الإنسان بين اختيار الحرية وإكراه العبودية
يقول مونتسكيو : [ ليست هناك كلمة أعطيت معاني مختلفة كالحرية . ]
صحيح، ليس هناك تعريف جامع مانع ، اهتدى إليه المفكرون الغربيون ، ولم يستعص على المفكرين المسلمين ، كتعريف مفهوم الحرية ، لأنه كمفهوم أو كمصطلح فلسفي ، له دلالات ومعاني كثيرة ومتعددة بتعدد المهتمين والدارسين ، ومختلفة باختلاف الفلاسفة أو المدارس الفلسفية . فسقراط اختزل الحرية في التعبير عن الرأي بدون قيد أو شرط ، مفضلا الحكم بالإعدام بدلا من التنازل عن حريته في التعبير. أما تلميذه أفلاطون فيرى أن روح الإنسان عرفت الحرية وعايشتها في عالم المثل ، ولذلك فهي دائمة الشوق للعودة إليه ، وبدون الحرية لا يمكن للناس أن يعيشوا بسلام في مدينته الفاضلة . والحرية عند الفيلسوف جون جاك روسو، هي أن يفعل الفرد كل ما يريد انطلاقا من إرادته الخاصة ، دون الخضوع لإرادة غيره ، على أساس أن لا يخضع الآخرين لإرادته الخاصة .أما ابن رشد فيذهب مذهب الأشعرية إذ يجمع بين الجبر والاختيار، مميزا بين عالم الإرادة الداخلي المتروك لاختيار الإنسان وعالم الظواهر الخارجية ، الذي تحكمه المشيئة الإلهية وإرادة الله . وانطلاقا من العدل الإلهي ومسألة التكليف والقدرة على الفعل وما يترتب عنه من ثواب أو عقاب، تناول المتكلمون مسألة الحرية ، فذهبت الجبرية وعلى رأسها الجعد بن درهم وتلميذه الجهم بن صفوان ، إلى نفي حرية الإنسان وقدرته على اختيار الفعل حقيقة ، مضيفة الخلق والفعل إلى الله .لأن الأفعال في نظرها تنسب إلى الإنسان مجازا وليس حقيقة ( كقولنا سقط الحجر وطلعت الشمس وجرى الماء … فالسقوط والطلوع والجريان منسوب للحجر والشمس والماء مجازا وليس حقيقة ، لأن الحجر والشمس والماء وكل من في حكمهم جماد والجماد لا يتحرك من ذاته وليس له القدرة على الحركة ، فالفعل إذن مخلوق من الله حقيقة ومنسوب لغيره مجازا ) . وعلى خلاف الجبرية ربطت المعتزلة بين الحرية والمسؤولية ، لأن الله عادل كل العدل ولا يمكن أن يكلف العبد دون أن يمنحه حرية الاختيار والقدرة على خلق أفعاله . فالإنسان إذن قادر على خلق أفعاله وهو مسئول عنها والعدل الإلهي يقتضي ذلك . أما فرقة الأشاعرة فحاولت التوفيق بين الجبرية والقدرية فقالت بنظرية الكسب أي أن الأفعال مخلوقة لله ، مكتسبة للإنسان ، فالفعل الاختياري الواحد ينسب للإنسان كسبا ولله إيجادا وخلقا .
لكن الحرية عند العلمانيين والحداثيين بصفة عامة ، هي أن تقول ما تشاء وتفعل ما تشاء وتكتب ما تشاء ، حتى ولو تعلق الأمر بالطعن في العقيدة وبالكفر بالله سبحانه وتعالى أو بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم . و للحرية عندهم أيضا دلالة ومعنى آخر لا يستسيغه العقل ولا يقبله المنطق وتشمئز منه النفس و ينفر منه الحس السليم ويرفضه الدين والعرف ، لكثرة ما ألحقوا به من تشويه ولربطه بكل رذيلة وخلاعة وخاصة حرية الجسد ، التي لا تتجاوز الدعوة للمثلية والشذوذ والسحاق والعهارة والمخدرات والخمر وكل ملذات الشقاء…ولاستخدامه كوسيلة للطعن والتشكيك في معتقداتنا الدينية ومقدساتنا الوطنية وقد عبر عن هذا الفهم السيئ للحرية ، كل من عبد الصمد الديالمي وخديجة الراضي في الندوة التي أقامتها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين لتأسيسها ، إذ طالبا كعادة التيار العلماني – الذي ينتميان إليه والذي يسعى إلى ترسيم مشروعه المعادي للإسلام وللهوية المغربية ولقيم وأخلاق المغاربة ومقدساتهم – بالنضال من أجل الحرية الجنسية وحرية الإجهاض وحرية التصرف في الجسد وحرية العقيدة والتدين . وأن الزنا إذا كان بالتراضي لا يعتبر جريمة ولا فسادا في دين وأخلاق الديالمي،لأن ذلك من الحرية الشخصية والحرية الجسدية ، التي على القانون أن يكفلها للمواطنين ، لأنها فوق الشرع والعقل والعرف في نظرهما ، وإن كان دعاة العلمانية يرفضون الحرية الشخصية والجسدية عندما يتعلق الأمر بالحجاب وينعتون لابساته بأقذع الصفات وأسقط النعوت . وبهذا المنطق الأعوج ، منطق التناقض ، يدعون إلى حرية الجسد وفي نفس الوقت ينكرونها على من ترتدي الحجاب ، وكأن الحرية لها اتجاه واحد يصب في العري و الفتنة الجسدية وفي الدعوة إلى الإلحاد والفساد الأخلاقي . تراهم يتشدقون بالحرية وهم أول من ينسفها ، إذا تعدت أو تجاوزت تعاليم العلمانية الملحدة .
