سؤال الحداثة في المغرب بين تناقضات المخزن وفتاوى رجال الدين
محمد بونيف
نظم الحكم التي عرفتها الشعوب ، والأحداث الكبرى التي عاشتها وطبعت حياتها، والتوجهات الفكرية والعادات والتقاليد التي سادت خلال مراحل تاريخها ، قد تكون مصدر تقدم وازدهار تحقق الشعوب بفضلها خطوات نوعية ، وقد تشكل ثقلا وترسبات تعيق نهضتها وتقدمها وتكبل حاضرها وترهن مستقبلها .ومعرفة تاريخ الشعوب تسلط الضوء على واقعها وتفكك شفراته، وتسعف في تشخيص إشكالياتها والمعيقات التي شلت و تشل ديناميتها . والمتتبع لتاريخ بلادنا خلال القرن التاسع عشر يدرك مختلف العوامل والتوجهات الفكرية ، منها تلك التي كانت تمرر باسم الدين والتي جعلته يخلف موعده مع الحداثة ، ومدى رسوخها واستمرارها في حاضرنا وانعكاساتها على مستقبلنا .
تقديم : مكانة المغرب قبل صدمة الحداثة و تحوله إلى موضوع أطماع استعمارية.
باختصار شديد يتفق مجموعة من الدارسين على أن المغرب احتل إلى حدود القرن السابع عشر مكانة هامة على مستوى العلاقات الدولية (1) كانت ستؤهله ليصبح قطب جذب في ميزان القوى الدولي ، وقد حاز في بعض المراحل التاريخية رغبة دول رائدة في التحالف والتعاون معه ، كطلب صلاح الدين الأيوبي باسم الخلافة العباسية الدعم العسكري البحري من المنصور ألموحدي ضد الهجمة الصليبية ، مما يدل على أن المغرب كان قوة بحرية هامة ، وطلب بريطانيا التي ستصبح فيما بعد مسيطرة على البحار وعلى النظام الدولي التحالف مع السعديين في مواجهتها لاسبانيا ،إلا أنه لم يحسن التعامل مع الفرص الهامة التي فرضتها هيبته وانتصاراته في مجموعة من المعارك التاريخية ،ولم يستثمر مكانته الاقتصادية المزدهرة نسبيا بالقياس إلى المرحلة ، كصناعة السكر التي كانت التي كانت من أهم صادرات المحزن السعدي والنسيج وصناعة السفن (2) . بعد مرحلة الازدهار هذه سادت فترة من الجمود والتقهقر شملت جميع المجالات والأخطر هو أن هذا النكوص والانكماش على الذات امتد إلى الفكر المغربي وانعكس على شرائح المجتمع وتجسد في رفضها للحداثة والتحديث ولم تسلك البلاد سبل التصنيع التي كانت ثمرة الثورة الصناعية التي انطلقت من إنكلترا .
فماهي مظاهر وتجليات التراجع الفكري الذي جعل المغرب يتخلف عن الركب ويخلف موعده مع الحداثة التي فرضت نفسها بقوة الواقع في جميع مجالات الحياة المادية والروحية (3) ؟
ماهي امتدادات هذا التراجع في حاضرنا وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عليه ؟
عاملان أساسيان أعتبرهما مؤشرين يلقيان الضوء حتى على ملابسات واقعنا الحالي :
1 ـ دور العلماء وبعض العوامل الإيديولوجية في تكريس التخلف ومواجهة الحداثة
من المعروف أن التوجهات الإيديولوجية والدينية والثقافية والسياسية تتحكم في انتاج وإعادة الإنتاج الاجتماعي خاصة في البلدان المتخلفة كالمغرب ، وكان الفكر الديني عاملا جد مهم في هذا الإنتاج ومؤثرا في جميع المجالات حتى الاقتصادية والصناعية وعرفت الممارسة الدينية انحرافا شديدا بسبب مجموعة من العادات و التقاليد والأعراف البالية الناتجة عن قرون من الانحطاط (4) انتجت مجموعة من المعايير والسلوكات الاجتماعية المشوهة ترسخت وتجذرت في المجتمع وشمل تأثيرها جميع مناحي الحياة في مرحلة الجمود السابقة الذكر، وقد توقف العلماء عن الدور الذي كانوا يقومون به كقوة مستقلة لها وزنها وكلمتها الحاسمة في التوازن المجتمعي وأصبح الحكام يجارونهم خشية من تأثيرهم وقدرتهم على تأليب الرأي العام ضدهم (5)، وأصبحوا يلهثون وراء المستجدات والاكتشافات العلمية والخدماتية لا من أجل الاستفادة منها ومواكبتها واستثمارها لصالح النهوض بالمجتمع ولكن من أجل إبداء رأي الشرع في استعمالها واستغلالها وإصدار فتاوي حتى ولو لم يدع أي داع لذلك ، ويعتبر القرن العشرين بداية صدمة الحداثة بالنسبة للمغرب رغم أنه بدأ يشعر بالتفوق الأوروبي مند احتلال نابليون لمصر سنة 1798 واحتلال فرنسا للجزائر سنة 1830 وكان لانهزام المغرب في معركتي إيسلي 1844 وتطوان 1859 وشعور المغاربة بالسبق الأوروبي خاصة العسكري والصناعي والسياسي الدور الكبير في ظهور مجموعة من محاولات الإصلاح والتحديث التي لقيت العديد من العراقيل لا زال البعض منها يلقي بظلاله على مجتمعنا .
