فنّ إسالة المِداد بدلَ الدّماء
« إذا لم يذرف الكاتب العَبَرات فلن يذرفها القارئ، وإن لم يتفاجأ الكاتب فإن القارئ لن يتفاجأ » – روبرت فروست
« لا يمكن لشخص أن يكتب عن كل شيء ، عذابُ الكلمة أقسى من أن يتحمله إنسان واحد » – عبدالرحمن منيف
ألمٌ، ضجيج، صرخات، غثيانٌ.. وموسيقى البولَندي الشّهير Zbigniew Preisner (1) تقف حاجزاً بيني وبينَ العالم.. صحيحٌ لا أفهم البولَندية ؛ لكنني أفهم لغة الألم العاَلمية، والتي لا تحتاج إلى كلمات أو أصوات بالضّرورة، قد تكونُ همسات أو نظراتٍ أو حتّى مجرد خربشاتٍ لا يبدو لنا أنّ هناكَ منطقاً وراءها (2).
هناكَ طقوسٌ لا تستقيمُ الكتابةُ من دونهـا، وهذه هي طُقوسي.
لا أعرف تماماً لماذا كلّما شرعتُ في الكتابة تذكّرت صديقتي المفقودة، والتي اختارت الرّحيل بمحضِ إرادتها، وسأقوم بتسميتها « أمل »، كما شاءت أن تفعل هيَ ؛ كما أتذكّر رسائلها القصيرة التي كانت توقظني من غفلتي وتَبعثني من رماد اليأس كلّ ليلة (3)، ربمّا لأنها كانت بالنسبة لي موسوعةً ضخمة أعشق الغوص بين صفحاتها، رغمَ أننّي لم ألتق بها إلاّ خلال فترة وجيزة، ولمرّات يمكن عدّها على أصابع اليدين، رغم أن الأثرَ الذي تركته بداخلي لا يمكن تصوّره هكذا وببساطة. ولأنني كنت لا أتحدث كثيرا ًخلال لقاءاتنا التي امتدت لفترة وجيزة، اكتفيت بسماعها لأطول وقت ممكن كي أحظى بفرصة التفكير والتساؤل العميق الذي رافقه دوماً أسًى شديد لأنني كنت أدرك أنني أقف وجها لوجه أمام فتاة لو كانت الظّروف مختلفة فقط بعض الشيء لمصلحتها لكانت أملاً كبيراً في مفكّرة جديدةٍ تُمثل الوطَن على أعلى المُستويات.
لقد أدركت بعد فقدانها أنها كانت على صواب حين قالت يوما إن كلّ تلكَ الكتب التي تتحدث عن التنمية الذاتية وزرع الأمل في الناس بخصوص المستقبل كانت « خدعة »، كيف لا تقول هذا وهي التي خانها الواقع واغتال أحلامها لتتخلى فيما بعد حتّى عن مهمة تحرير مجلة إلكترونية عربية مهتمة بالأمر، والسبب الوحيد كما قالت يومها : « إنني لا أريد أن أواصل بيع الأوهام للآخـرين.. فأنا نفسي لا أؤمن بما أكتبه عن التنمية الذاتية.. يجب أن أتوقف عن هذه الخيانة. »
حتّى فلسفة أندري-كونت سبونفيل صاحب « اليأس والنّعيم » قد جاءت متأخرة بالنسبة لي، ففي الوقت الذي بدأت فيه قراءة ذاك المؤلف كنت أشعر بأني أعرف عنه الكثير، كلّ سطر كان ينتمي إليّ وكان يمثّل إسقاطات لواقعي في مجال نَظري منطقي : » الأمل مجرّد أفيون، أن تيأس ليس معناه أن تعيش حزيناً، على العكس، من يأملُ يعيش عبداً للإنتظـار، انتظار شيء أو كائن ما، لكنّ من يختار اليأس يعمل لتحقيق كلّ شيء وحده، إن اليائس أكثر سعادة إذن، إنه لا يملك أي سبب ليعاني من الخذلان أو خيبة ما نسميه الأمل » (4)، فلماذا نواصل تصديق هذه الخدعة رغم علمنا بأنها لا تفيد في مواقف الضعف الكامل؟
نشعر أحياناً بأننا ندور في حلقات مفرغة، نبدأ من نقطة ما ونواصل السّير بخطى حثيثةٍ إلى أن نصل إلى مكان مألوف جداًّ، إلى نقطة الصّفر الأولى من حيثُ بدأنا.. وهذا ما يحدث معي حينَ أكتبُ.. أقصد أنّ الأمر يتجاوز مجرد محاولة لإرسال رسالة ما، بل أكثر من ذلك، يصبحُ مشاركة الآخرين ما يوجد وراءَ المَحسوسِ .. يمكن القول إنه هوسٌ يستطيعُ الإنسان من خلاله أن يقاومَ ذلك الإحساس القاتل بالوحدة والإغتراب عن الذات والموضوع.
