رؤية للأمانة
رؤية للأمانة : بقلم عمر حيمري
لفظ الأمانة ، كما جاء في معجم المعاني الجامع ، يقصد به النزاهة ، والصدق والإخلاص ، والثبات على العهد ، والوفاء له ، وضده الخيانة وهي التصرف فيما لا نملك من مال وودائع و غيرها. أما جمهور الفقهاء ، فيرى أن الأمانة ، يقصد بها جميع وظائف الدين ، وهي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد ، من صلاة ، وزكاة ، وصيام ، وحج ، وكل الطاعات والواجبات ، التي أمر الله بها العباد . ويرى الشيخ الشعراوي رحمه الله ، أن الأمانة يقصد بها التكاليف ( افعل ولا تفعل ) .
أما الدكتور سيد طنطاوي فقد اكتفى بتلخيص أقوال المفسرين في كتابه » الوسيط في تفسير القرآن الكريم » فرجح القول بأن المقصود بالأمانة : ( أنها التكليف والفرائض الشرعية ، التي كلف الله سبحانه وتعالى بها عباده ، من إخلاص في العبادة ، ومن أداء للطاعات ومن محافظة على آداب هذا الدين وشعائره وسننه ) .
وفي المتداول اليومي، نقصد بالأمانة ، الوديعة وكل ما نأتمن عليه الآخر من مال وودائع وأسرار وغيرها ، وهذا الفهم ، لا يبتعد كثيرا عما أشارت إليه الآية الكريمة : [ إن الله يامركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا . ] ( سورة النساء آية 58 ) وإن كان منطوق الآية ومعناها يتجاوز الأمانات ، إلى ما هو أشمل وأعظم كالحكم بالعدل بين الناس وإقامة أوامر الله وشريعته ، وإلى كل ما يعظهم الله به وهو المطلع على العباد والبصير بأفعالهم ، والسميع لأقولهم ، والخبير بنواياهم .
إن إرادة الله ومنهجه اقتضى أن تكون تكاليف المجتمع الإسلامي وأخلاقه ، رد الأمانات إلى أهلها ، لأنها أساس الحياة في المجتمع الإسلامي ، إلى جانب الحكم بالعدل بين الناس ، جميع الناس دون تمييز ، باعتبار أن العدل هنا شامل ولا يخص ، أو يتوقف على المسلمين بعضهم مع بعض ، وهو ما يعظ ويأمر الله سبحانه وتعالى به ويحث عليه ، ونعم ما يعظ به .
إن الأمانات هي عصب الحياة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي وخصوصيته التي يتميز بها ، وهي تغطي كل مجالات الحياة ، بدون استثناء فالمرض أمانة عند الطبيب ، فلا يجوز له التحدث أو الكشف عنه وعن آثاره السلبية ، التي قد تعرض سمعة المريض لما لا يرغب فيه إلا بإذنه . العدل والمساواة بين الناس في القول والفعل والجنس وأمام الشرع في الأحكام والتكاليف ، فلا يميز بين الشريف والوضيع ولا الذكر والأنثى في إقامة الحدود أمانة ، الدفاع عن المظلوم ومساندته والوقوف في وجه الظالم ورد عدوانه بالمستطاع من القول والفعل أمانة ، تحري العدل وتقصي الحقائق في القضاء لتفادي الجور في الأحكام بين العباد على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وطوائفهم أمانة ، كلمة حق في وجه جبار ورده عن غيه أمانة ، قول الحق والتشبث بالصدق والإصلاح بين الناس أمانة ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللين والكلمة الطيبة أمانة ، تربية الأبناء وتعليمهم وتنشئتهم تنشئة تجعل منهم مواطنين صالحين أمانة ، المحافظة على المال العام وفضح سارقيه والعمل على توزيع خيرات البلاد بالعدل بين أفراد المجتمع دون مراعاة للتراتب الاجتماعي والطبقي أمانة ، البيع والشراء بدون تدليس ولا غش ولا خداع ولا نصب واحتيال والعدل في الكيل والميزان أمانة ، القرض الحسن بدلا من التعامل بالربا أمانة ، الإحسان إلى اليتامى والفقراء وذوي الحاجات وإغاثة الملهوف أمانة ، قضاء حوائج الناس والسعي لحل مشاكلهم ومساعدتهم في تدبير أمورهم أمانة ، الإخلاص في تأدية الواجب وإتقان العمل أمانة ، المحافظة على أسرار الناس وخصوصياتهم وأعراضهم أمانة ، السياقة واحترام قوانين السير مع التسامح فيه أمانة هجر الموبقات والفواحش ما ظهر منها وما بطن أمانة ، المشاركة في الانتخابات واختيار أفضل المرشحين علما وخلقا ونزاهة وكفاءة وأنفعهم للناس أمانة …. كل هذه الأمانات ، هي في الواقع ، منبثقة وصادرة من الأمانة الكبرى ، التي عجزت » وأبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان » لقوله سبحانه وتعالى : [ إنا عرضنا الأمانة على السماوات وأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ] ( سورة الأحزاب آية 72 ) . إن السماوات والأرض والجبال هذه خلائق