بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

خروق في سفينة المجتمع

اختلال المنطق وفساد الذوق

            بقلم: عبد المجيد بنمسعود

من خصائص دين الإسلام في بنائه للشخصية المسلمة التي يقوم عليها بنيان المجتمع المسلم، أن يقيمه على التكامل والشمول، فلا يدع جانبا إلا نماه، ولا بعدا إلا قومه ورعاه، بدءا من الروح، مرورا بالعقل، وصولا إلى الأخلاق والأذواق، وقبل ذلك كله، صيانة للجسم الذي يجمع كل تلكم العناصر في كيان متين وقوام متناسق عجيب.

ومن عجيب أمر الإسلام في نظرته إلى الحياة، أن يتوخى في جريانها على مستوى الدولة وأجهزة التدبير فيها ما يتوخاه في جريانها على مستوى الأفراد، قوة في الجسم والروح، وسلامة في المنطق والتفكير، ورهافة في الذوق والخلق، فإذا ما أصيب مقوم من مقومات ذلك الكيان على كلا الصعيدين معا، أصاب الكيان جميعا من الخلل والتصدع بقدر ما أصاب ذلك المقوم منهما. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار كل من الفرد والدولة أو المجتمع مرآة لبعضهما البعض، بحيث نكون على يقين ونحن نتأمل حال شرائح من الناس الذين يطلق على كل منهم صفة » مواطن »، أن ما يشكون منه من عوج على مستوى مقوم من المقومات المذكورة آنفا، إنما هو انعكاس لما يماثله من عوج وانحراف في كيان الدولة أو المجتمع، فذلك العود من تلك الشجرة كما يقال، مع الأخذ في الاعتبار ما هنالك من تفاوت في درجة المسؤولية وعظمها بين كلا الطرفين، بحسب تفاوتهما في الموقع. فشتان بين عوج يعشش في دواليب الدولة القيمة على الناس وما ينخر عظامها من تسوس على مستوى حراسة الكليات الخمس) الدين و العرض أو النسل، والنفس، والعقل، والمال(، وبين عوج يطول نفس الكليات على مستوى الآحاد من الناس، وإن كان ما يقع لهؤلاء أنفسهم يدخل في نطاق المسؤولية الكبرى للدولة بأجهزتها المتنوعة التي تتولى رعاية الأمن العام بجميع أنواعه ومستوياته، فضلا عن كونه غير معف لهم عن المسؤولية عن أنفسهم إزاء ما يجترحونه من جرائم وانحرافات.

دارت في رأسي هذه الخواطر والأفكار، عندما مررت من أمام أحد الشباب الذين تتناسخ صورهم في زوايا المدن والقرى، وحتى البوادي، إنهم فئة من المواطنين الذين تخصصوا في بيع السجاير بالتقسيط لمن يطلبها من الكبار والصغار،رأيته واقفا وراء صندوقه الذي يحتوي على بعض العلب المتنوعة، وقد كساه ببعض الصور التي يقصد بها التجميل لصندوق لا يحمل غير وسيلة من وسائل الدمار والتخريب والموت البطيء، صندوق يحمل بين ثناياه بذور المآسي والآلام التي طوحت وتطوح بقطيع من المغفلين المستدرجين إلى شبكة محبوكة من شباك الشيطان اللعين، في تحالف بغيض بينه وبين شياطين الإنس الذين يستمرئون سقوط الضحايا بالألوف في شباكهم الرهيبة، ما دامت تدر عليهم من المال الحرام ما يقدر بالملايير، ويشعرون بلذة النجاح ونشوة الانتصار، قبل أن تصيبهم قارعة أو تحل قريبا من دارهم.

هممت بالانصراف من مكتبة صغيرة يكمن على جانب الرصيف الأيسر بالقرب من بابهاـ وكنت قد رأيته منذ مدة وهو على تلك الحال، فأشفق لحاله وحال من يتأذون من عمله السيئ المرذول ـ ولكنني قلت في نفسي لم لا أبذل النصيحة لهذا المجرم المسكين، كما بذلتها لأمثاله ممن ينصبون شباكهم في العراء، وغيرهم ممن يصففون علب السجاير المسمومة بجانب المواد الغذائية في الدكاكين الكبرى والصغرى ، ممن أتعامل معهم لغرض النصح، قبل أن أقليهم وأهجرهم لما أرى من تعنتهم وإصرارهم على مواصلة الإجرام في حق أبناء الشعب المسكين.

ـ سألته قائلا بعد استئذانه في السؤال: أما فكرت يوما في مساءلة نفسك عن مشروعية هذه التجارة، وعن حساب الربح والخسارة فيها ؟

ـ أجابني أن قد فعلت، فوجدت أن لا مفر لي منها، إنها مصدر عيشي.

ذكرت له مساوئ هذه التجارة وحرمتها لكونها مصدرا لشر مستطير.

ـ أجابني في ما يشبه الوثوق: لا مفر لي منها لأنني مريض، وقد قضيت أربعة عشر عاما من الخدمة في إدارة من الإدارات، فلفظوني بغير رحمة، فتحولت إلى بائع متجول، فطوردت مرارا وسرق مني الميزان، فلم أجد بدا من اللجوء لهذه التجارة التي أضمن بها الاستقرار، والنجاة من المطاردة،  ثم استطرد قائلا:  وفوق هذا وذاك،لم تسألني في شيء مرخص له من طرف القانون؟ أليست الدولة أولى بالمساءلة في هذا المقام؟

ـ رددت عليه قائلا: وهل تظن ذلك معفيا لك عن المسؤولية عن الترويج لمادة سامة تودي بحياة الكثيرين من الضحايا من أبناء هذا الوطن العزيز؟ وهل تحجب مسؤولية « الكبار » عما يقترف من جرائم في حق الشعب مسؤولية الصغار؟ أليست تسعر النار بخشاش الأرض وصغار العيدان؟ فهل ترضى يا أخي أن تكون حطبا صغيرا في نار كبرى يسعرها كبار المجرمين لإحراق طاقات الشعب وتدمير موارده، ثم تنقلب عليهم يوم القيامة لظى تشوي أبدانهم وتقطع أمعاءهم، فيستغيثون ولا مغيث؟

إن اختلال المنطق وفساد الذوق يعدان حقا من الخروق التي تهدد سفينة المجتمع بأن تتسرب لها منها مياه تثقل كاهلها وتفقدها توازنها. إنه عندما تشيع هذه الآفة المركبة التي لا شك أنها نتاج لخروق أخرى تتناسل في تلك السفينة مثل الغفلة والاستغلال وغياب العفة والعدل والضبط الاجتماعي، وغياب الوعي السليم الذي يؤدي لا محالة إلى استشعار المسؤولية عن كل حركة أو سكون مما يمكنه أن يوهن حركة السفينة الماخرة لعباب الحياة، وأن يرشحها لأن تكون في لحظة من لحظات الإبحار طعاما سائغا لأمواج البغي والظلم، وحيتان الجشع والشراهة والطغيان، التي لا يستحيي أبطالها من أولي الترف والفساد، إلا وقد رأوها رأي العين وهي تنقلب على الجميع، ظالمين ومظلومين، وصدق الله العظيم القائل: » واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة »