مفسدات الثورات العربية ، ومنغصات الربيع العربي
مفسدات الثورات العربية ، ومنغصات الربيع العربي
محمد شركي
احتار المحللون في تفسير ظاهرة الربيع العربي ، ولم يستطع أكثرهم خبرة أن يفسرها على ضوء الخصائص المميزة للثورات كما عرفتها البشرية عبر تاريخها ، وخصوصا التاريخ الحديث. فالمعهود أن الثورات تتوفر فيها أولا إيديولوجيا معينة تتولد عن مرجعية فكرية وفلسفية معينة ، وتتبنها جهة معينة قد تكون هيئة ، وقد تكون شخصية كاريزمية . والثورات العربية التي حدثت ولا زالت تحدث في الوطن العربي لم تنتج عن إيديولوجيا معينة ، بل وجهتها حالات فساد سياسي عنه تفرعت أنواع الفساد المختلفة في كل الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية . ولم تتبن جهة أو شخصية كاريزمية مناهضة حالات الفساد في الوطن العربي ،بل كان الإعلام العنكبوتي الذي سهل التواصل بين شباب الشعوب العربية هو الشخصية الكاريزمية المعنوية التي قادت الثورات العربية ضد الفساد . وهناك جهات تشكك في هذه الشخصية المعنوية منذ أن فجر موقع ويكليكس قنابله المدمرة التي كشفت عن شبكة الفساد العالمية ، والتي تورطت فيها الأنظمة العربية بشكل مكشوف . ويذهب البعض إلى أن محرك الثورات العربية هو ما يسمى مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي خطط له الغرب بدقة ، وبدأ تنفيذه . وهناك من يرفض هذا التفسير ، ويعتبر الثورات العربية مفاجأة حتى بالنسبة لأصحاب مشروع الشرق الأوسط الجديد الذين يحاولون استغلال الثورات العربية لفائدة مشروعهم الذي انهار بانهيار الأنظمة التي كانوا يراهنون عليها . وتختلف التفسيرات والتأويلات لظاهرة الربيع العربي حسب اختلاف وجهات النظر . فمحاولة تشويه الثورات العربية من خلال نسبتها إلى مشروع الشرق الأوسط الجديد قد يكون عبارة عن وجهة نظر الجهات التي كانت تستفيد من الأنظمة العربية الفاسدة ،والتي تم إسقاطها. ومحاولة تفسير الثورات العربية على أنها مجرد عبث شباب الفيسبوك عبارة عن تقليل من شأن هذه الثورات . ومحاولة تفسير هذه الثورات على أنها محض صدفة عبارة عن قفز عن الواقع العربي . فالثورات واقع لا يمكن إنكاره ، وظروف هذه الثورات معروفة بفترة ما بعد النكسة العربية ، و بفترة ما بعد مسلسلات استسلام وانبطاح الأنظمة المنهزمة المخالفة لإرادة الشعوب العربية ، وفترة محاصرة الشعب الفلسطيني الحصار الخانق ، وفترة غزو الغرب للبلاد العربية والإسلامية من جديد على غرار الغزو الغربي في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وفترة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي أعقبت فترة الحرب الباردة ، وهي فترة هيمنة القطب الرأسمالي بعد انهيار القطب الشيوعي الاشتراكي . وفترة ظهور أجيال جديدة في الوطن العربي اصطدمت طموحاتها الطويلة العريضة بأوضاع البلاد العربية المتخلفة ، وبواقع البطالة بكل أنواعها بما فيها البطالة الجامعية ، وبواقع الهجرة السرية نحو الغرب الذي صار بدوره غريقا فحصل ما يعرف بتشبث غريق بغريق . ولم يجد الشباب العربي الطموح في الأنظمة العربية ومعظمها أنظمة عسكرية انقلابية و التي تحكمه بقوة الحديد والنار ما يلبي طموحاته التي لا حدود لها . وكل هذه العوامل مجتمعة ومتأثر بعضها ببعض كانت وراء ثورات فريدة