مقاربة سوسيولوجية للتركيبة الاجتماعية المغربية بين الإقبال على التعبد والتغاضي عن سوء التعامل
مقاربة سوسيولوجية للتركيبة الاجتماعية المغربية بين الإقبال على التعبد والتغاضي عن سوء التعامل : بقلم عمر حيمري
إن كل الدراسات السوسيولوجية ، التي اختارت المجتمع المغربي كموضوع لها ، سواء في الحقبة الاستعمارية أو فيما بعد الاستقلال . كانت تحركها قناعات إيديولوجية وغايات عسكرية وإدارية ومعطيات فكرية يسارية وعلمانية وخلفيات سياسية ، تهدف إلى خدمة المستعمر، لتمكينه من احتلال البلاد وهدر دماء أهلها واستعبادهم ونهب خيراتهم وتعريض اقتصادهم للانهيار في مرحة ما قبل الاستقلال عن طريق حرق المحاصيل الزراعية ونزع أراضيهم الخصبة بحجة عدم التحفيظ وفرض ضريبة الترتيب عليهم ( قانون سنة 1915 ) المعروفة عند المغاربة بضريبة الرأس . ( تفرض على كل فرد من أفراد القبيلة أو العائلة أي على كل رأس ) ، والتي تتزايد بتزايد حاجة المستعمر للمال . إلى جانب إجبارية المساهمة في فاتورة الحرب التي يخوضها المستعمر على أكثر من جبهة بسبب جشعه الاستعماري ، ومضايقة البورجوازية المغربية الناشئة عن طريق فرض الحصار عليها والحد من حريتها التجارية والتنقلية لصالح اليهود المغاربة والمعمرين الفرنسيين . كل هذا بقصد تفقير وتجويع الشعب ليسهل إخضاعه واحتلال بلاده . أضف إلى ذلك استنزاف الثروات المعدنية والفلاحية والبحرية واستغلال العمال في أعمال السخرة ( التويزة ) باسم الصالح العام ، أو تشغيلهم بثمن زهيد … كما تهدف هذه الدراسات السوسيولوجية ، المشار إليها سابقا إلى تحقيق مصالح سياسية حزبية ، نقابية ، أو فردية شخصية مادية أو معنوية ، بعد الاستقلال ، ومن ثم فقد اختار السوسيولوجيون وبنية مسبقة غير بريئة ، وانطلاقا من أفكار وأحكام مسبقة ، عينات اجتماعية معزولة ، غير سليمة ولا ممثلة ، ثم عمموا نتائج دراساتهم على المجتمع المغربي بكامله ( بول باسكون على الرغم من اهتمامه بتركيبة المجتمع والإنسان المغربي المعقدة ، فقد عمم دراسته حول الحوز على المغرب بكامله ) . دون الاهتمام بتنوع نسيجه الاجتماعي والجغرافي ولا بالنهج العلمي أو الحياد الإيديولوجي ، ولا بمنطق التناقض ، الذي يهيمن على فكر وتعاملات الإنسان المغربي ، الذي يؤمن بالقضية ونقيضها في نفس الوقت ، دون أن يحس أو يرى في ذلك تناقضا : فمثلا العلماني المغربي يصلي الجمعة ، ويصوم رمضان ، ويحج إلى بيت الله الحرام ، ويشتري أضحية العيد ، ويشرب الخمر ، ويتعامل بالربا باسم الليبرالية والحرية الاقتصادية والتجارية ، ويزني ويدعو إلى الفاحشة و اللواط والزواج المثلي باسم الحرية الجسدية والديمقراطية والحرية الشخصية ، دون أن يرى في هذه الأدوار المتعارضة التي يلعبها أي تناقض . يقول أحد قياديي العلمانيين الاشتراكيين ومسؤوليهم البارزين المتهمين بالمثلية واللواط : » هذا دبري وأنا حر فيه ، أفعل به ما أشاء « ومع ذلك فقد رأيناه يؤم المسجد في المناسبات ، حتما لا ليصلي لله ولكن لينافق بصلاته وليرضي غير الله . ولقد حدثني أحد قواد وزارة الداخلية ، – ( تقاعد وأنعم الله عليه بالتوبة ) – أنه يأتي متأخرا ويتخطى رقاب الناس ليصلي الجمعة في الصف الأول وراء الإمام وهو جنبا , فلما استنكرت عليه ذلك قال : ( هم أرادوني أصلي … ) .
إن العلماني ، لا يرى في كل سلوكياته المتضاربة ، التي تتراوح بين القيام ببعض العبادات الدينية أحيانا ، وادعائه الانتماء للمجتمع المسلم ، الذي يعيش فيه ويمارس بعض طقوسه وعباداته تملقا ونفاقا للأسرة والمجتمع ، وتنفيذا لأوامر سلطة سياسية أو حزبية عليا … حسب المناسبات وكلما دعت المصلحة الانتخابية أو السياسية إلى ذلك ، وبين كيده ودعواته المتكررة والرافضة للدين والمتحاملة عليه ، مع إتيانه الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، أي تناقض مع فكره الإلحادي العلماني ، الذي يشده إلى الكفر والزندقة ، والذي يتبناه ويتشبث به ويقاتل من أجله .
إن إشكالية تفسير ظاهرة الثنائية أو الانفصام في شخصية الإنسان المغربي وخاصة العلماني ، ألجأت بعض السوسيولوجيين إلى إسقاط وتطبيق مناهج البحث ونتائجه ، التي توصل إليها علم الأنتربولوجا وعلم الاجتماع الكولونيالي في دراسته للمجتمع المغربي في فترة ما قبل الاستعمار ، بهدف التمهيد للاستعمار ، وفيما بعد الاستقلال ، بهدف تمكين المستعمر من والمحافظة على إبقاء المغرب ضمن المستعمرات القديمة ( الفرانكفونية ) تابعا اقتصاديا وسياسيا ، فهي إذن دراسة وأبحاث غير بريئة ولا خالية من الحياد العلمي ، ومع ذلك تبناها السوسيولوجيون المغاربة العلمانيون وتأثروا بروادها وساروا على نهجهم ومنهجهم ، ففسروا ظاهرة تعقيد وتركيب المجتمع المغربي المسؤولة عن الثنائية والانفصام في الشخصية المغربية انطلاقا وبناء على نوع نمط الإنتاج السائد في جهة معينة أو في فترة زمنية معينة ، – إن كان يبدو لهم هذا الأسلوب في الإنتاج منسجما ويخدم تطلعاتهم الفكرية والسياسية والإيديولوجية – . ثم يعممون نتائج دراستهم على المغرب ككل دون مراعاة للخصوصيات الجهوية . يتعسفون مرة في تفسر نتائج دراستهم وما يتلاءم مع إثبات أن المجتمع المغربي رأسمالي ليبرالي ، فقط لتواجد بعض مظاهر الرأسمالية كرأس المال والملكية الخاصة لأدوات الإنتاج والعمال وظهور العمل النقابي خصوصا في المدن التجارية الكبرى كالدار البيضاء مثلا .. وأخرى يصنفونه ضمن المجتمعات الإقطاعية ، بناء على ما يسود في البادية أو الريف من علاقات إنتاجية بين ملاك الأرض ومن يخدمها ، كالخماس والرباع والتعامل بالثلث أو النصف ، وإن كان مالك الأرض أحيانا ، هو الذي يأخذ الثلث فقط ، عندما لا يشارك بالبذور الزراعية ولا بالخيل والبغال والحمير ، التي تجر المحراث وتنقل وتحمل الأثقال ، وقد يكتفي مالك الأرض ، بأخذ ثمن كراء أرضه فقط في شهر شتنبر أو أكتوبر عندما يعجز عن استغلال أرضه لضيق يده .
كل هذه الأنواع من المعاملات تدخل في مجال المشاركة والمرابحة ، وهي في تقديري أفضل من الإجارة ، لأن فائدتها بالنسبة للأجير ( الخماس أو الرباع ) تكون أعظم وأربح ، وتتم بناء على الاتفاق والتعاقد المتطابق مع نظام المزارعة والمساقات في الإسلام ، ومن نتائجها : المساهمة في الزيادة في الإنتاج والتنمية الاقتصادية والبشرية ومعالجة مشكلة الفقر والبطالة ومحاربة الهشاشة الاقتصادية والعمل على الحد منها ، وتحقيق الاكتفاء والأمن الغذائي للمجتمع ، وهذا ما يخفى على كثير من الباحثين السوسيولوجيين . أو يتعمدون إهماله وعدم الاكتراث به عن قصد ، خدمة للفكر العلماني ولأجندة الغرب . لأنهم لم يستطيعوا التخلص من أحكامهم وآرائهم المسبقة وإيديولوجياتهم ومستبقاتهم الفكرية والسياسية وإخلاصهم لخدمة الغرب والتحرر من تبعيته ، وليست لهم الرغبة ولا حتى النية في التخلي عن مصالحهم السياسية والمادية والمعنوية الخاصة ، لصالح الوطن وأهله .
إن المزارعة والمساقات بين مالك الأرض والخماس أو الرباع ، ليست مبنية على الخوف أو الطاعة والولاء كما يزعمون ، أو كما هو الشأن بالنسبة للإقطاع في الغرب ، وإنما هي مبنية على المرابحة وتبادل المنفعة والمساهمة في الزيادة في الإنتاج بهدف الزيادة في دخل وإنتاج الطرفين معا : ( مالك الأرض والخماس والرباع ….) .
وثالثة يصنفونه ضمن المجتمع القايدي المخزني ، بناء على ظاهرة التويزة ، التي هي في الأصل خدمة أو عمل تضامني تعاوني يقوم به المغاربة لمساعدة الضعفاء والعجزة والمرضى واليتامى والشرفاء والمرابطين من جماعتهم أو أقربائهم ، أو المتحالفين معهم من القبائل المجاورة لهم تأليفا للقلوب ، أو للفقيه الذي يعلم ويربي أبناء القبيلة ويحفظهم القرآن الكريم ويؤم المصلين ويشرف على مسجد الجماعة أو القبيلة ، ردا للجميل .
إن التويزة يقوم بها المغاربة تحقيقا وعملا بفهمهم وتفسيرهم لقوله تعالى [ … وتعاونوا على البر والتقوى ولا تتعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ] ( سورة المائدة آية 2 )، وبهدف تبادل ونقل الخبرة التقنية والزراعية ، وتكوين الشباب مهنيا وتعويض الفراغ ، الذي قد يحصل في اليد العاملة في بعض فصول السنة ، وخاصة في موسم الحرث وجمع المحصول ( الشتاء والصيف ) أو عند فتح مشروع يتجاوز إمكانياتهم الذاتية كبناء المسجد أو فتح طريق عمومي أو إقامة سد تلي ، أو جب لتجميع الماء تحسبا للجفاف الشبح الذي يخيف القبيلة ويوقض مضجعها على الدوام .هذا الدور أصبح يقوم به الآن المحسنون رغبة وطمعا في رضا الله ( مع الاختلاف في النية طبعا ) .
إن التويزة قد يستغلها ظلما وجورا ، القائد أو المخزن وبتعاون مع شيوخ القبائل والزوايا والشرفاء والأعيان الذين يحظون بالاحترام والتقدير من أعضاء قبيلتهم فيستغلون ذلك ، للتسلط على قبائلهم وبصفة استثنائية وليس كقاعدة دائمة ، وفي مجال جغرافي محدد ، باسم الدين وتحت مضلة التضامن والتعاون وفعل الخير ونيل الرضا والجزاء من الله .
لكن المغربي لا يرى في التويزة نوعا من العقاب الجماعي ، بل هو ينخدع لمن خدعه بالله ، أما إذا أحس بأنه مضطهد ، أو مرغم ومجبر على فعل شيء من غير رضاه ، أو أنه هدف للاستغلال ، فإنه يرفض ويتمرد ويعمل على إفساد وتخريب ، ما كلف بإصلاحه خفية وبسرية ومكر .( يهدم باليد اليسرى ما بناه باليد اليمنى ) . مثلا في مجال الزراعة وهو يعمل بدون رضاه في الحقل يقطع ويفصل جذور الخضروات والبقوليات عن فروعها ويتركها في مكانها وعلى حالتها ليصيبها اليبس والموت فيما بعد ، ويصرف ماء السقي إلى الأرض الغير مزروعة أو الجرز ، لكي لا تنال المزروعات في الأرض الخصبة والصالحة للزراعة ، ما يكفيها من الماء فتجف أو يقل منتوجها ومحصولها ، ناهيك عن التماطل عن العمل والغش فيه وتضييع الوقت في شغل نفسه بأتفه الأعمال ، التي لا مردود نافع من ورائها وقد يعمد إلى آلات السقي والسواقي فيخربها… وهكذا يفعل ، وهذا دأبه في كل المجالات التي يرغم فيها على السخرة .
أما فيما يتعلق باستغلال أرض الجموع أو الجماعية ، فإنه لا يدخل لا ضمن نمط الإنتاج الأسيوي ولا ضمن نمط الإنتاج الإقطاعي أو الاشتراكي أو القايدي أو الأبوي أو الطرقي أو القبلي…لأنه لا تنطبق عليه خصوصيات أي من هذه الأنماط الإنتاجية . وإن كان هناك بعض التشابه في الوسائل والأدوات والإنتاج .
إن الجماعة تجتمع في وقت واحد وبسابق عهد واتفاق على تاريخ معين ، لجني ثمار شجرة واحدة لوز أو خروب مثلا ، لا بهدف الحصول على الثمار لذاتها أو طمعا في محصول الإنتاج ، ولكن خوفا من الإقصاء من القبيلة وبهدف إثبات الانتماء والانتساب للجماعة والارتباط بالجذور والمحافظة على التضامن القبلي وتأكيد التشبث بالأرض ، لأن الأرض جزء من العرض في تصور الإنسان المغربي وأصوله تمتد في أعماقها وفروعه تظللها وتحميها .
إن عقلية الإنسان المغربي ذات التركيبة المعقدة والمتناقضة تسمح له بأن يكون خماسا أو رباعا عند مالك الأرض وفي نفس الوقت يكون هو نفسه صاحب أرض ويتعاقد مع خماس آخر أو رباع آخر، ولا بأس في أن يمتهن إلى جانب ذلك تربية المواشي والرعي ويمارس أنشطة تجارية متعددة ، كالبيع والشراء في العقار والحبوب الزراعية والكلأ والمواشي والخيل والبغال والحمير وأنشطة صناعية ( الحدادة مثلا ) ، كصناعة صفائح الخيل والبغال والسكة والمحراث والمنجل وبعض الأدوات الأخرى المستعملة في الزراعة … وكلما تعددت أنشطته ازداد دخله وثراؤه وارتفعت مكانته في قبيلته وجماعته ، وربما تعدتها إلى القبائل المجاورة أو البعيدة، وربما حظي بمنصب رئاسة القبيلة وأصبح أحد أعيانها ووجهائها ممن يكون لهم نفوذ وجاه واسع عند المخزن ، فيعين قائدا أو قائد القواد . وهذا ما ينهجه ويعمل على تحقيقه البورجوازي المغربي المعاصر ( أقصد الثري المغربي ) ، فهو الآخر يستثمر في مقاولات البناء وفي الفلاحة والزراعة وتربية المواشي ويتحايل على الدولة للاستفادة من الدعم الموجه للفلاحين ، كما يستثمر في الصناعة والتجارة والتعدين …ويتهرب من الضرائب ومن تسجيل العمال في الضمان الاجتماعي ومن إعطائهم حقوقهم كاملة … ويعمل جاهد لاستغلال كل ما يملك من ثروة وجاه وسلطان لشراء الذمم والضمائر في الحملة الانتخابية ليصل إلى قبة البرلمان ، وإن كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ، ولا علم له ولا اهتمام بعالم الحكم والسياسة ، وهذا ما يفسر ظاهرة الأمية ، التي تتفشى بين البرلمانيين والنوم العميق ، الذي يغطون فيه أثناء الجلسات وكذا ظاهرة التغيب والعزوف عن الحضور … وهذا ما يؤكد لنا أيضا ، أن الهدف من الوصول إلى قبة البرلمان عند هذا الصنف من البرلمانيين لا يكون بدافع الوطنية ، أو بهدف الدفاع عن مصالح الجهة التي يمثلها ، ولكن بهدف حماية ثروته والحصانة البرلمانية ، ثم المزيد من الجاه والسلطان .
إن الجاه والشرف والمكانة الاجتماعية في تصور الإنسان المغربي تقاس بمقياس الثروة ، التي يملكها الفرد وتعدد الأنشطة الاقتصادية التي يقوم بها ، والضيعات الفلاحية التي يملكها . لا بمقياس العلم والورع وتقوى الله والامتثال إليه ولا بالواجب الوطني والإخلاص إليه . ( يقول المثل المغربي : أشحال أما عندك أشحال ما تسوى = ( قيمتك تقدر بقدر مالك وثروتك ) ( واللي ما عنده فلوس كلامه مسوس ) = ( إن الذي لا مال له لا طعم لكلامه ) .
