مـآزق التعليم بالبــادية ج 2
الطلحاوي نجيب
تحدثنـا في مـا سبق عـن آفـة الأقسـام المشتـركـة و مـا تـؤسسه من أرضيـة فاسدة للتعليم الجـاد ، لنـسجـل إذن أن الحديث عـن “الأقسام المشتركة” هـو حديث عـن أزمـة تربوية حقيقية و أن حدتهـا تزداد كلمـا اجتمـعت فيهـا عوامـل تضخم أعـداد التـلاميذ مع تعدد المستويات، و عندمـا تتــسلـسلُ المستويات كلهـا ضمن قسم واحد وإن ضم عددا قليلا من التلاميذ فإن الأمـر لـن يعدو أن يكون فضاء مُعتَركيا تنعدم فيـه ظروف التدريس المسؤول و يفتقـد فيه إلـى شروط النـظام التربوي،و كـل أستـاذ مـارس المهنـة في العـالم القروي إلا و يدرك أنـه أمـام ظواهـر لا يصدقهـا العقل بحيث كـاد الأستـاذ أن يتحول إلـى حـارس أو شرطـي همـه ضبـط الشغب و الفوضـى و الحيلولة دون نشوب نزاعـات داخلية ، و هـي صورة قـاتمـة تردت فيهـا وظيفـة المربي إلـى مهمـات الحراسات الصباحية و المسائية
من جهـة أخـرى، إذا كـانت بعض الأدبيات التربوية تنزع نحو محـاولة إظهـار مزايا الأقسام المشتركة من حيث اعتبارهـا فرصـة لتعلم ذوي المستويات الدنيا من تـلامذة المستويات العليا ضمن فصل متعدد فإن الواقع يجب تصويره من زاويـة أخرى، فأهـل الطـرح الأول يبدون و كأنهم يتعـاملون مـع الفصل المخضرم بفهـم بارد حول سلوكـات المتعلمين حيث تتصرف معهم كمـا لو أنهم “رجال” منضبطون ينتبهون للأستـاذ عندمـا يقوم بوضع أنشطـة للمستويات دون الأخرى، و الحقيقـة أن انتباه مستوى عندمـا يتعلق الأمر بدرس لمستوى آخـر ضئيل جدا يكـاد يكون منعدمـا بخصوص المستويات الدنيا (الأولى و الثانية) كمـا أن تفاعلهم مع أقرانهم لا يكـاد يتحقق إلا بموجب دواعـي ترفيهية خـارجة عن إطـار الأنشطـة التربوية التعلمية ، و هـذا أمـر طبيعي بحكم التكوين السيكولوجي للمتعلم المبتدئ ومفهوم في سياق حدود عمره المتكوِّن ، الشيء الذي يزيد من محنـة الأستـاذ و هو يقوم بواجبات الشرح أو البنـاء فيضطـر مـعه إلـى تشغيلهم بشيء من شأنـه أن يُروِّح عن نفسـه قليلا ليتيح لـه إمـكانية التواصل مـع الآخرين بهـدوء ، و حتـى في حـالتنـا هـاته لا يسلــم من قفزات متعلم هنـا أو هنـاك يثيـر “معـارك” داخـل مستواه الفصلي فيرفع الأستـاذ صوتـه حينا و يقمع حينـا أخـرى حتـى مـا تكـاد الحصـة تنتهـي حتـى تـزهـق نفسيته و تخر عزيمتـه من شدة الضجيج و الأحـاديث الجـانبية . في الحقيقـة، إن إحداث توازن في فصل متنوع يضم تشكيلات شتـى هـو أمـر يخرج عـن حدود السيطرة، و محـاولة ابتكـار أساليب لإسكـات متعلمي الفصل الدنيا أو استرضائهم تصير عديمـة الجدوى عندمـا تجتمـع عوامـل تعدد المستويات مع كثافـة المتعلمين داخل الفصل الدراسي إذ لا منـاص آنـذاك من اللجوء إلـى “الترهيب” التربوي لفرض سلطـة “الأمـر الواقع” ، و في جميع الحـالات تٌنتِــج مثل تلك الوضعيات اللاتربوية مشاكـل حبلـى بالمصاعب و المصائب منهـا على سبيل المثال حجم الاستنزاف البليغ لطـاقة أستـاذ كـان يمكن استغـلالهـا في بنـاء الوضعيات و جوانب التقويم و الدعم و منهـا حجم تبديد أوقات المتعلمين المخصصة للحصص حيث لا يستفيدون منها إطلاقا بسبب “الأقسام المشتركة” التي تُقـسِّم عقل الأستـاذ إلـى أشطر متنـافرة يستحيل لـه إتمـام الجدولـة الزمنـية اليومية لكل مستـوى،