من نوعها بدون إيديولوجيا ولا تأطير زعاماتي ، وهو ما جعل البعض يعتبرها ثورات عفوية الشيء الذي أغرى الأنظمة العربية التي لم تسقط بعد أو حتى التي سقطت بإمكانية العودة من جديد بعد عاصفة هذه الثورات . فما يحدث الآن في مصر عبارة عن محاولة يائسة من المؤسسة العسكرية المستبدة من أجل البقاء في السلطة كما كانت طيلة عقود ، وهو ما يعني استخفافها بالثورة المصرية على اعتبار أنها ثورة عفوية ليس لها ما يسندها إيديولوجيا وقياديا ، ولهذا يروج الجيش لفكرة سطو حركة الإخوان المسلمين على الثورة الشعبية في مصر وركوبها ، لأنها في نظره ثورة عفوية فقط . وما يحدث في سوريا هو محاولة التشكيك في ثورة الشعب السوري من خلال التسويق لتهم تخوين الشعب ، من طرف نظام فاسد يرتزق بشعارات طالما ارتزق بها وهي الصمود والتصدي والمقاومة مع أنه لم يحرك ساكنا بعد مرور عقود طويلة على احتلال العدو الصهيوني لأرض الجولان . ونفس الشيء يقال عن النظام الجزائري الذي كان أول من أجهض الثورة الشعبية المبكرة في الوطن العربي . فالنظام الجزائري يحاول أن يكذب وجود ثورة شعبية عربية ، ويريد أن يسوق لفكرة استثناء الجزائر مما يقع في الوطن العربي من ثورات. فأسلوب النظام الجزائري هو نفس أسلوب الأنظمة العربية في التعامل مع الثورات الشعبية ، والنظام الجزائري هو السباق لأسلوب قمع الثورات ، ومصادرة التجربة الديمقراطية . والنظام اليمني وعن طريق المؤسسة العسكرية التي تتسم بسمة الطائفية والولاء القبلي يمارس نفس القمع الذي مارسته الأنظمة العربية الفاسدة ضد شعوبها المنتفضة عليها . فالظاهرة المسجلة في الوطن العربي هو نشوء وعي لدى الشعوب العربية بضرورة التغيير ، وضرورة الخروج من فترة ما بعد النكسة وما بعد الاستسلام والانبطاح ، وما بعد انسداد الآفاق ؛ وهو ما حمل هذه الشعوب على الثورات التي يعتبرها البعض عفوية . ونسجل إلى جانب هذه الظاهرة ظاهرة خطيرة تتعلق بمفسدات هذه الثورات أو نواقضها ، وعلى رأسها سعي الغرب من أجل إفشال هذه الثورات لضمان مناطق النفوذ في الوطن العربي ، وضمان تعويض الأنظمة المنهارة بأخرى تقوم بنفس دور رعاية مصالح هذا الغرب بما فيها توفير السلام والأمن والاستمرار للكيان الصهيوني المستنبت في قلب الوطن العربي . وبعد هذا المفسد الخطير توجد مفسدات الطوابير الخامسة في الوطن العربية ، والمتمثلة أولا في فلول الأنظمة المنهارة التي تحاول تجميع صفوفها من أجل جولة أخرى تستهدف إفراغ الثورات العربية من محتواها . ومن المفسدات تصفيات الحسابات الحزبية والطائفية في البلاد العربية ، وهيمنة روح الشك في بعض الأطياف السياسية التي راهنت عليها الشعوب إبان وخلال وبعد ثوراتها كما هو حال الأحزاب الإسلامية التي حققت فوزا في الاستحقاقات الانتخابية في بعض الدول العربية وهو فوز إنما يعكس إرادة الشعوب ، أكثر مما يعكس خبرة هذه الأحزاب الإسلامية ، ذلك أن الشعوب العربية اليائسة من أداء أنظمتها الفاسدة ، واليائسة من أداء أحزابها التقليدية التي جربت ولم يرق أداؤها إلى مستوى طموحات الشعوب ،راهنت على الأحزاب الإسلامية التي كانت ممنوعة إلى عهد قريب من طرف الأنظمة العربية الفاسدة بإيعاز من الغرب الذي لم يتوان في تسويق فكرة الإسلام ـ فوبيا لتشويه التجربة الحزبية الإسلامية في