إن ظاهرة الثنائية وانفصام الشخصية والنفاق ، الذي يعاني منها الإنسان المغربي امتدت إلى المجال الديني والأخلاقي ، إذ بدأت تنتشر في المجتمع المغربي ، ظواهر اجتماعية مرضية غريبة عنه ، ذات مرجعية علمانية غربية ، إلى جانب الظواهر التقليدية ذات المرجعية الإسلامية ، وخاصة عند العلمانيين . إذ تجد العلماني يحج وهو كاره ، ويقرأ القرآن الكريم ، ويحضر الجنائز للترحم عليها ( من إله لا يؤمن به أصلا ) ، ويأتي الصلاة وهو في أشد الكسل ، وغض الطرف عن تحجب أمه وزوجته وقد يتم ذلك رغم أنفه ، وابنه يصلي ويحفظ القرآن الكريم في المسيد (المسجد ) ، ويصوم نفاقا ومدارة للناس ، ويدفن موتاه في مقابر المسلمين ، حتى لا يقال عنه كافر وملحد ، ويلبس الزي الإسلامي أيام الجمعة والأعياد وفي كل المناسبات الدينية ، ليظهر بمظهر المسلم ، ويدعو إلى التضامن والتكافل الاجتماعي وهو البخيل، الذي يصرح ويلمح في كل مناسبة وبدونها ، أن الصدقة جريمة . لأنها تؤخر الثورة والتغيير الاجتماعي .
كل مظاهر تعبد العلماني وسلوكياته المتعارضة ، كما أشرت سابقا ، لا تشعره بالتناقض مع المبادئ العلمانية ، التي يحملها ويؤمن بها ويدافع عنها ويعمل على نشرها .
يرى معظم السوسيولوجيين المغاربة ، أن المجتمع المغربي يتميز عن غيره من المجتمعات بالتعقيد والتركيب وله خصوصياته وذلك لاشتماله على مفارقات عديدة وغريبة تحتاج إلى الفهم والتفسير، ولا يتم ذلك في تقديري ، إلا بفهم البنيات العقلية والجذور التاريخية ودراسة ومعاينة وملاحظة واقع أحوال المجتمع المغربي الفكرية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والتحالفات السياسية ، مع استحضار فكرة أن المجتمع المغربي متلون يصعب اختراقه وفهمه ، لأنه يضمر دائما ما لا يظهر .
إن تغير أخلاق المغاربة ، اليوم أصبح أخطر ما يمكن أن يفسد عليهم حياتهم وأسوء ما يمكن أن يقلب حياتهم إلى فرقة وتناحر وظلمة وظلام وفتنة … وقد بدأ العلمانيون يشعلون نارها بالدعوة إلى التفرقة بين الإخوة العرب والأمزيغ عن طريق إحياء الظهير البربرى ، الذي دعا إليه الاستعمار البغيض كيدا منه لكسر وحدة المغاربة وإضعاف قوتهم ففطن إلى ذلك علماء القرويين فحاربوه في حينه . وإن كنت أتحدى أي مغربي يستطيع أن يثبت نسبه نقيا من دم عربي أو أمزيغي ، لأن دماء العرب والأمزيغ امتزجت واختلطت بسبب الدفاع عن هذا الوطن وبسبب الزواج والمصاهرة والمساكنة … وعزلها وفصلها عن بعضها البعض أو تفريقها أمر مستحيل، لأنه يحتاج إلى تجريد المسلم العربي والأمزيغي ، من عقيدته الإسلامية ، التي يحيى من أجلها ولا يرضى عنها بديلا ومن شريعته الإسلامية ، التي يتزوج ويطلق ويرث ويوصي ويتعامل في كثير من أدواره الدينية والدنيوية طبقا لها ويحمل هم مشروع تطبيقها في كل مجالات الحياة ، عندما يخسأ العلمانيون ويأذن الله بذلك .