إن رسل المشروع العلماني وصحابته يهدفون إلى نسف الأسرة والأبوة والأمومة وقبل هذا نسف عقيدتنا وأخلاقنا التي استقيناها من الوحي الكريم ، الذي لا يأتيه الباطل واستبدال مقدساتنا بالرديء المدنس من الفلسفات الغربية العلمانية الملحدة . وهذا وزير الاقتصاد السابق يعلن بصراحة في برنامج حوار عن رغبته في استبدال تعاليم الوحي المقدس من القرآن الكريم والسنة الشريفة بالفكر الليبرالي ، ويشهد على هذا قوله : ( إننا كحزب ننتمي إلى صف الليبرالية الاجتماعية .. نريد أن نحدد هويتنا بشكل واضح .. نحن نرفض أن يقحم الدين في السياسية ، نحن نرفض أن يستعمل الدين في السياسة ، نحن نرفض ازدواجية اللغة وازدواجية الخطاب .. نحن سنعمل على تكوين أكبر تنظيم للمرأة في المغرب ، المرأة الحداثية ، لأننا نعتبر أكبر تحد للمغرب هو تربية الأجيال المقبلة … لهذا سنعمل بكل قوة مع إخواننا الذي ينتمون إلى الصف الحداثي في هذه البلاد لمواجهة الفكر الظلامي لمواجهة كل التوجهات ، التي من شأنها أن تعيد المغرب سنوات إلى الوراء ) (1) . إن دعوة الوزير هذه مجرد ترديد لما أعلن عنه تشارلز برادلاف الملحد عام 1866 من ضرورة التخلص من الدين من أجل التحرر من الكنيسة . وتؤكد هند عروب هذا التوجه في فهم الحرية من خلال قولها : (… أن النظام المغربي يخشى الفصل بين الدين والدولة ، لأن في ذلك زعزعة للشرعية التي يقوم عليها النظام الملكي المغربي ) (2) وغير بعيد عن الفهم نفس نجد محمد السكتاوي مدير منظمة العفو الدولية ، – بل الغفو الدولية – يطالب بعلمنة المقابر يسانده في ذلك مدير أمنيستي بقوله : ( لقد فرقونا في الحياة ، ولا يجب أن يفرقونا في الموت . وأنا أدعو الله بدعاء أهل الأعراف ، أن لا يجمع بيننا وبينهم في الدنيا ولا في الآخرة [و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ] ( الأعراف آية 47 ) كما أن تدخل حافظ إسلامي كان في نفس السياق إذ قال : (… في الوقت الذي يسمح للآباء بتربية أبنائهم على الدين الذي يشاؤون ، فإنه يمنع عليهم تربيتهم تربية تقوم على أساس الحقد أو العنصرية اتجاه الآخر… مضيفا أن العلمانية تقتضي أن لا يكون للدولة دين رسمي وأن لا يتحول الدين إلى هوية وطنية ، بل أن يكون الوطن فضاء لممارسة كل الشعائر الدينية بكل حرية وكذا الإلحاد…). (3)
أي حقد لهؤلاء العلمانيين على المرأة ، التي يريدون إخراجها باسم الحرية – ( حرية العري والرذيلة والخلاعة )- من العفاف والصلاح وبلا حجاب ، لتكون لهم أداة للهو والعبث وقضاء الحاجات . وكم كان محمد الغزالي صادقا حين قال : ( إن تعرية المرأة حينا ، وحشرها في ملابس ضيقة حينا آخر، عمل لم يشرف عليه علماء الأخلاق ، وإنما قام به تجار الرقيق ) . وأنا أضيف على كلامه ، والقوادون المشرفون على الفساد الجنسي ودور الدعارة وما يدور فيها من خمر وحشيش ولواط … وأي حقد لهم على الإسلام والمسلمين ، الذين يريدون صدهم عن الدين ويجردونهم من عقيدتهم .