الوطن العربي . ومع وصول الأحزاب الإسلامية في بعض البلاد العربية إلى مراكز القرار عرفت هذه البلاد ظاهرة التشكيك والتخويف من هذه الأحزاب ، وظاهرة الاعتراض على أدائها بكل الأساليب والأشكال ، وهذه من مفسدات الثورات العربية الخطيرة أيضا . والجهات الخارجية والداخلية المروجة للتشكيك في وصول الأحزاب الإسلامية إلى مراكز القرار تحاول يائسة تشكيك الشعوب العربية في وعيها ونضجها السياسي ، وتريد أن تلقي في روعها أن ثوراتها كانت نوعا من الطيش ، وأن رهانها على الإسلام هو رهان فاشل سيؤدي إلى وضع كارثي أسوأ من الوضع الذي كان في ظل الأنظمة العربية الفاسدة سواء المنهارة أو التي هي في طريق الانهيار . ولا أعتقد أنه يوجد وضع أسوأ مما كان عليه في عهد الأنظمة الفاسدة البائدة ، أو التي ستبيد إن شاء الله تعالى . والغرب يتوجس مع طوابيره الخامسة خصوصا العلمانية منها من نجاح تجربة الأحزاب الإسلامية لأنها ستقضي على شماعات الغرب التي يتذرع بها لتبرير غزوه للبلاد العربية والإسلامية ، وعلى رأسها ما يسميه محاربة الإرهاب الإسلامي حيث أثبت الأحزاب الفائزة بأنها لا ينطبق عليها هذا القدح الغربي وقد قبلت خوض اللعبة الديمقراطية وكانت الطرف الفائزة دون أن تستعمل ضغطا أو عنفا من أجل أن تراهن عليها الشعوب . وبنجاح الأحزاب الإسلامية في تجربتها السياسية في الوطن العربي سيكون الغرب وطوابيره الخامسة مضطرين للبحث عن ذرائع جديد لتمديد فترة الصراع مع الإسلام أطول مدة ممكنة . وأخيرا أختم بملاحظ وتتعلق بشعار رفعه الشعب السوري في الجمعة الأخيرة ، ومفاده : » إذا كانت الأنظمة العربية متخاذلة فما بال الشعوب ؟ « والجواب عن تساؤل هذا الشعب الأصيل البطل الصامد المعول على رب العزة سبحانه هو أن الشعوب العربية شغلت عمدا بأمور تافهة من قبيل الصراع بين القوى الثورية الشريفة ، وبين فلول الأنظمة الفاسدة المنهارة . فشعب الكنانة يخوض حربا شبهية بحرب الشعب السوري لأنه يواجه المجلس العسكري ، وهو عبارة عن استمرار للنظام الساقط ، وإن كانت المواجهة ليست ساخنة كما هو الحال في سوريا . ولا يخلو تجمع جماهيري مصري من رفع العلم السوري تأييدا للثورة السورية الباسلة . والوضع لا يختلف في ليبيا مع شعب عمر المختار الذي تحاول الأيدي الخفية القذرة شغله بالصراع مع فلول وعبيد النظام البائد . وما قيل عن الشعبين المصري والليبي يقال عن باقي الشعوب التي شغل كل منها بمشاكل جانبية لمنع تداعيها القومي وذلك من أجل مساعدة الأنظمة الفاسدة أو بقاياها من الصمود أمام الثورات العربية المظفرة . والآمال معلقة على الشعب المصري الذي منه سيبدأ التداعي من أجل دعم الثورات العربية في كل الأقطار العربية . وأنا أكتب هذا المقال على بعد لحظات من إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية التي ستقرر مصير مصر ومصير الوطن العربي برمته أتساءل : هل ستنجح الثورات العربية من التخلص من المفسدات والنواقض ، أم أنها ستفشل لتعود الشعوب إلى نقطة الصفر كما يقال لا قدر الله . وأخيرا نأمل من مدبر أمور الأرض والسماء سبحانه وتعالى أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الباطل والمبطلين ، ويرد على مكر الماكرين بمكره الشديد وهو حسب الأمة العربية ونعم الوكيل .
Aucun commentaire