إن الوازع الديني متمكن من نفوس أفراد المجتمع المغربي ، بدليل التزامهم وتمسكهم بأركان الإسلام وشعائره وخاصة الصلاة والصيام والحج والزكاة والإقبال على حفظ القرآن الكريم والعمرة والمساهمة في بناء المساجد وإقامة المشاريع الخيرية … رغم دعوات مفسدي الأخلاق الباطلة من وكالين رمضان ، وحركات كيف كيف ، وفيمن ، وجمعية منا وفينا ، وأنصار الحرية الشخصية والجسدية ، وشبكة من نصبوا أنفسهم مدافعين عن حقوق الإنسان … وما يشيعونه من أفكار مهيجة للشهوات ومثيرة لغرائز الهو اللبيدية ، الجنسية ومشجعة للعري والعهر والكفر وداعية إلى كل رذيلة مدمرة للأخلاق والقيم … عن طريق مهرجانات الموسيقى والسينما ، وسهرة السبت ، ونغمة وتاي ، ودنيا باطما ، و إكس فاكتر ، ومهرجان الضحك ، والراي ، وكومديا ، والشيخات ، والعيطة … بهدف التطبيع مع الفاحشة والرذائل ليسهل بعد ذلك النيل من الإسلام وتشويهه وتبديل دين أهله . وإن كنت متأكدا أيضا ، من أن الفقر والجهل وعدم الوعي الديني والثقافي له نصيبه فيهم ، الشيء الذي أفسح المجال أمام كل هؤلاء السالف ذكرهم من العلمانيين ، الذين لا يتورعون عن الكذب والإشاعة المغرضة واستغلال الإعلام الفاسد ، المأجور… لتمرير خطابات علمانية حداثية تتهم الإسلام بالرجعية والظلامية وتتهمه بالاستغلال للبسطاء وتوحي بكونه معرقلا للنمو الاقتصادي وللديمقراطية والحرية ، وأنه لم يعد صالحا للعصر…كما تؤكد على ضرورة تجاوز الإسلام والتخلي عنه لصالح العلمانية ، وإذا كان لا بد من معايشته والبقاء عليه ، فيجب أن لا يتجاوز التدين بعض مظاهره المتمثلة في القيام بأداء بعض الشعائر التعبدية بعيدا عن الشريعة وعن عالم السياسة والحكم والاقتصاد…
لا أنكر أن الهجمة الشرسة ، التي قام ويقوم بها العلمانيون والمتعاطفون معهم والدائرون في فلكهم على ثوابت المجتمع المغربي الدينية والأخلاقية والوطنية تحت غطاء وبمباركة علم الاجتماع وبدعم من سلطة الإعلام والسياسة والغرب المتربص بنا ، الطامع ، بل التواق إلى اتباع ملته … أثمرت تدهورا في السلوك الأخلاقي لشريحة من شباب المجتمع المغربي في غفلة من يقظة العقل والضمر والوازع الديني والجهل بالإسلام عقيدة وشريعة وبفلسفته الشمولية الكلية و تأثرا بسلوكيات الغرب ونمط حياته المعادية للدين والمنفرة للأخلاق . فانجر إلى تبني العلمانية أو بعض مبادئها الفاسدة ، دون أن يستطيع الانسلاخ من معتقداته الإسلامية ، بفعل الوراثة الإيمانية المتمكنة من لاشعوره ، وبفعل العقل الجمعي وسطوته ، التي لا تسمح بالخروج عن مألوف الأعراف والتقاليد والعادات ذات المرجعية الإسلامية ، وبفعل النهضة الإسلامية وعلمائها الدعاة . وهذا ما يفسر توبة العديد من علمانيي مرحلة الجامعة وتنكرهم لمبادئ العلمانية ، التي آمنوا بها في فتر السبعينات ، فترة ازدهار المد الشيوعي والاشتراكي العلماني . وإن كان فريق منهم فضل النفاق الاجتماعي ومنهج ابن سلول في التعامل ، فاستهلك الخمر ، وقامر ، ودعا إلى المنكر والفاحشة وتعامل بالرشوة… وفي نفس الوقت صلى وصام ، ومارس التدين بمقتضى هواه ومزاجه . فهو يتصرف ويفكر دون محاولة فهم حقيقة الدين الإسلامي وشموليته وكليته ، التي لا تفصل بين ما هو تعبدي وما هو سلوكي أخلاقي ، ولا يعرف أن الدين المعاملات ، والإيمان ما وقر في القلب وصدقته الجوارح والعمل .
إن العلماني يتحرك ويتصرف حسب منطق المصلحة والوضعيات ، التي يوجد فيها وعليها ويحياها ، غير عابئ بحالة التناقض والتباين ، التي يعيشها بين ما يعتقده وما يمارسه ويفعله . بسبب انفصام الشخصية والتذبذب والنفاق الذي يفرض عليه إظهار غير الذي يبطن ، وبسبب الإعراض عن ذكر الله والصراع النفسي الداخلي ، الناتج عن تعارض أفكاره ومبادئه الإلحادية مع واقعه الأسري والاجتماعي والأخلاقي . الشيء الذي يحدث له حالة من القلق والتوتر لا تطاق تحول حياته إلى جحيم دائم تجعله يعيش معيشة ضنكا وسيحشره الله إن شاء أعمى ويصدق عليه قوله سبحانه وتعالى : [ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال ربي لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ] (سورة طه أية 24-25-26) .