إن العلمانية الملحدة لا تؤمن بالحرية ولا بالتعايش السلمي بين الأديان ، بل تهاجم كافة الأديان وتفرض عليهم الحجر والوصاية وتجبر الناس على الكفر والإلحاد ودليلنا علمانية الصين وروسيا لينين وستالين وبطشهما وقمعهما لكل الأديان . إن الإسلام لم يكره أحدا على اعتناقه بدليل قوله تعالى : [ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ] (سورة يونس آية 99 -100 )
إن الحرية في الإسلام ، هي أن تكون قادرا على إتيان الشيء أو تركه مختارا غير مضطر ولا مكره وبوعي وإرادة ومتحملا نتائج فعلك سلبا وإيجابا ، وهي ببساطة ضد الظلم : ظلم الذات في حالة العبودية لغير الله . [ وإذ قال لقمان لابنه وهو يعضه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ] ( لقمان آية 13 ) وظلم الغير في حالة منعه وحرمانه مما تحب لنفسك أو إكراهه على فعل ما تكرهه لنفسك [ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولائك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ] ( البقرة 114 ) [ الظلم ظلمات يوم القيامة ] ( رواه مسلم ) وهي في تقديري ليست حرية واحدة ، كما يتصورها الفكر الليبرالي والعلماني الغربي ، بل حريتان مطلقتان في حالة العبودية لله ، كما أن العبودية لغير الله هي عبوديتان . إن الحرية ضد العبودية لغير الله ، ضد الاستسلام لغير الله ، فالعبد المؤمن حين يختار عبادة الله وطاعته ، والله سبحانه وتعالى يعطيه فرصة الاختيار وحرية الاختيار، يكون قد اختار الفطرة واستجاب لمؤثر داخلي، هو ما أسميه بغريزة التعبد .أما عندما يختار العصيان والتمرد على الله سبحانه وتعالى ، فسيكون مخالفا للفطرة وخاضعا لمؤثر خارجي ، طارئ ، يسترقه ويستعبده ، قد يكون هو النفس أو الهوى أو شياطين ألإنس أو الجن أو المال …وهذا لن يخرجه من دائرة العبودية لله ، بل يجعله عبدا لله كرها وقهرا لا طوعا رغم أنفه مع استحقاق غضب الله ، لأن الخلق كلهم عباد الله . أما إذا اخترت التمرد على الشيطان والنفس وعصيت دعاة الرذيلة والفساد فستكون أيضا قد اخترت الحرية ومارستها برفضك للاستعباد وعدم الخضوع لتثير مختلف القوى الباطنية ، كالدوافع الغريزية الغير مهذبة والأهواء على اختلافها والقوى الظاهرية ، سواء كانت مادية في شكل فرد أو مجتمع أو فكرية في شكل فلسفة أو إيديولوجية أو سياسية واقتصادية… فالحرية إذا حريتان : (1) حرية في الإقبال على الله وطاعته والاستسلام لأمره واختياره كمعبود لا شريك له .
(2) حرية في اختيار التمرد على النفس الأمارة بالسوء والشيطان والفكر العلماني الضال المضل . ( لأن الاستعباد لغير الله مذلة وتحقير وصغار عند الله ).
إن العلمانيين أطاعوا غير الله ، فأضاعوا حرية الاختيار ، التي تميز الإنسان ككائن عاقل مكلف ومسؤول عن أفعاله الإرادية وسقطوا تحت نير الاسترقاق والاستعباد المزدوج :
(1) عبيد لله رغم أنفهم مضطرين لا طائعين بحكم الخلق والإيجاد .
(2) عبيد لغير الله بحكم العبادة والانقياد لغير الله ، لأنهم رضوا بالتحكيم والتحاكم إلى الطاغوت
نستنتج من كل ما سبق ، أن العبودية لله حرية مطلقة ، لا يمكن أن تتحقق ، إلا في ظل العبودية الاختيارية الخالصة لله ، الصادرة عن عقل وقلب المؤمن الصادق مع ربه ، دون إكراه أو إرغام . ويترجم هذا قوله تعالى [ من عمل صالحا من ذكر وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ] ( سورة النحل آية 18 )
أما العبودية لغير الله ، فهي استرقاق واستعباد قائم على الجبر والقسر ، صاحبها مملوك لنفسه ولقرينه الإنسي والجني ولهواه ، يعيش حياته نكدة ويقضي أيامه في اكتئاب مزمن وقلق مستمر … ونهايته لا محالة تكون مأساوية . وصدق الله العظيم إذ يقول : [ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ] ( سورة ط 20 )
( 1) المشرع الحداثي عند مزوار : المرأة الحداثية لا تلبس الحجاب .
هبة بريس 15112011 إبراهيم بدون .
( 2 ) عروب : النظام يخشى العلمانية لأنها تزعزع شرعيته السماوية
هسبريس 3092012 رشيد البلغيتي
(3 ) هسبريس 1102012
رشيد البلغيتي
بقلم عمر حيمري
Aucun commentaire