في تصورنا نحن البشر ، عظيمة ضخمة كبيرة هائلة نندهش لرؤيتها أو عند التأمل فيها ونشعر بعظمتها في أنفسنا ، بل نبدو أمامها شيئا صغيرا، ضئيلا ، لا يكاد يذكر ، ولكنها مسيرة ، مجبرة ، غير مختارة تأتي أمر ربها وتهتدي إلى قوانينه وناموسه وتؤدي وظيفتها ودورها الكوني الذي أوجدها الله سبحانه وتعالى من أجله ، بحكم طبيعتها وخلقتها بلا تفكير ولا تعقل ولا تدبير ولا تدبر ولا إرادة حرة ، فهي مجبرة على الفعل ، بطبيعتها وخاضعة لمشيئة خالقها بلا جهد ولا تعب ولا مشقة ، تنفذ أمر ربها بوحي من ربها ، لا بتعقل وتفكير ، لقوله سبحانه وتعالى : [ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا إيتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ] ( سورة فصلت آية 11 ) ، ومن ثم ، فهي معفاة من أمانة العلم والمعرفة والحرية وما يترتب عن ذلك من تكاليف وعقاب أو جزاء . على عكس الإنسان ، الذي اختار الأمانة وما تحمله وتتطلبه من حرية وعلم ومعرفة وإرادة ، اختار أن يعرف الله بجهده الفكري وإدراكه العقلي المعرفي وأن يطيع الله في الأمر والنهي ، بإرادته الحرة وأن يخالف النفس والشيطان وأن يعصيهما و يقاوم شهواته ورغباته ونزواته المنحرفة وأن يقبل على الخير ويأتيه ويحارب الشر الذي بين جنبيه ويتجنبه . يقوم بكل هذه المهام بإخلاص لله وبإدراك وإرادة حرة مستشعرا وواعيا بمسؤولية وتبعات ما يختاره من فعل وقول وما يترتب عن ذلك من ثواب وعقاب . إن الإنسان اختار المجازفة والمخاطرة وحمل على عاتقه ما يصدر وينبثق عن هذه الأمانة العظيمة ، الضخمة ، من عهود ومواثيق ومسؤوليات وعواقب ثقيلة ، فإن كسب الرهان وفاز في امتحان النهوض بالأمانة وأدائها وتوصل إلى معرفة الله واهتدى إلى طاعته واجتنب نواهيه بوعي وإدراك كامل وبإرادة حرة وإخلاص مطلق لا تشوبه شائبة ، تميز عن غيره من المخلوقات وكان أهلا لتكريم الله سبحانه وتعالى ولتفضيله على كثير من خلقه وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة [ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ] ( سورة الإسراء آية 70 ) . فإن فشل ولم يقم بحق الأمانة وخان العهد الذي التزم به أمام ربه ، يوم شهد على نفسه والتزم بأن يكون عبدا لله وحده لا شريك له ، كما أخبر عن ذلك الحق سبحانه وتعالى في قوله : ـ [ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ] ( سورة الإسراء آية 172 ) ـ كانت النتيجة وخيمة وكان الخسران المبين ، وكان حقا على الله أن يرده إلى أسفل سافلين ويهوي به إلى الدرك الذي لا تهوي إليه حتى البهائم ، ولا أي مخلوق آخر دونها ، لأنها مستقيمة على فطرتها تسبح بإذن ربها وتؤدي وظيفتها على هدى من ربها ، بينما الإنسان يبقى مهيأ لأن يهوي إلى الدرك الأسفل الذي ما بعده درك ، والذي لا تهوي إليه حتى الخنازير ، إن هو خان الأمانة وانحرف عن الفطرة وحاد عن الإيمان وابتعد عن الطريق المستقيم ، الذي رسمه الله سبحانه وتعالى له واتبع النجد الكفور، بدلا من النجد الشكور ، ومال إلى الفساد والطغيان والظلم واتخذ إلهه هواه وانساق مع الغرائز الحيوانية والرغبات الجنسية الليبيدية والتصرفات البهيمية ، وعندها تجري عليه سنة الله التي لا تبديل لها ويصدق عليه قوله سبحانه وتعالى : [ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ] ( سورة التين آية 4ـ6 ) إن الارتداد إلى الدرك الأسفل المنحط ، الذي لا يصل إليه ولا يبلغ إليه مخلوق ، هو جزاء الكفر والكذب والنفاق وخيانة العهود والمواثيق و تضييع الأمانات وهو ما تقره الآية الكريمة [ وليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المومنين والمومنات وكان الله غفورا رحيما ] سورة الأحزاب آية 73)