إن التباين والتعارض بين ثنائية التعبد وممارسة الرذيلة وسوء الأخلاق على مستوى السلوك والمعاملات في المجتمع المغربي وغيره من المجتمعات الإسلامية ، هو في تصوري نتيجة منطقية ، بل حتمية وضرورية ، لعدم إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى . لأن الإخلاص لله في السر والعلن ، هو الذي يحيل بين المرء وانحرافه الأخلاقي والسلوكي ، وحجتي في هذا قصة يوسف عليه السلام ، الذي أخلص لربه فصرفه ربه عن الفحش وكيد النساء إذ قال : [ ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ] ( سورة يوسف آية 24 )
إن الإخلاص لله هو الذي جعل يوسف عليه السلام يفضل السجن وعذابه وضنك العيش على القصور وما فيها من بذخ ورفاهية ، وقد سجل القرآن الكريم هذه الحقيقة وأكدها في الآية الكريمة : [ قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ] ( يوسف آية 33 ) ومن جهة أخرى فالإنسان كائن عابد متعبد بالفطرة [ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ] ( سورة الذاريات أية 56 – 57 – 58 )
ولكنه أيضا كائن معقد مركب تتصارع بداخله قوى الخير ( العقل والفطرة السليمة ) وقوى الشر ( الشيطان والنفس الأمارة بالسوء ) ، [ إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ] ( سورة الإنسان آية 3) وقوله : [ ألم نجعل له عينين ولسلنا وشفتين وهديناه النجدين ]( سورة البلد آية 8- 9- 10 ) وقوله [ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ] ( سورة الشمس آية 6-7-8-9-10 ) . إن نتيجة هذا الصراع ، الذي يصاحب الإنسان مدى الحياة ، هي التي تحدد ما سيكون عليه الإنسان كمشروع أخلاقي في جميع اللحظات التي يعيشها مستقبلا وهذا ما يفسر عدم استقرار الأخلاق عنده وثباتها على وجه واحد ، فهي تقوى أحيانا وتضعف أحيانا وتتبدل نحو الإيجاب أو السلبا ( الإيمان يزيد وينقص بزيادة الطاعات والإخلاص فيها أو نقصانها ) . فإذا تغلب العقل والفطرة السليمة ، ترجمت العبادة إلى سلوك وأخلاق فاضلة ومعاملات حسنة وكان الإنسان في أحسن تقويم . أما إذا حدث العكس وتغلب الشيطان والنفس الأمارة بالسوء ، رد إلى أسفل سافلين بفعل الوسوسة والكيد وتزيين النفس والشيطان لصاحبهما الرذيلة وسوء الأخلاق ودفعاه إلى ممارسة ، نقيض ما يتعبد به ويؤمن به ، وعندها يهبط إلى داركات الحيوان ، بدلا من مصاف الملائكة ( يرى جل المفسرين ، أن الرد والهبوط إلى أسفل سافلين المقصود به أرذل العمر، الهرم ، نار جهنم . لكني أرى والله أعلم ، أن المراد من الرد والهبوط إلى مصاف الحيوان يكون بسبب كثرة الآثام وتدهور الأخلاق وهبوطها وخلود الإنسان إلى الأرض واتباع هواه مع استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات على مستوى السلوك والمعاملات من الهبوط والتردي ) وصدق الله العظيم إذ يقول : [ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ] ( سورة التين آية 3-4 – 5 ) .
