مآزق التعليم بالبادية المغربية عـائق مركـزي ج1: الأقسام المشتركـة أو قُـلْ الأقسام المعتركـة ج 1
مآزق التعليم بالبادية المغربية ج 1
عـائق مركـزي : الأقسام المشتركـة أو قُـلْ الأقسام المعتركـة
لا أحـد في ظنـي من العقلاء بإمكـانه الادعـاء بوجـود وضعيـة تعلمية سليمـة في العـالم القروي و لا أحـد قادر علـى نقـل صورة التعليم في البادية غير الأطـر التربويـة الذين يمثلون « العناصر » الفـاعلـة في رصـد ارتهـان التعليم القروي و إشكـالاته المتفرعـة، و في مقالتنـا هـاته محـاولـة بسيطـة لتشخيـص جذور الأزمـة المـؤِسسَـة للفشـل الدراسـي انطـلاقـا من التجربـة الشخصيـة كما عشنـاهـا –و لازلنـا- في مـواقع قرويـة مختلفـة ، و لـن نـخوض طبعـا في الاعتبارات الطبيعية المتمثلـة في كـوابـح مشاكـل الطـرق وغياب الإنـارة و صعـوبـة المسالك و برودة المنـاخ و مـا إلـى ذلـك من الموانع التي تنضاف إلـى مشاكل أخـرى لتشكِّلَ حواجزا إسمنتيا يحول دون تمتع التعليم بنظام تربوي رائد .
لعـل أولــى العقبات الحـادة التي تعيق بنـاء الجودة التربوية برأيي تتجلـى في مـا يسمـى بالأقسام المشتركـة التي غطت كـل مرافق التعليم القروي، و للأسف فلا زالت أنظمتنـا التربوية تعتبرهـا مسلكـا مفيدا لبنـاء التعلمـات بل تذهـب إلـى حـد وصف دافعـه الوجودي ب »الاختيار البيداغوجـي التربوي » كمـا تقرر ذلك في كتاب الوزارة « الدليل البيداغوجي » للسلك الابتدائي ص(43) و الأدهـى من ذلك تبريره انطـلاقـا من منطـق مُقـاولاتي صِرف يندرج ضمن شماعة « ترشيد النفقات »، و الغريب حـقا أن يتم شرعنـة « الأقسام المشتركـة » علـى أساس نفـي وجود « أقسام غير مشتركـة » و يعلـم التربويون كـم هي مضاعـفات الفوارق السيكولوجية و المعرفية و الزمنية و تعقيدات و تنوع البرامج و المقررات المدرسية كم هي حـاضرة في « الأقسام المشتركة »،فإنْ كـان قسم المستوى الواحـد يضم فعـلا خليطا في التكوينـات و الانتمـاءات الزمنية فيسهـل بالـتالي على الأستاذ ضبط إيقاعه و التحكم في معيقاته التربوية فإن الصراحـة و الوضوح تجعلنـا نجزم باستحـالة تحقيق تواصل تربوي فعـال في قسم يعج بالمتناقضات المضاعـفة، و تـزداد المَهـمـة صعوبـة كلمـا ضم فصل مـا تعددا في المستويات كأن يشمل القسم المشترك المستوى الأول و الثاني و الثالث و الرابع عربي فرنسي، و في الواقـع فنحـن هنـا أمـام القسم المُعتَرك الذي صـار سـاحـة حبلـى بالتنـاقض التربوي و ليس أمام قسم يشارك فيه كل مستوى بانضباط و انسجـام ، فأيّ عـقل يمكن أن يقدر علـى التعـامل مـع أربع مستويات تزامنيا مـع مـا في كل مستوى من مشاكـل قائمـة بذاتهـا ؟ و كيف يتم التقريب بين الدروس و المقررات و بين مستويات متباعـدة من حيث المضامين ؟ كيف تشرع في تعليم إكساب اللغـة (العربية و الفرنسية) للمتعلمين في نفس الوقت و في نفس القسم ؟ جنــون ! ألا يمكن أن نتصور الحـالـة النفسية التي يعـاني منهـا الأستـاذ و هو يكـافح علـى أربعة جبهـات متضادة وسط سياقات مفصولـة عن بعضهـا البعض ؟ أم أنّ المقصود أنْ نُحـوِّلـه إلـى آلـة ميكانيكية يشتغل فيهـا بموجب برمجة تقنية يُصارع فيهـا عدوا مجهـولا لا حل معه البتة ، و فـي معـادلة تقريبية للمشهـد التربوي فإننـا نفترض أن حصص اليوم الدراسي الواحد لكل مستوى ثمـانية حصص أي مـا يعادل في أربع مستويات 32 حصـة في اليوم ، فكيفَ يُتَصـور عقـلا أن يكون بمقدور أستـاذ الشروع بشرح 32 درسـا أو تمرينا أو نشاطا تربويا في اليوم أي مـا يقارب 192 نشاطا في الأسبوع ؟! إن هـذا الوضع اللاتربوي المهترئ هو فعلا مأساوي على الجميع لأنه يقتل الجودة التربوية و يُبيــدُ معنويات الأستـاذ التي تنهـار بسبب تضخم المقررات و تباعـد المحتويات، فـلا التـلاميذ قادرون علـى اكتساب الحد الأدنـى للتعلمـات و لا الأستـاذ قادر على نهج طريق تربوي سليم و فاعل، من هنــا تتسلل المصائب حينمـا ندَعُ شؤون التربية للارتجال و الاجتهـاد الفردي الخاص فيحلم غيرنـا بتكوين جيل من المتعلمين المتمكنين،إذ كيف للفوضـى أن تُنتِـجَ النظام و حسن الأداء ؟