فبعض الفتاوي لا تخلوا من طرافة وتعكس مواجهة العلماء والفقهاء للحداثة كما بينت مجموعة من الأحداث الاجتماعية حينها اقتداء جزء هام من الرأي العام بهم حيث كان يعتبرهم القدوة التي تسن السلوك الاجتماعي مما يوضح تأثير فترة الجمود الفكري والتراجع الكبير الذي عرفه المجتمع المغربي مند بداية القرن التاسع عشر واتساع الهوة بينه وبين الشعوب الأوروبية .
من هذه الفتاوى والآراء نجد أحد الفقهاء وهو محمد المأمون بن محمد الفاضل الشنقيطي الذي اعتبر السيارة هي الدابة المنتظرة التي ذكرها القرآن في قوله تعالى « وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم ….. » وقال » أهل الزمان أشرار والساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق فخروج الدابة هي إحدى العلامات الكبرى على قيام الساعة (6) »، وحرم الفقيه أحمد بن عبد المالك العلوي قاضي فاس ومكناس في عهد الملك عبد الرحمان بن هشام (1822 ـ 1853 ) السكر المستورد من أوروبا باعتباره بضاعة جديدة لا يعلم حكم الشرع فيها ،وحرم الفقيه محمد بن ابراهيم السبعي المطبعة للخطر الذي يمكن أن تشكله على التعليم الشفوي في نظره وعلى حفظ القرآن ، وصدرت فتاوى في استعمال الهاتف والفونوغراف الذي اعتبره الشيخ عبد الحي الكتاني منكرا من المناكر،(7) كما أفتوا في خياطة أهل الذمة « قبحهم الله » في نظرهم وتسا ءلوا هل تجوز الصلاة بها ،وأبدى السفير ادريس العمراوي الذي أرسل في بعثة إلى باريس سنة 1860على عهد نابليون الثالث رغم انبهاره بالمنتوجات الصناعية في باريس رأيه قائلا « إن القوة التي بلغها الأوروبيون هي مؤشر على أنهم سينحطون وينحلون لأنهم نسوا مهلك عاد وتمود وإرم ذات العماد « .
هذا فقط جزء بسيط من الفتاوى والآراء وغيره كثير وقد وصل الحد بالمغاربة في تلك الفترة إلى مهاجمة مصانع في بلادنا بفاس، مثل معمل المشروبات والمياه الغازية سنة 1894 والمطحنة البخارية سنة 1897 و رفض العلماء بناء السكة الحديدية عندما استشارهم السلطان الحسن الأول في الموضوع ، وأصبحت العقلية المغربية متحجرة ترفض كل ابتكار ، ورفض بعض المغاربة حتى الاشتغال في بعض المصانع رغم أنها لا تنتج المحرمات .