إن الأخلاق هي ثمرة العبادة وهي مقياس الإخلاص لله ، فإذا كانت العبادة خالصة لوجه الله ، أثمرت أخلاقا فاضلة وسلوكا ومعاملات حسنة راقية يرضى عنها الله والعبد والناس أجمعون . أما إذا كانت لغير الله ولمصلحة أو منفعة مادية أو معنوية أو سياسية … فإنها لا تثمر إلا رذائل وفواحش وكذبا ونفاقا وازدواجا في الشخصية وسوءا في المعاملات … وهذا ما يؤكده قوله تعالى [ أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة ، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ] ( سورة العنكبوت آية 45) وهذا ما يربك عقل كثير من الناس فيتساءلون عن عدم إقلاع المصلين عن الفواحش ، وهم لا يدرون أن هناك فرق شاسع بين الصلاة كحركات وسكنات تمثيلية وبين إقامة الصلاة ، فالأولى صلاة المنافق والعاصي والجاهل بدينه وهذه لا تتجاوز من نفسه الاعتقاد ومن جسده الحركات ، وأنها بالنسبة إليه مجرد حركات رياضية تؤتى كسلا لضرورية إرضاء الأسرة والمجتمع ، وبدون رغبة ولا رضا منه ولا طمأنينة وخشوع أو استحضار لعظمة الله وإجلاله وهذه الصلاة لا تجدي صاحبها نفعا ولا تنهاه عن الفحشاء والمنكر . بل تزيده عصيانا وإثمنا وبعدا من الله . أما الثانية ، فهي التي تستغرق فيها بعقلك وقلبك وجسدك ولا يكون حاضرا منك وقت أدائها ، إلا الإخلاص لله وخشيته وذكره والتذلل إليه ، فهذه يقينا تنهاك عن الفحشاء والمنكر وتقربك من الله وترقى بك إلى مصاف عباده المخلصين .
إن الإنسان إذا لم يتمثل عقيدة الإسلام وشريعته ويحولها إلى سلوك وواقع عملي ويترجم إيمانه إلى أخلاق فاضلة ومعاملات حسنة فليس لله حاجة في أن يترك إيمانه وإسلامه ، لأن الإيمان اعتقاد بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل بالجوارح ، وقدوتنا ودليلنا في هذا محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي ترجم القرآن الكريم إلى واقع يمشي على الأرض، كما أخبرتنا أمنا عائشة رضي الله عنها ، عندما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت : [ كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه ] ( رواه مسلم ) والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة ، إذ يقول [ وإنك لعلى خلق عظيم ] ( سورة القلم آية 4 ) والرسول صلى الله عليه وسلم بدوره يحث على ضرورة تحويل الإيمان إلى سلوك وعمل وأخلاق حسنة فقال صلى الله عليه وسلم [ أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ] ( رواه احمد وأبو داود ) وقال أيضا إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم ] ( رواه أحمد ) .
لقد استغل أصحاب المواقف المناهضة للدين والتدين طبيعة المجتمع المغربي المركبة والمعقدة ، فقاموا بدراسات مجانبة للصواب ، تستند إلى المنهج المادي والفلسفة الماركسية ، التي تدعي بأن الاقتصاد والبنية التحتية بصفة عامة هي التي تحدد البنية الفوقية ( الدين – الفكر والفلسفة – والسياسة ) ، كما اعتمدوا مجموعة من المبادئ العلمانية ، بغرض الربط بين الممارسات أللأخلاقية الخطيرة والجرأة على محارم الله وبين التركيبة الاجتماعية المغربية المعقدة الناتجة عن كثرة واختلاف أنماط الإنتاج السائدة في المغرب ، والمسؤولة بدورها عن انفصام الشخصية المغربية وازدواجيتها على مستوى التعبد وسوء المعاملات والسلوك على حسب رأيهم . في حين كان على هؤلاء السوسيولوجيين ،أن يبحثوا في المجال الديني والمعرفة الشرعية ، التي بها يتحقق التعبد والتدين لأن الله لا يعبد إلا بعلم والمثل الشعبي يقول : ( عبادة الجاهل في حجره إذا قام أهرقها ) .كما كان عليهم أن يعتمدوا مجموعة من المقاربات العلمية وأن يستفتوا مجموعة من التيارات الفكرية العلمية والمحايدة لتكون أبحاثهم أقرب إلى الصواب .
يقول الدكتور مصطفى بنحمزة في إحدى مداخلاته : ( إن بعض الدراسات العلمية في مجال الدين كانت مجانبة للصواب ، لأنها لم تستفتي مجموعة من التيارات الفكرية المتعددة لتكون أقرب على الإنصاف ).
إن علاج ظاهرة ازدواجية التدين والتغاضي عن سوء المعاملات أو بين ما يعتقد وما يمارس في الواقع ، هو التعريف بالعقيدة والشريعة ،لأنهما أساس معرفة الحقائق ، التي جاء بها الإسلام وحث عليها القرآن . ولا يتم هذا إلا إذا قام العلماء والمؤسسات الدينية والجمعيات المدنية ذات التوجه الإسلامي بواجبها العلمي والتعليمي . وفقنا الله إلى ذلك : بقلم عمر حيمري
Aucun commentaire