قد ينتج إذن، بعد هذا الفعل الذي يقتضي بعض الجُرأة في إقحام المزيد من الذّوات في عوالمنا الخاصة، أن يتمّ خلقُ كائنات لُغوية غريبة عن بعضها البعض، غير منسجمة بمعانٍ محدودة، أو ربما لا تحمل معانٍ – ولماذا البحث عن المعنى أساساً – لكنّها قائمة بذاتها، أعني لا يمكن نفيها، يستحيل تفكيكها بأشدّ وسائل المنهج التّفكيكي فتكاً بالنّصوص، وهي بذلك تفرض نوعاً جديداً مختلفاً من الحروب ضدّ الرّكود والإنهزامية داخل حصون الحضارة التي لا تتقدم وتتأخر تدريجياً، إنها حروب يتم عبرها إسالة المِداد بدلَ الدّماء.
ولكي أجيب عن السؤال البديهي الذي يُطرح في كلّ مكان : « هذا مخالف للمتعارف عليه، لماذا علينا أن نقبل به؟ » سأقول : » لأنّه لكلّ حدث جديد مرّة أولى.. إن لم يكن ذاك الحدث المخالف موجوداً من قبل فليس علينا أن نرفضه بل علينا أن نقبل به بوصفه مولوداً جديداً يفرض نفسه بمنطق العقل المتجدد. وقد صدق ها هنا فيلسوف المطرقة / مُحطّم الأصنام حين وصف العقل بالحيّة التي تموت إذا لم تُغيّر جلدَهـا !(5)
ماذا يقول هذا النص؟
سؤال غريبٌ، نوعاً ما. خصوصاً في هذا الظّرف الزمني، لكنّ الظّرف المكاني مناسب تماما لطرحه.، فيجب قبل كلّ شيء أن نفهم ماذا يُراد من كلّ هذه العبارات بالضبط؟
لن ندخل في تفسيرات علم الدّلالة والتأويل، وربط الدّال الذي هو النّص بالمدلول الذي لم نصل إليه لحدّ الآن، ذلكَ أن الدّلالة أوّلا وقبل كلّ شيء لا تخضع لقانون ما دامت متغيّرة بدلالة الثقافة والخلفيات الأيديولوجية والدّينية.. أي أنها دلالة تُحيل إلى دلالة أخرى : دلالة مُركّبة. غير أنه ينبغي الإشارة إلى أمر مهمّ، وهو اعتقادنا الرّاسخ بأن اللغة قد خُلقت لتخدمنا في مواقف براغماتية وحسب، بمعنى اعتبارها أداة وليست غاية في حدّ ذاتها، وهو الأمر الذي يشكل خطراً على اللغة نفسها.. لأن كلّ ما يتحول إلى وسيلة ويتمّ تقييمه يصبح مباشرة سلعة تباع وتشترى، فما ينفكُّ الشيء يصبح مفيداً حتى يفقد قيمته الخالصة.
ما هو البديل إذن؟
لنتصور أن شخصاً يقف أمام جماعة من النّاس، حائراً مكتئباً وعلامات الإرهاق بادية عليه، ثم يبدأ في الحديث مباشرة بعد الصّمت المُطبق، يتحدث طيلة الدقائق الخمس الأولى، ولحدّ اللحظة يبدو كلّ شيء على ما يرام؛ لنفترض أنّ حدثا غير متوقّع يطرأ في منتصف الدقيقة السادسة، فينطق شخص آخر من الجماعة محاولاً إيقاف الأول بقوله : ما الذي تريد قوله؟ إن كان هناكَ رسالة ما فلمَ لا تقولها مباشرة؟ لماذا هذا الدّوران حول المعنى؟ (لماذا هذا التّفلسف؟ (6) )
يتوقف الأول، ينظر إليه بعمق شديد، ثم يواصل الحديث.