و مـع كـل أثقـال الواقع التربوي البئيس فإن البعـض من الأميين و أنصاف المتعلمين (ممثلي الجمـاعات القروية مثلا) لا يُـقَـدِّرون حجم المَهمــة المعقدة فيسارع لإدانة الأستـاذ و تحميله المسؤولية عن إخفاق التعليم في الوسط القروي و يجهـل المسكين أن التربية بنية تحتـاج لتوفر شروطهـا و سياقاتـها لإنجـاحهـا،و مـع أننـي لا أُعفِي بإطلاق الأستـاذ من حصته في تحمل قسط من المسؤولية إدراكـا منـي بأن البعض منهم قد يُصاب بانهـيار شامل أمام وضعيات لا تربوية فإني أقدر بأن جوهـر الإشكـال يكمن أساسا في المَهمة التي تفوق قدرة الأستـاذ بسبب آفـة الأقسـام المشتركـة، فكيف يمكن محـاسبته علـى نِتـاجه في غياب منهـاج تربوي للتعـامل مع التباينـات الحـادة التي تفرزهـا ظاهرة الأقسام المشتركـة ؟ و للحقيقـة نسجـل أن ثمـة أساتذة يبذلون مجهـودات جبارة فيقاتلون باستمـاتة لأجـل إنقاذ مـا يمكن إنقاذه رغم ثقل المسؤولية الخارجة عن السيطرة و مـع ذلك لا تُقــابلُ اجتهـاداتهم بإحسـان و لا تشجيعـا من أحد ، بـل و الأسوأ أنهم صـاروا عند الأميين و أنصاف المتعلمين محل نقد و اعتراض و شكايات جائرة تُفضي غـالبا من الأستاذ إلــى الاستسلام للواقع الصلب قهـرا ،و قد تُعينُ هـؤلاء الأميين ما قد يلامسونه من تأخـر في المردودية أو تغيبات أحيانـا تساعدهـم علــى إلصاق المسؤولية بالأستاذ ، فليت شعري، كيف يختزل الأمي إشكـالية تحقق النجاعة في حضور الأسـتاذ بعيدا عن ضغط الفصل و صعوبـة الواقع ؟ كيف نبرئ المحيط القروي الذي صـارَ كـابحـا تربويا بامتياز ينضاف إلــى عوامل صعوبة التحكم بالتعلمات ؟
علــى أن الأقسام المُعتَـركة و إن كـان فيهــا شيئـا مذكورا من الإفـادة لبعض المتعلمين سيكولوجيا إلا أن التوغـل في ثنـاياهـا و تأمـل نتـائجهـا العملية تجعلنـا نرسم صورة سلبية عن الحصيلة التربوية و نـاتج القيمة ، إذ في الغالب لا يستوف المتعلمون حصصهم الرسمية و لا يستوعبون المضامين و المحتويات الدراسية بفعل اعتبارات شتى منها ما يعود إلـى حالات الاكتظاظ التي تعيق بنـاء فصل منظم و منهـا مـا يرجع إلـى عجز الأستـاذ عن مسايرة وتيرة التعلمات الرسمية و اضطراره لاختزال دروس علــى مستوى الشرح و التوضيح ، و في الغالب يُصابُ بحـالة انهيار حقيقي نتيجة الإرهـاق خصوصا لمن يملكون ضميرا مِهنيا تستفزهم براءة الأطفال . في الواقـع لا يملك أي أستـاذ أي إمكـانية التصرف بعقلانية داخل فصل بفسيفساء مختلفة يتفاوت فيهـا المتعلمون في القدرات الذهنية و التمثلات العقلية، و لا يستطيع أحد أن يستوفي شرائط التربية السليمة في وضعيات لا تربوية تحكمها أعدادا مكتظة و عقليات راكمت الجهـل و الحِرمـان ، بل في نظري يصعـب استيفـاء الحد الأدنـى عندمـا يتعلق الأمـر بقسم معترك مكتظ مزدوَج مُسَلسَل لا يبق و لا يذر ، و تَنــتظــرُ من الأستـاذ المُحـاصَر تحت وقع الظرف القاسي و الفصل الغريب أن يُنتِجَ لنـا عقولا متعلمـة قادرة علــى المنافسة و التحدي الدولي ! هيهـات!
و مهمــا قيل عن ضرورة التذكير في بدائل بيداغوجيـة و ديداكتيكية كأن يتم اللجوء إلـى اختيار مضامين مشتركـة للأقسام المشتركـة و تدبيرهـا لمستويين متقاربين أو اعتمـاد مقرر أدنـى واحد لكل مستويين متقاربين فإن ذلك و إن كـان يخفض من حجم المَهمـة التربوية إلا أنـه يمثل « اجتهـادا » في غير محلـه إذ يسهـم في تنميط العقول و زرع للملل و قتل للطموح لدى فئات من المتعلمين، و مـع كثرة المتعلمين في القسم المُعترك يصير الأستـاذ ملزمـا بحكم الاضطرار إلـى إتباع أساليب منهجية تلقينية صِرفة تقوم علـى الإلـزام و توحيد الخطاب التربوي، ففي حـالتنـا ليس ثمـة مخـرج لحل وضعية غير تربوية غير العودة إلـى أنمـاط القدمـاء في تسيير الكتـاتيب !
الطلحاوي نجيب
Aucun commentaire