إن حمل الإنسان للأمانة، لا يعني مطلقا أن غيره من الكائنات ، لا حظ لها في حمل الأمانة وما يترتب عنها من تكاليف وواجبات ونواهي شرعية وهي التي تشاركه العقل والنطق والمنطق والغرائز الجنسية والعواطف والإحساسات الأخرى كالجن والطير بدليل أن سليمان عليه السلام كان له جند من الجن والإنس والطير وأن الهدهد استطاع أن يدرك مفهوم الألوهية ومفهوم التوحيد وأنه استنكر السجود للشمس بدلا من السجود لله لقوله سبحانه وتعالى : [ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ] ( النمل آية 23 ـ 26 )، والنمل وحديثه مع سليمان [ حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها وقال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك … ] ( النمل 18ـ 19 ) والنحل وتلقيه للوحي من الله [ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون [ ( النحل آية 68 ) ، كل هذا يثبت أن هذه الكائنات لها عقل أو ما يشبه العقل ، وهي مكلفة ولولا التكلف لما هدد سليمان عليه السلام الهدهد بالذبح إن لم يأت بحجة وبسلطان مبين [ لأعذبنهم عذابا شديدا أو لأذحنه أو لياتني بسلطان مبين ] ( النمل أية 21 ) ـ . صحيح أن القرآن الكريم ، لم يتعرض لحظ هذه الكائنات من الأمانة ولم يذكرها في الآية الكريمة السابقة [ إنا عرضنا الأمانة على السماوات وأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ] ( سورة الأحزاب آية 72 ) ، ولكن القرآن يفسر بعضه بعضا ويكمل بعضه بعضا فهناك آيات أخرى تشير إلى تحمل هذه الكائنات للأمانة وإلى تكليفها بالعبادات والواجبات وبافعل ولا تفعل ( الفعل وترك الفعل ) منها قوله تعالى : [ يا معشر الجن والإنس ألم ياتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ] ( سورة الأنعام آية 130 ) وقوله سبحانه وتعالى : [ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ] ( سورة الاحقاف من آية 29 إلى 32 ) [ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ] ( الأنعام آية 38 ) [ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ] ( الإسراء آية 44 ) . إن هذه الآيات تثبت أن الجن وغيره من الكائنات مكلفون ومسؤولون عن الأمانة وخاضعون للمحاسبة وما يترتب عنها من ثواب وعذاب ولكن الله سبحانه وتعالى لم يذكر الجن وغيره من الكائنات المكلفة شرعا في الآية الكريمة ، رغم أنها ملزمة بحمل الأمانة وتحملها ، وبنفس التكاليف التي فرضت على الإنسان ، وعليها تأديتها كاملة وبإخلاص لله ، فتقوم بالواجبات وتترك المحرمات ، مريدة بذلك وجه الله وراجية عنده الأجر والثواب ، خاشية عقابه ، كما يفعل كل مؤمن ويرجو .
نلاحظ أن الآية الكريمة اكتفت ، بنفي الأمانة عن السماوات وأرض والجبال فقط ، وهذا يعني أن غيرها لا يسقط عنه التكليف ولا الالتزام بالأمانة ، وإنما خص الله سبحانه وتعالى الإنسان بالذكر وبتكليفه بحمل الأمانة ، لأنه سبحانه وتعالى في تصوري وعلى حسب فهمي للآية الكريمة ( والله أعلى وأعلم ) فضل الإنسان على كثير من خلقه [ …. وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ] ( سورة الإسراء آية 70 ) كما سخر له ما في السماوات والأرض [ ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات والأرض ] لقمان آية 20 ] [ وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ] ( سورة النحل آية 12 ) وهذا التسخير خاص بالإنسان دون غيره من الكائنات الأخرى ومنها الجن ، وبحكم هذا التسخير وهذا التشريف والتفضيل أصبح الإنسان هو المؤهل والقادر على حمل رسالة تبليغ الأمانة إلى غيره من الكائنات والمسؤول على الحفاظ على ما سخر له الله من النعم التي تحصى ولا تعد ، وهو الرسول المختار لمهمة الوحي والتبليغ لغيره من الكائنات ، وإن لم يكن من جنسها ، والدليل على هذا الفهم أو هذا المعنى أن آدم وإبراهيم وموسى وسليمان وعيسى ومحمد عليهم جميعا صلاة الله وسلامه ، كانوا رسلا للإنس والجن ولغيرهما وكان لهم شرف حمل مسؤولية تبليغ الأمانة والرسالة ، التي أوحي بها إليهم لهذه الكائنات بحجة ودليل الآيات التي ذكرناها سالفا من سورة النمل والنحل ، إلى جانب ما جاء في » سورة الجن » مثل قوله تعالى [ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فئامنا به ولن نشرك بربنا أحدا ] ( سورة الجن آية 1 ـ 2 ) وقوله [ إلا بلاغا من الله ورسوله ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ] ( الجن آية 23 )
إن عدل الله سبحانه وتعالى يقتضي أن يكون الجزاء من جنس العمل ، فالعذاب والعقوبة تكون من الله وفق الأعمال الفاسدة ومتناسبة مع الفساد والطغيان بدليل قوله تعالى : [ جزاء وفاقا ] ( سورة النبأ آية 26 ) وكل الكائنات الحية خاضعة لهذا المنطق وهذا الناموس الإلهي ، الشيء الذي لا يعفيها من حمل الأمانة ، التي وكلت بها . بقلم عمر حيمري
Aucun commentaire