و هـذا الأمـر يُنتِـجُ بدوره آفـات مرتبطـة بشيئين :
أولا : بعدم استيفاء المقرر الدراسي فيضطـر فيه الأستـاذ إلـى مسابقة الزمن لإنهـائه في موعده فيثمر آفـة طغيان زمن التعليم علـى التعلم (نفي للمقاربة بالكفايات)
ثانيا : ”بحرق” مواد دراسية جملة فلا يُكتَـفـى إلا بتحقيق الحد الأدنـى من التعلمات في عصر تُطـالبُ فيه بتكوين متعلمين قادرين علـى رفع التحدي أمـام تسارع قيم العولـمة و اشتداد المنـافسات الدولية ! و لعلنـا قد لا نبالغ إذا قلنـا بأن أهـم عـاهـات التدريس في “الأقسام المشتركـة” إنمـا تكمن في غياب الاستراتيجية البيداغوجية المحدِّدَة لمنهـجيات التصرف التربوي داخـل الفصل المزدوج ، إذ أن هـذا الغياب بدوره يفتح الباب أمـام ارتجالية تعليمية بإيقاعـات غير منظمـة تتحكم فيهـا اجتهـادات المدرس ليس إلا
علـى أن الاجتهـاد المطلوب تربويا يتمـثل في خلق طرق تعين الأستاذ علـى تحقيق الأهداف المركزية بمـا في ذلك وضع تخـاطيط استعدادية و أنشطـة متنوعـة تُيسـر عمله داخل الفصل الدراسي و تستهدف جهـات عـامة و خـاصة ، أمَـا و أنّ حالة الفصل المزدوج علـى مـا يشهـده من تنـاقضات فجـة في الذهنيات و الأعمـار فإن الحديث عـن الاجتهـاد هـو حديث عـن تبرير العجز ، مدارُ حديث المُراقب التربوي في موضوعات إشكـالات الأقسام المشتركة لا تكـاد تخـرج عن أحاديث الحث على استحداث طرائق تُسهـل عملية التعلم ، و هـو حث يخفي في الحقيقة اعتراف بشذوذ الوضع التربوي و خروجـه عن قواعـد التدريس في أنظمتنـا التعليمية الرسمية
إن القضيـة لا ترتبط فقط بحدود عجز الأطـر التربوية عن صياغـة منـاهج تربوية تنسجـم مـع ظروف الأقسام المشتركة و إنما المـلامَ يدور إجمـالا حول الصمـت المؤسساتي و إعـراض لجـان التخطيط و المنـاهج عن التفكير الجاد في صياغـة مشروع تربوي يراعـي خصوصيات العـالم القروي نـاهيك عن إشكـالات الأقسام المشتركة التي تحد من قدرة المتعلمين علـى الفهم الجيد و الاستيعاب الخلاق، و باجتمـاع العـجز و الصمت علـى وجود إكراهـات حـادة في الفصل المزدوج تكون القضيـة قد طُـويَـت إجمـالا و صـار المدرس فـارسا يصول و يجول بـلا منـهج . علـى أن هـذا الاجتهـاد الفردي بصفته حـلا اضطراريا رغم مـا قد يقدم من نتـائج محدودة إلا أنـه لا يُمكِّـنُ البتـة من استيفـاء شروط التمدرس السليم، إذ يُنــتِج اختـلالات تربوية في مقدمتهـا إهـدار أزمنـة تعلمية (حصص) و التضحيـة بمواد و مضامين بفعـل انحسار الغلاف الزمنـي علـى حساب مواد أخـرى لا تقل أهمية عنهـا ، و هـو إهـدار فرضه واقع مثقل بإكراهـات التعدد المزدوج و أملتـه اعتبارات تقديم الأهـم علـى المهم لأجـل تحقيق الحد الأدنـى من التعلمـات و لإنـقاذ مـا يمكن إنقاذه في فصـل يضج بالمتنـاقضات المضاعـفة، و إذا أضفنـا معيقات مرتبطة بطبيعة القرى و انغلاق جل أهـاليهـا فإن مسؤوليات المدرس تزداد ضخـامـة إذ يكون أشبـه بمن قُذِفَ في سـاحـة الوغــى دونمـا عتـاد أو خطـة
إن وضعـا كهـذا لا يمكن أن يعين المدرس علـى أداء واجباتـه المهنية و لا أن يشجـعه علـى مضاعفـة مجهـوداته، بـل يؤثـر سلبا علـى مردودية الأستـاذ و المتعلم فيفرز لنـا حصيلـة بـاهتة في آخـر السـنة و تضيع كل المستويات فيوضع المدرس وراء قضبـان الاتهـام كمـا لـو أنــه هـو من صنـع الأزمـة و أشرف علــيهـا دون أن ينتبـه الجميع إلــى المسؤولية الجمـاعية و المشتركـة و إلـى الأزمـات الموضوعية التي تخرج عن السيطـرة في الغـالب ، و في كثير من الحـالات يعتبر القرويون بؤس المردوديـة نـاجمـة عـن اعتبارات ذاتية تعـود للأستـاذ شخصيا و لا يقيمـون وزنـا للوضع اللاتربوي الذي يواجهه المدرس في الفصـل فيستنزف طـاقاتــه و يطيح بمعنوياتـه ، نـعم في بعض الحـالات يكون القوم صـادقين عندمـا يتعلق الأمـر بمدرس تِرحـالــي متمرد علـى وظيفتـه النبيلـة عبر الغيابات المتكررة أو بالإهمـالات الفوضوية داخـل الفصـل فـلا حديث لنـا مع هـذا النـوع من المدرسين الذين يسيئون لأسرة التعليم عمومـا و إنمـا قصدنـا ينصب حول الأطـر الملتزمـة تربويا بمسؤولياتهم الدينية و الوطنية و الإنسـانية ، فئـة من قطـاع تستفزهـم آفـات شيوع الأمية و الجهـل بالبوادي فيقاتلون في المعركـة الشرسـة فيُقتلـون ( ينهـارون بفعل الإجهـاد) أو يقتلون ( ينجحون في مهمـاتهم و لو في حدودهـا الدنيا )
و بمـوازاة مـع هـذا الاجتهـاد الفردي الذي فرضـه واقع ضغـط عدد المتعلمين في الأقسـام المشتركة(الأقسام المُعتركة) فإنـه يدفـع المدرس أيضـا إلـى اختصـار مخل للمراحـل البيداغوجية للأنشطـة التربوية بفعل تعدد المستويات و اقتسام الأزمنـة الحِصصيـة ، و من الطبيعي أن يمـارس الأستـاذ سباقا مـع الزمن حتـى و لو اقتضـى ذلك عدم الالتـزام بالتراتبات البيداغوجية أثنـاء القيام بعملية بنـاء المضامـين التعلمية إذ أن احتـرام منهجيات العرض التربوي لكل مستوى يعنـي باختصار حِرمـان المستويات الأخرى من حقهـا في البث بدرس جديد و من ثم إقحامها في انتظـارية قد تتحول إلـى عـائق للمستوى الآخـر أو في انشغـالية تكتيكيـة الغرض منهـا الإلهـاء أكثر منهـا تحقيق هدف تربوي محدد . علــى هـذا الأسـاس تدفع الأقسام المشتـركـة المدرسَ إلـى الاخـلال -اضطرارا- بالأدبيات الخـاصة بالمنـاهج التربوية الحديثة و طرائق التدريس و إلـى اختيار أقصر الطرق للبنـاء ،الشيء الذي يؤثـر بدوره في درجـة استيعـاب المتعلمين سلبا و يفضـي إلـى تراكمـات خطيرة للمضامين الغير مفهـومـة لتتحول إلـى مشكـل قـاهـر قد يعصف بمستقبلهـم الدراسي نهـائيا
Aucun commentaire