسا. »إحياء علوم الدين الجزء 3
2-التدرج :
يلح ابن سحنون على التدرج في أماكن التعلم ،فالكتاب روض للتربية الأولية ،ومعهد للتعليم الابتدائي ،أما أعمدة المسجد، وحلقاته، وأسطوانات العلم ،فهي مراكز للتفقه ،واستكمال الدراسات العليا، في علوم القرآن، والحديث، وأصول الدين…
3الإدماج: يمكن الجمع بين الأزمنة الثلاثة، بالتتابع .وكذا الجمع بين معلمين ،في مجلس واحد، والجمع بين علوم القرآن ،وعلوم اللسان…
4-الاختيار: يجوز للمتعلم اختيار السورة، أو الحزب ،الذي يحفظه مؤدب الأطفال ،يتم اختياره وفق معايير دقيقة ، تنبني على الأخلاق كالاستقامة، والعفاف ،والعدالة، والتمكن من علوم القرآن ،واستشهد بقول الشيخ الصالح أبي إسحاق الجبنياني : » لاتعلموا أولادكم إلا عند رجل حسن الدين ،لأن دين الصبي ،على دين معلمه. « مناقب الجبنياني ص25 ويشترط القابسي مجموعة من المواصفات، في المعلم منها : »ينبغي أن يكون المعلم مهيبا لا في عنف ،لايكون عبوسا مغضبا،ولامبسطا ،مرفقا بالصبيان دون لين ،وينبغي أن يخلص أدب الصبيان لمنافعهم. » المعيار8 175
ويختم ابن سحنون بنص ينسبه للصحابي، عتبة بن أبي سفيان يوصي فيه مؤدب ابنه : » ياعبد الصمد ليكن أول إصلاحك لولدي، إصلاحك لنفسك فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت ،علمهم كتاب الله ولاتملهم فيه فيتركوه ،وروهم من الحديث أشرفه ،ومن الشعر أعفه ، ولا تنقلهم من علم إلى آخر حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مشغلة في الفهم،وعلمهم سير الحكماء وأخلاق الأدباء، وهددهم في أدبهم دوني ،وكن لهم كالطبيب الذي يعجل بالدواء قبل معرفة الداء ، واستزدني بزيادتك إياهم أزدك في بري ». العقد الفريد 1/196 .
5-التكافؤ:يعتبر ابن سحنون من أوائل الفقهاء ،الذين أفتوا بتعليم الفتاة إلى جانب الفتى، ولكن دون اختلاط ، ومن غير أن يتحفظ في المقرر التكميلي : الحساب ،والشعر…وفي هذا دعوة صريحة لترسيخ مبدأ تكافؤ الفرص، وتحقيق المناصفة بين الجنسين ،بادئا بنفسه ومن ابنته خديجة ،التي بلغت درجة علمية كبرى، إلى جانب الشاعرة مهرية الأغلبية. وقد شاع التعليم بين الفتيات الحرات والجواري، والفقيرات والغنيات ،ودعا إلى العدل، والمساواة بين الجميع. واستشهد بقول لوالد سحنون : » يجب العدل في التعليم ، ولا يفضل فيه بعضهم على بعض، ولو تفاضلوا في الجعل ، إلا أن يبين ذلك لوليه في عقده . »المعيار للونشريسي ج8 ص156.
6- التفرغ : يشترط ابن سحنون في منهجه التربوي على المعلم، أن ينقطع لمهنة التعليم ،ولايحترف غيرها، ويملأ وقت فراغه بما يفيد تلاميذه، ويراقب حركاتهم، وسكناتهم.
7- الحوار والرفق:
يقول الشيخ أبو إسحاق الجبنياني : » رحم الله أبا عبد الله محمد بن سحنون ،لو علم الصبيان ، لرفق بالمعلمين . » بالفعل لقد شدد ابن سحنون في رسالته، على الرحمة والرفق بالمعلمين ،لأن ممارسة العنف المادي والرمزي، له تأثير سلبي على التكوين العقلي ،والبناء النفسي لشخصية الطفل : إن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم ،سيما في أصاغر الولد ، لأنه من سوء الملكة، ومن كان مرباه بالعسف والقهرمن المتعلمين، أو المماليك ،أو الخدم سطا به القهر، وضيق على النفس انبساطها ،وذهب بنشاطها ، ودعاه إلى الكسل ، وحمل على الكذب والخبث …وفسدت له معاني الإنسانية ،التي له من حيث الاجتماع، والتمدن…بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل، والخلق الجميل … المقدمة لابن خلدون ص 494 .
إن منهج ابن سحنون التربوي، لايقل أهمية عن اتجاهات التربية الحديثة ،لايحتاج إلا إلى الانتظام داخل نموذج تدريسي، تتم أجرأته خاصة في التعليم الديني الأصيل، ويستفاد منه في اتجاهات، وشعب التعليم العصري.
المرجع : كتاب آداب المعلمين لمحمد بن سحنون مطبعة العرب تونس سنة 1972
Aucun commentaire