وصل الخوف من هذا المحيط المتخلف ببعض المستثمرين المغاربة إلى حد الاستثمار في الخارج مثل محمد كسوس وادريس التازي اللذين أنشئا معملين للنسيج بمانشيستر
2 ـ تناقض تركيبة المخزن مع التحديث أسال الحديث عن المخزن الكثير من الحبر سواء تعلق الأمر بتاريخه أو بحاضره ، هناك من مال إلى تسميته بالدولة ـ الطبقية (8) فأعضاؤه كانوا يستمدون سلطتهم من الوظائف المخزنية وثروتهم من الضرائب ولم يهتموا بالإنتاج وكانت هذه الطبقة مهيمنة إلا أنها غير واضحة ومفتوحة تجمع بين تناقضات الحداثي والتقلديدي وهناك من سماه بالمخزن ـ الزاوية (9) وأرجع أصله إلى زوايا طمحت إلى السلطة ونالتها ، ومن سماه بالخزن ـ القبيلة أي نعته بكونه قبلي في نسيجه الاجتماعية والإدارية ، وأعاد الدكتور العروي نشأته إلى ظهور البوادر الأولى لفكرة الدولة العصرية ونفى عنه طابع القبيلة والزاوية ، و نزع عنه محمد الطوزي أية صفة دينية أو أخلاقية لكونه يدافع عن الدولة وهذا يتطلب استعمال العنف والعزوف عن القيم السامية واعتبرته الإعلامية والباحثة هند عروب سلطة مضمرة في المجتمع تحكم سيطرتها عليه بالعنف والقوة واعتبره حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي جهازا إداريا وقمعيا يتدخل في كل شيء ليبسط هيمنته ولا تغيير إلا بتفكيكه.
ورغم بعض الاختلافات حول أصل و طبيعة المخزن وتوجهاته الإسلاموية ، إلا أن الكل يتفق على كونه يحمع بين فريقين متناقضين : الأول متفتح سمح بالتحديث والعلاقة مع أوروبا والثاني تقليدي ومتزمت وبدوي منغلق على ذاته ، أي أن المخزن محشو بازدواجية غير متمازجة للتقليدي والحداثي ، إلا أنه رغم ذلك أدرك ويدرك أن التغيير الشامل يقلب الأوضاع رأسا على عقب و في غير صالحه ، ولهذا لا يسمح بالتغيير إلا في حدوده الدنيا التي تنسجم مع مصالح فئاته وأفراده، وهو في نظر جل المفكرين يخشى الديمقراطية ولا يؤمن بالمؤسسات إلا في نسخها الشكلية الموجهة للاستهلاك الخارجي فهو حداثي ومتفتح شكلا وتقليدي متزمت مضمونا ، وتجربته الطويلة والعسيرة ومأسسته الخاصة وقدرته على لعب لكل مرحلة دورها في ظل الاستمرارية جعلته يستعصي على التحليل.
وكان للفساد والتبذير والبذخ المستشري في بنية الأنظمة دور في عدم أخذ المغرب بأسباب الحداثة ، و نصيحة الجنرال الفرنسي بيجو للجنود المغاربة بعد هزيمة إيسلي بالقرب من وجدة كشفت عن جانب منه بغض النظر عن أهداف الجنرال ونواياه والتي جاءت كما يلي « قولوا لملككم أن يكثر من الحديد ويقلل من الحرير إذا أردتم بقاء دولتكم » وقد جاء الجنود المغاربة الذي بلغ عددهم 30 ألف فارس بقيادة محمد بن عبد الرحمان إلى هذه الحرب بخيام كبيرة من حرير، بينما جاء خصمهم إليها بخيمة واحدة قصيرة وهزمهم (10.
هناك أسباب أخرى جعلت المغرب لا يضع قاطرته على سكة الحداثة منها ، الدول الاستعمارية التي لم تسمح بالحداثة إلا بالقدر الذي يحافظ على مصالحها وتفوقها ، وعدم وجود مشروع مجتمعي متكامل وغياب إستراتيجية شمولية بالنسبة للأنظمة .
خلاصة : يعيش مجتمعنا وفكرنا تناقضا وصراعا بين التحديث الذي كان مطلبا ملحا مند شعور المغاربة بالتفوق الأوروبي ، تجسد في مجموعة من الإصلاحات البعض منها كان بمبادرة حتى من المحزن أي بعض السلاطين بغض النظر عن الأسباب الكامنة وراءها ، وعن أسباب نجاحها أو فشلها مثل السلطان عبد العزيز(11)(1894 1908 ) الذي طلب من بعض الشخصيات تزويده بمشاريع إصلاحية ويذكر التاريخ البعض منها التي وجهت إليه ، كما أن هناك مشاريع في عهد السلطانين محمد الرابع ، والحسن الأول : أنشأ هذا الأخير من جملة ما أنشأه معملا يضم وحدة لإنتاج البنادق ووحدة لإنتاج القرطوس ، مما يؤكد على الإحساس بضرورة تحديث المجال العسكري لتدارك الهوة والتفوق الأوروبي ، وعلى الشعور بالغبن بعد سلسلة من الهزائم . وتجسد أيضا في موجة مشاريع الدساتير التي عرفها المغرب في بداية القرن العشرين مما يؤكد هوس النخب المغربية بالتحديث مثل دستوري 1906و 1908 ومجموعة من المشاريع الاقتصادية ، وبين التقليد ، هذا الصراع الذي يسري في جل المجالات ببلادنا سواء في تنشيئتنا الاجتماعية أو تربيتنا أو تعليمنا أو في المجال الاقتصادي ويعيق ويكبح أي تقدم ، كما أن تركيبة النظام في المغرب والذي يعتبر المخزن أحد ركائزه يمتح من تقاليد وجوهر وممارسات دولة الخلافة والسلطان وثقلها التاريخي وترسباتها(12) التي أصبحت عائقا كبيرا يحول دون تطور مجتمعنا واكتسابه لمقومات وشروط دولة حقيقية (دولة الحق والقانون) وما تتطلبه من دستور ديمقراطي ومؤسسات حقيقية تنهض بأعبائها وتستجيب لانتظارات الشعب المغربي .
هذا الصراع يتميز يكونه لا يقبل الاختلاف من الجانب التقليدي المتزمت الذي يستغل الدين من جملة ما يستغله ، وما شابه من عادات وأعراف وتقاليد دخيلة عليه ،في مجتمع ترتفع فيه نسبة الأمية ويطغى عليه الفقر ويعشش فيه التعصب بمختلف أشكاله ….للقبيلة وللحزب وللدين وللأصل … ولم يستفد لا من تجاربه ولا من تجارب غيره ، و مجموعة من الفتاوى الحالية تدخل في هذا الإطار خاصة تلك التي لا تتناول أولويات ومتطلبات العصر.
الهوامش والمراجع
1 ـ على كريمي مجلة نوافذ العدد 19 الموضوع بعنوان مكانة المغرب في العلاقات الدولية (من الصفحة 88إلى الصفحة 113
2 ـ الأستاذ محمد الخشاني (محاضر بكلية الحقوق بالرباط ) مجلة الحوليات المغربية للاقتصاد ) الصفحة 18 السطرين الثامن والتاسع
3 ـ سلسلة المعرفة للجميع العدد34 موضوع تحت عنوان « المغاربة والحداثة الصفحة 26 «
4 ـ الأستاذ محمد الخشاني مجلة الحوليات المغربية للاقتصاد الصفحة 28 السطر 19
5 ـ الدكتور إدريس برهون محام بهيئة الدار البيضاء كتابه بعنوان » إشكالية دولة الحق والقانون في المغرب » الصفحة46 الفقرة الثالثة
6 ـ الأستاذ محمد سبيلا مجلة الزمن » تحت عنوان المغرب في مواجهة الحداثة » الصفحة 22 من السطر 9 إلى السطر 16
7 ـ المرجع السابق الصفحة الصفحة 19 السطر الخامس
8 ـ الأستاذ محمد الخشاني المرجع السابق الصفحة 25
9 ـ الأمريكي كليفورد
10 ـ الدكتور إدريس برهون كتابه بعنوان » إشكالية دولة الحق والقانون في المغرب » الصفحة 46 الفقرة الثانية
11 ـ الأستاذ علي كريمي منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية العدد 46 بعنوان « حقوق الإنسان والحريات العامة » في المغرب الصفحة 20 السطر 14
12 ـ ـالدكتور إدريس برهون نفس مرجعه السابق الصفحة 36 الفقرة الثانية
Aucun commentaire