إنه يثق تماما بأهمية ما يريد قوله، وإلاّ لما تملّكته الجرأة على المواصلة. لكن ما الذي كان يريد قوله؟
إنه سؤال غير مشروع.. خصوصا حينما يتمّ طرحه أمام شخص يريد فرصة للتعبير عن نفسه وحسب، أي أنه ليس خاضعا لأي إطار أكاديمي أو تيّار يفرض عليه أن يتعامل وفق قوانين محدّدة سلَفاً. إذ أن كلّ ما ينتج عن تلك المؤسّسات هو وجه من وجوه البراغماتية التي تؤدي حتما للتساؤل عن الهدف، الغاية أي عن المنفعة.
هناكَ من يبحث فقط عن الجمال، سواء أكان في المعنى أم في اللامعنى، يريد أن يشعر بحميميةِ اللّغة المنافية لبرودة كلّ ما يوجد خارج النَّصّ. . بالرغم من أن « دريدا » قد اعتبر أنه » لا شيء خارج النّص « ، إلاّ أنه يوقن تماماً، أنّ هذا اللّغوي الفَرنسي العملاق، والذي لطالما جعلتُ من متاهاته التّحليلية والتأويلية ملاذاً في الشّتاء والصّيف، لم ينتبه، للحظة واحدة أن هناك شيئاً أوحدَ خارج النّص، خارج كلّ نصّ، تقريبا : إنه البَــرد!
القراءة فرارٌ إذن، من الذات نحو نفسها مروراً باللغة. فرارٌ نحوَ الجمال الذي يكمن في العُمق وتحت أكوام التعاسة التي تكاد تقضي علينا، أعني في تلكَ المناطق التي لا يصل إليها الغارقون في العَادة، أو كما يحلو لي تلخيصه في عبارة واحدة : » في العالم ثَغَراتٌ لا تنتظر الجميع. »
انتهت معزوفة بريسنر، معَ نهاية مُحتملة للنّص الذي لم يكتمل بعد، حسبَ تصوّري، إذ أنه وجودَ لنصّ كامل على الإطلاق، هناكَ بداياتٌ فقط.. علماً أن المعزوفة هذه، أو سمفونية فيفالدي أو موزارت، هي جزء لا يتجزّأ من طقوس الكتابة لديّ، إذ غالباً ما تكونُ مصدراً لإلهامٍ تعجز اللغة عن وصفه، إلاّ أنها تبقى المكمّل وحسب لطقوس أخرى، أبرزها التّفكير..
وكيف نفكّر ؟
هذا هو السؤال الثاني هنا، ولكنه ليس سؤالاً ملغوماً بما فيه الكفاية كسابقه، إذ أن التفكير مسألة أقل تعقيداً من قصّة البراغماتية.
لنتصور الآن أن نفس ذاك الشخص الذي كان يستمتع بالحديث وسط تلك الجماعة للتعبير عن نفسه، يختار هذه المرة نوعاً آخر من التّواصل، فيذهب مثلاً لبيت صديقه الذي يقع عند مدخل المدينة حيث المكان هادئ تماماً، ثم يقنعه بأن يلعب معه الشّطرنج لمرّة واحدة فقط. إنه لا يريد أن يلعب لأنه يريد الفوز ولكنه يريد أن يتواصل مع خصمه بلغة أقلّ استدعاءً للمشاعر والأحاسيس، يريد اتخاذ قرارات بعيدة عن العاطفية، لا يريد أن يشعر بالخجل من التعبير، ولا بالألم الذي يسببه إسكاته من طرف الآخر، إنه يريد التواصل بطريقة رياضية مَحضة، أن يحسب خطوات الخصم ويدرس احتمالات الفوز والهزيمة ثم يقاوم بالعقل..
يمكن القول إننا نتحدث هنا عن « مُدمن تفكير ».
إن هزيمة هذا المفكّر أمام خصمه لن تسبب له ألماً مشابهاً لما يسببه ألم خيانة صديق مقرّب منه مثلاً، إذ أنه في حالتنا هذه يُدرك تماما أن الخطأ كان خطأه، فمن المحتمل أنه ترك للخصم ثغرة يمرّ عبرها نحو المَلكِ، أو ربما لم يحسن فقط اختيار موضع القلعة في اللحظة الأخيرة، أو أنه ارتكب خطأ صيدِ البيادق على حساب الملك.. كل شيء محتمل، ولكن الأكيد أن قلقه ضعيف جداً، لأنه يعرف أنه في المحاولة القادمة سينجح في تفادي الخطأ السّابق. إن كل شيء في لعبة التفكير هذه يسير وفق حسابات رياضية ليست معقدة بعد التّمرس عليها.
كان بإمكان هذا الشخص ألا يتعب نفسه ويذهب للبحث عن صديقه، إذ أن البحث فوق مكتبه عن قلم وورقة وبعض المسائل الرّياضية كان كفيلاً بجعله يخدّر نفسه لساعات متواصلة دون أن يشعر بالوقت الذي يمضي ثانية بعد ثانية. . لأن هناك تشابها بين الشّطرنج وما كان بإمكانه أن يفعله وحيداً أمام الورقة ورموز الرياضيات : إنه التلاعب بالرّموز بوساطة المنطق. تلكَ اللّذة القصوى التي تتولّد عن عملية البحث المتواصل عن حلّ معادلة رياضية صعبة إنما مصدرها علمنا التّام بأن هناك بالضرورة حلاّ ما ويجب إيجاده مهما كلّف الأمر.
لقد صدق هولدرلين هيبريون حين قال، واثقا أكثر من اللازم : » الإنسان إله حين يحلم، ولا يكاد يكون شحاذا حين يفكر ! «
وهذا النّص كان دليل تشرّدي.
الهوامش:
1) : زبيغنيو بريسنر » Zbigniew Preisner » موسيقار بولوني شهير، وقد وقعت مصادفة على اسمه قبل أيام قليلة وبعد البحث في موقع يوتوب عن معزوفاته شعرت ببعض الإنتماء الغريب إلى تلكَ اللّغة الموسيقية النادرة، وأثناء كتابة النّص كنت أستمع إلى المعزوفة التي تحمل الإسم » Piotr » والتي تكرّرت للتوالي مرات عديدة دون أن تسمح للملل بالتّسرب.
2) أثبتت نظرية الفوضى الخلاّقة « Chaos Theory » أن هناكَ نظاما دوما حيث يبدو أنه لا يوجد نظام وتسود الفوضى. ولهذا كان من الواجب الحَذر في التعامل مع مفهوم الخربشات الفوضوية.
3) رسائل قصيرة تتسرب إلى جهاز الهاتف النقال كانت تنقل إليّ حالة « أمل » التي اتسمت أحيانا بالقوة وأحيانا أخرى بالخيبة.. كتبت يوماً هذه العبارات التي شعرت بعد قراءتها أن هناكَ شيئا ما لا يسير بشكل جيد : « سكونٌ بلا أصابع يسبق عاصفة بمخالب، ترى ماذا تتوقعين لهذه التّشكيلة الهجينة غير الدمار في زمن الإسهال الفكري والسّعال السياسي؟ »
4) مقطع ترجمته بتصرف عن كتاب André Comte-Sponville بعنوان » Traité du désespoir et de la béatitude » الذين -وللأسف الشديد- لا تتوفر منه نسخ عربية. هذا الفيلسوف يملك نظرة مختلفة إلى اليأس.. والكتاب ممتع في كلّيته.
5) مقولة نيتشه هي الآتية : » إن الحية التي لا تغير جلدها تموت «
6) هناك مقولة مهمّة للّرد على أولئك الذين يتهمون الآخرين بالتّفلسف حين يتحدثون لغة لا يفهمونها وهي مقولة منسوبة لأرسطو : « علينا أن نتفلسف إذا اقتضى الأمر التّفلسف، فإذا لم يقتضِ الأمر التفلسف وجب أن نتفلسف لنثبت أن التفلسف لا ضرورة له. »
Aucun commentaire