المغرب والجزائر : رحلة السلام تبدأ من تندوف
مر هذا الصيف حافلا بالأحداث والكوارث، وما يمكن تسجيله على هامش هذا الصيف الخلل الذي طبع المنظومة الإعلامية العالمية في تعاطيها مع بعض الأحداث؛ وهو خلل ليس بجديد، غير أن هذا الصيف كشف عن عطب هذه المنظومة وعدم مصداقيتها ونزاهتها وحيادها. المنظومة الإعلامية العالمية انكشفت عورتها انكشافا فاحشا لم تفلح في إخفائه أو تبريره.
أحداث شتى كان لمنطقتنا المغاربية قسط وافر منها، وهي بلا شك، تؤشر على تطورات عميقة سيعرفها المستقبل.
وأهم الأحداث التي استرْعَت الرأي العام المغاربي، وبشكل خاص، المغربي والجزائري، موقف مصطفى سلمة ولد سيدي مولود المفتش العام لشرطة البوليساريو، وهو موقف نوعي في مسار النزاع حول الصحراء؛ موقف أخلاقي لا يمكن وصفه إلا بالشجاع، وموقف سياسي ينم عن همة وتبصر، وكل من أراد أن يصنفه خارج هذا الإطار الأخلاقي، فهو والحالة هذه، يرفض أن يكون لقضية الصحراويين حل عاجل ولا آجل ولم تعد تعنيه مآسيهم ومعاناتهم. إن مقاطعة الصحافة الإسبانية لندوة السيد مصطفى لا تعبر عن المأزق السياسي الإسباني أمام تطور الأحداث فحسب، بل عن موقف يرفض حتى الإصغاء إلى صوت من يعنيهم الأمر، وهي بالتالي ترجمت من حيث لا تدري، تهافت موقفها وقوة موقف السيد مصطفى سلمة؛ أما الجزائر فبدون تعليق.
الحدث الثاني صنعه كريم مولاي عميل المخابرات الجزائرية، وقد أثارت اعترافاته جدلا كبيرا كما خلّفت صمتا رسميا عميقا، وبلا شك، ورغم الصمت الجزائري الرسمي، فإن هذه الاعترافات قد أحدثت زلزالا في الوسط الاستخباراتي والسياسي؛ وهذه الاعترفات لم تكشف جديدا، ولكنها أكدت ما راج منذ سنوات حول ضلوع بعض الفاعلين بالمخابرات في الأعمال الإرهابية، وهذا إن دل فعلى إفلاس السياسة الجزائرية وجوهرها المافيوي المعادي لمصالح الشعب الجزائري والمغاربي. ويبقى هذا الاعتراف ظاهرة صحية مهما كانت خلفياته وأسبابه.
الحدث الثالث صنعه المفكر محمد أركون الذي لم يزر الجزائر منذ ملتقى محيي الدين بن عربي بمدينة وهران سنة 1991، في تلك الأثناء، وفي حوار أجرته معه الجمهورية الأسبوعية، عن سؤال حول الغربة أجاب: « كلما أحسست بالغربة وآلامها، أقعد وأتأمل مليا تجربة عظيمة لرجل عظيم، وهي تجربة الرسول عليه السلام، هجرته من مكة إلى المدينة، أتأمل تلك التجربة التاريخية الكبيرة، وأعود لأتنفس من جديد وأطرد عن نفسي أسباب القلق (…) صحيح أنه عاد إلى مكة فاتحا ولكن فضل العيش بقية عمره في المدينة وقد قال في ما معناه « لا خير في أرض تطرد أبناءها… ». إن محمد أركون الذي اختار الهجرة بعد الاستقلال لم يمثل حالة استثنائية فهناك كثير غيره وعلى سبيل المثال لا الحصر، جمال الدين بن شيخ والروائي محمد ديب (عاش بأوروبا ومات بها وأوصى أن يدفن في باريس)، والشاعر مفدي زكريا ومصالي الحاج وفرحات عباس (هؤلاء ماتوا في المنفى، ولدفنهم بالجزائر حكايات يندى لها الجبين)، والمؤرخ محمد حربي وآخرون سيقصصهم على الجزائر تاريخها،..
لقد أوصى الفقيد محمد أركون أن يُدفن بالمغرب ، وإن وصيته ليست مجرد وصية، إنها موقف بالغ الدلالة والرمزية، موقف يحمل رسالة حب وتقدير للمغرب الذي أحبه وقدره ورسالة عتاب للجزائر التي أهملت ذاتها قبل أن تهمل مثقفيها، ورسالة إدانة وتحذير من رسول فكر لأرض أصيب ساستها بكل أنوع الانحطاط.
اعذروني إن بحت لكم بمشاعري وأنا أخط هذه السطور، لقد انتابني إحساس بالبكاء، وأنا أكتب عن هؤلاء كنت أحاول أن أتخيل كيف قضوا حياتهم؛ كيف قضى مصطفى حياته في زمن مغلق مشحون بالتآمر والشك والغموض والجرائم؟ وكيف أدى كريم دورا إجراميا في حق أناس لم يؤذوه، وكيف اغتالت المافيا إنسانيته، وكيف يحاول، اليوم، الانتصار لإنسانيته المهدورة؟ وكيف عاش مفكر كبير محروما من بلده ومحاصرا بفتاوى أثبتت الأيام أنها كانت وبالا على الإسلام والمسلمين؟ إنه صراع بين ذهنيات مفرطة في الهمجية وبين جبهة تذود على أسوار المغرب الكبير، المغرب الدموقراطي والمدني والإنساني، قبل أن يسقط في فوضى لن تحمد عقباها؛ …
ثلاثة أحداث عبَرَت هذا الصيف، ولكنها لم تعبره إلا لتقيم في الزمن المغربي الجزائري المعطوب، ولتضع السياسة الجزائرية أمام مرآة التاريخ حتى ترى نفسها على حقيقتها علها تسارع إلى إصلاح ما يمكن إصلاحه، وذلك من عزم الأمور.
الذاكرة المغربية الجزائرية : مَن المستفيد مِن تحريفها؟
ـــــــــــــــــــــــــــ
التحريف والتلفيق والتزييف وحجب الحقيقة… إنها مظاهر التعسف والشطط التي طالما ظلت تهدد الإنسان في علاقته بذاته وبالآخر، وإذا كان بعض علماء النفس يؤكدون على أهمية الحقيقة وأولويتها على الحب في تربية الطفل تربية سوية فإن الأمر ينسحب على المجتمع برمته، ذلك أن المجتمع القوي والمتماسك لا يمكن بناؤه إلا ببناء ذاكرته على أسس تحترم الحقيقة التي لا مندوحة عنها في إحقاق الحق وإدانة الباطل وإرساء ثقافة العدالة. في هذا الإطار تأسست جمعية الدفاع عن المغاربة ضحايا الترحيل التعسفي من الجزائر، وعلى مدى خمس سنوات وعبر عدد من الأنشطة والمراسلات والبيانات، لم تدخر الجمعية جهدا لإسماع صوتها إعلاميا وحقوقيا وسياسيا؛ وتحت شعار « صرخات في وجه الطغاة » نظمت وقفة صبيحة السبت الثالث من يوليوز أمام القنصلية الجزائرية بوجدة، حيث التقى جمع غفير من الضحايا والمتعاطفين مع قضيتهم مغاربة وجزائريين، جاءت الوقفة قبل يومين من الذكرى الثامنة والأربعين لعيد الاستقلال الجزائري، تذكيرا بالتلاحم المغربي الجزائري أثناء الحرب التحريرية، والوقفة التي اتسمت بروح مدنية عالية حملت شعارات تندد فيها بالصمت الرسمي الجزائري وتمادي سياسته في الاستعلاء وعدم استجابتها لصوت العقل والرشاد، ضاربة عرض التاريخ أواصر الأخوة المساعي النبيلة.
إن وقفة الثالث يوليوز 2010 فعل مدني من أجل إيقاظ الضمير الرسمي الجزائري أولا، ودعوة إلى الرأي العام الجزائري للانخراط في تهوية التاريخ وإضاءته وتطهيره من التقرحات سيما وأن المتضررين ليسوا مغاربة فحسب بل حتى الجزائريين والجزائريات الذين تفرق شملهم بفقدان أزواجهم وأبنائهم ذوي الجنسية المغربية، وفقدان جيرانهم وأصدقائهم. لقد دعت الوقفة السلطة الجزائرية إلى الخروج من صمتها عن الجريمة التي اقترفتها في حق أبرياء عزل، وأفسدت فرحة شعب بعيد قضت مبادئ الإسلام أن يكون يوم مغفرة وتسامح وبهجة وقد حولته سياسة همجية معادية لشعبها ولجيرانها إلى يوم ذعر ودموع وحزن، سياسة يستحي من انتهاجها حتى القراصنة. نداء الضحايا طالب السلطة الجزائرية وعلى رأسها عبد العزيز بوتفليقة إلى إصلاح ذات البين وذلك بالاعتراف بالجريمة والاعتذار وجبر الضرر وفي نهاية الوقفة، قرأ السيد محمد الهرواشي رئيس المكتب الوطني رسالة موجهة إلى رئيس الجمهورية الجزائرية، توصلت الصحراء الأسبوعية بنسخة منها، مذكرا إياه بالمراسلات السابقة ومناشدا إياه بالاحتكام للتاريخ والجنوح إلى الخير، وقد تضمنت الرسالة المطالب التالية : فتح الحدود في وجه العائلات المشتتة، إرجاع الممتلكات لأصحابها، تعويض الضحايا، اعتذار رسمي والكشف عن مصير المغاربة الذين تم اغتيالهم عام 1962…
وأخيرا يؤكد لنا التاريخ ويقول : ليس من الحكمة أن يبقى الرأي العام متفرجا على أفعال المفسدين والمجرمين ومن والاهم وليس من الشجاعة أن يتمادى المجرم في عدم الاعتراف بجريمته و ليس من التسامح أن يسكت صاحب الحق عن حقه، بل السكوت عن الجريمة هو تشجيع على اتساع نطاقها فالسفهاء كلما سكت الحق والقانون عن تجاوزاتهم ازدادوا جرما.
مصطفى سلمى : الاستثناء والقطيعة
ـــــــــــــــــ
ما يمكن الإجماع عليه بخصوص ما أقدم عليه المفتش العام لشرطة البوليساريو السيد مصطفى سلمى، هو أنه أحدث بموقفه انعطافا نوعيا في تاريخ جبهة البوليساريو ومن داخلها؛ فهو لم ينفذ بجلده من جحيم هذه الجبهة ولم يعد إلى بلده المغرب لينعم بالامتياز الذي حظي به القادة العائدون من قبله، بل أصر على نقل موقفه إلى مخيمات تندوف، وشرحه إلى الرأي العام الصحراوي بهذه المخيمات رغم ما تنطوي عليه هذه المغامرة من مخاطر على سلامته وسلامة أهله.
لقد عبر عن موقفه بندوة السمارة، وهذا يعني أنه أعلن عن موقفه دون أن يتجرد من وظيفته الرسمية كمفتش عام للشرطة، معبرا عن اعتقاده بوجاهة مقترح الحكم الذاتي من منطلق أنه حل سليم للنزاع الذي طال أمده دون جدوى، نزاع لم يجن منه الشعب المغاربي سوى الثمار المرة والخبيثة.
تفيد المعطيات أن السيد مصطفى لم ينتم بإرادته إلى هذه الجبهة بل تعرض هو وعائلته للاختطاف سنة 1979، وفي تلك الأثناء كان لا يزال طفلا، وهذا يدل على أن البوليساريو، أرغمت عددا من الصحراويين على الإقامة بالمخيمات عن طريق اختتطافهم؛ مما يؤكد أنها انحرفت مبكرا عن مبادئها ومقاصدها التحررية وسلكت أسلوبا منافيا للمشروع الذي تأسست من أجله والمتمثل في خدمة ساكنة الصحراء. وبالتالي فإن السيد مصطفى في الإعلان عن موقفه لم يخن هذه الجبهة، لأنه لم ينتم أصلا إليها بقدر ما انتمى إلى مشروع كان الهدف منه البحث عن حل عادل للنزاع. ولأنه وجد في مقترح الحكم الذاتي شروط تحقيق هذا المشروع خدمةً لساكنة الصحراء وخدمة للمستقبل المغاربي، لم يتردد في تبنيه والجهر بموقفه.
إن عملية الاختطاف التي تعرض لها السيد مصطفى وهو في الثانية والأربعين من عمره تؤكد جهل هذه الجبهة بسيرورة التاريخ، وهي إذ تكرر مع السيد مصطفى ما فعلته معه سنة 1979، تكون قد قدمت برهانا ساطعا على أنها لا تزال أسيرة ذهنية متحجرة معادية لحقوق الإنسان الصحراوي. أما مصطفى وهو يعود أعزل إلى المخيمات بمحض إرادته للدفاع عن وجهة نظره، فقد برهن أن الحوار السياسي السلمي هو أنجع الطرق لحل النزاع. ويمكن القول أن عملية الاختطاف التي تعرض لها ليست سوى استمرار لأسلوب استخباراتي جزائري يعود إلى سنوات حرب التحرير، حيث كانت جماعة عبد الحفيظ بوصوف مؤسس المخابرات الجزائرية سنة 1956، تتهم بالخيانة كل سياسي جزائري يخالفها الرأي و تعمل بشكل ممنهج على إبعاده أو تصفيته. وهذا الأسلوب القذر دأب على مواصلته وتطويره ورثة بوصوف طيلة سنوات الاستقلال، وتلك حقائق وإن انكشفت بشكل ضيق في حينها، فهي اليوم موثقة في عدد من الشهادات التي صدرت في مذكرات مجاهدي حرب التحرير الجزائرية الذين ما زالوا على قيد الحياة. إن هذه الذهنية المتحجرة المهيمنة على السياسة الجزائرية هي التي جعلت من الجزائر بلدا متدهورا على الدوام ومثالا ساطعا في الانحطاط السياسي، فكيف لهذه السياسة أن تنتصر للصحراويين أو لغيرهم؟
لقد أحدث موقف السيد مصطفى تصدعا في الاستراتيجيات التي ظلت تتعاطى مع هذا النزاع بشكل نمطي انطلاقا من مصالحها الضيقة ونظرتها القصيرة وحساباتها المغشوشة. وقد لاحظنا كيف بهت الإعلام المتاجر بمآسي الضحايا وبقي فاغرا فاه كما لو أنه لم يفهم ما يحدث على أرض الواقع، هو الذي عودنا، في قضايا مماثلة، كيف يخرج في لمح البصر من جحوره، ويتفنن في نقل الصور والعبارات المؤثرة.
لقد كنت أتمنى، وأنا أتابع خبر اختطاف السيد مصطفى، أن أسمع بيانا من الناشطة الحقوقية أميناتو حيدر تندد فيه بهذا الاختطاف الذي تعرض له واحد من أبناء الصحراء الذين تتحدث باسمهم ونالت التقدير والجوائز باسم الدفاع عنهم.
باختصار شديد، لقد شكل السيد مصطفى سلمى استثناء في تاريخ النزاع، حيث أربك جهات ظلت تحرص على تحصين البوليساريو من التصدع، وعزل المخيمات ما أمكن عن الضوء الإعلامي، كما أحدث موقفه قطيعة مع أسلوب الهروب بلا رجعة من مخيمات تندوف؛ وقرر العودة، رغم كل المخاطر، ليقول كلمته، بشكل سلمي، من موقعه وأمام من يعنيهم الأمر. فهل أجرم في حق ساكنة الصحراء؟ إن الحق في تقرير المصير الذي يتحصن به النظام الجزائري ومن والاه، هذا الحق لا يقف على الطرف النقيض من مقترح الحكم الذاتي، لأن القبول بالانخراط في الحكم الذاتي هو شكل من أشكال الحق في تقرير المصير، بل هو الشكل الأنجع في ظل الراهن السياسي العالمي.
التاريخ، أكتوبر، ميثاق السلم والراهن الجزائري
ــــــــــــــــــــــــ
مع الذكرى الثانية والعشرين لأحداث الخامس من أكتوبر 1988، عاد الجدل مجددا إلى الواجهة، حيث تناولت منابر إعلامية عالمية ووطنية، ما تم وصفه بالوثيقة التاريخية والأكاديمية التي صدرت مؤخرا باليابان. ويتعلق الأمر بحوار طويل أجراه باحثان يابانيان مع الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد. هذا المستجد تم تكذيبه حسب تصريح أدلى به الشاذلي بن جديد لإحدى الجرائد الوطنية. الحوار تطرق لعدد من المحطات السياسية والمتمثلة في توقيف المسار الانتخابي والهوية الجزائرية وأحداث أكتوبر. وحسب الحوار فإن الرئيس يقر أن السلطة أخطأت بقرارها القاضي بتوقيف المسار الانتخابي، من منطلق أن الشعب اختار ممثليه، وهو اختيار كان من الواجب احترامه وما على الشعب إلا أن يتحمل مسؤولية اختياره. وحول أحداث أكتوبر قد حمّل مسؤولية اندلاعها لعناصر تابعة لحزب جبهة التحرير. في المقابل أكد عبد العزيز بلخادم الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني أن أحداث 5 أكتوبر 1988 لم تكن انتفاضة ولا ثورة ولم تكن من أجل التعددية السياسية كما يدّعي البعض وإنما هناك أطراف وظفت تلك الأحداث لتضرب مصداقية جبهة التحرير الوطني والمجاهدين والجيش الوطني الشعبي، وأضاف بلخادم أن أسرار هذه الأحداث لم تكشف إلى حد الساعة، وعبّر في سياق متصل عن استغرابه من التصريحات الأخيرة للرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد حول أحداث أكتوبر. في ذات السياق قال السيد عبد الحميد مهري، | »إن أي توضيح أو تعقيب على هذه التصريحات، يجب أن يكون من الطرف الذي أطلقها،”، في إشارة إلى أن الشاذلي بن جديد، مطالب بتسمية أعضاء الأفالان الذين قال بأنهم كانوا وراء أحداث أكتوبر 88، وما تبعها من مآس.من زاوية أخرى أكد، رئيس اللجنة الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان، فاروق قسنطيني، أن الجزائر قطعت أشواطا كبيرة في مجال حماية حقوق الإنسان وحماية الحريات منذ الخامس أكتوبر 1988.
يطفو هذا الجدل مجددا في مناخ سياسي قاتم ومشحون؛ حيث – وعلى الطرف النقيض – اتهم رئيس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، مصطفى بوشاشي، السلطة بتكريس سياسة اللاعقاب من خلال قانون المصالحة الوطنية . مؤكدا أن المأساة الوطنية لا تزال قائمة ولم تنته بعد، والسلطة ترغب في إلغاء الذاكرة الجماعية للجزائريين، من خلال هذا القانون . ويستغرب السيد بوشاسي قائلا : » فميثاق السلم والمصالحة الوطنية جاء فيه أن كل الجرائم التي ارتكبت ليس من حق الشعب أن يعرف من ارتكبها ولماذا، وبالتالي فإن ضحايا المأساة الوطنية لن يكون باستطاعتهم معرفة حقيقة ما وقع لذويهم، ونعتقد جازمين أنها ليست بمصالحة وطنية، فقبل طي الصفحة يجب أولا معرفة حقيقة ما جرى، كما أن صياغتها أهملت مشاركة الجميع سيما الفعاليات السياسية ». قبل ذلك، وحول مقترح قانون تجريم الاستعمار،اعتبر المؤرخ محمد القورصو عدم برمجة مقترح القانون للمناقشة نهائيا على أنه صفقة تمت بين المسؤولين الجزائريين والفرنسيين. وقال إن ذلك يضرب في الصميم مصداقية تاريخنا.
يحتدم هذا الجدل في ظل كتابات وأسئلة تحاول استنطاق تاريخ الحرب التحريرية وما عرفته من تجاوزات في حق عدد من رجالاتها ذهبوا ضحية الاغتيال. وأضحت هذه الكتابات تحرج السلطة وتزعج ورثة المتهمين بتحريف مقاصد الثورة التي لم تندلع إلا بالشعب ومن الشعب وحتى يكون الاستقلال في خدمة الشعب. ولأن الواقع ينطق بلسان فصيح ويؤكد أن النظام الجزائري يصر على ضرب كل الحريات والحقوق ولم يعد له من هم سوى تحويل الجزائر إلى دولة منحطة. في هذا المضمار عاد ولد قابلية وزير الداخلية، في عرضه للحصيلة الأدبية خلال أشغال الجمعية العامة لجمعية مجاهدي التسليح والاتصالات العامة المعروفة اختصارا بـ « المالغ »، إلى تصريحات رئيس الأرسيدي، حيث قال أن المكتب التنفيذي رد على سعيد سعدي عبر بيان باسم الجمعية عقب الجدل الذي أثاره كتابه الذي اتهم فيه العقيد بومدين والعقيد بوصوف بالتخطيط للإيقاع به في رحلته للالتحاق بقادة الثورة المجتمعين في تونس.
في ظل هذه المعطيات يبدو واضحا أن السلطة الفعلية في الجزائر وصلت إلى طريق مسدود، وأنها في ورطة ليس من السهل أنها ستخرج منها سالمة معافاة. فهذا الجدل يؤكد مرة أخرى على أن أصحاب القرار يرفضون تهوية التاريخ وإضاءته بما يلزم من الحقائق؛ وبالتالي يصرون على إبقائه طي التعتيم مما سيؤدي بالواقع السياسي الجزائري إلى مزيد من التقرحات والتعفنات. فالراهن الجزائري، ينبئ أن التلاطمات التي ظلت تتفاعل في صمت وتحت سطح من المغالطات، ستتصدر الواجهة في المدى المنظور. وما دام المنبع قذرا فمن السخف تنظيف المجرى.
مناطق للسلام وأخرى للفوضى : من يصمم خارطة المستقبل المغاربي؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد انتهاء الحرب الباردة قسّم بعض العلماء الأمريكيين العالم إلى جزئين : « مناطق السلام » و « مناطق الفوضى »؛ فأما السلام سيكون من نصيب الغرب بينما الفوضى ستكون من حظ ما تبقى من العالم؛ هذا ما ورد في كتاب « صدام الحضارات » لصموييل هنتنغتون.
ومنذ عقدين من الزمن أكدت الأحداث وجاهة هذه القراءة الاستشرافية؛ فبمجرد أن بدأ الاتحاد السوفياتي في التفكك بدأت الفوضى تنتشر بانتظام فائق في عدد من البلدان.
ومظاهر الفوضى عديدة،يؤكد الكتاب: تلاشي السلطة الحكومية، تمزق الدولة، تفاقم النزاعات القبلية والعرقية والدينية، ظهور المافيا العالمية السفاحة، تضاعف اللاجئين إلى عشرات الملايين،، تكاثر الأسلحة النووية، وأسلحة الدمار الشامل، انتشار الإرهاب وارتكاب المجازر والتطهير العرقي… هذه الصور، يقول المؤلف، لعالم في حالة فوضى كانت محل استشراف كتابين واسعي الانتشار صدرا سنة 1993، وهما كتاب » خارج النظام » لـ » زبغنيو بريجنسكي » و « عاصمة الجحيم » لـ » دانييل باترك ».
أما المجال الحيوي للفوضى، حسب هؤلاء الخبراء، قد يفوق ثمانين بالمائة من جغرافيا المعمورة، وشيئا فشيئا أصبحت الفوضى تزحف على أجزاء من العالم العربي والإسلامي، كما لو أن الأقدار شاءت أن تكون الفوضى من نصيبه بعد أن نال كل شعب حظه من النعمة أو من اللعنة.
الفساد تجل من تجليات هذه الفوضى، بل أخطر تجلياتها وأكثرها فتكا، وكلما تمادت الدولة والمجتمع في الصمت عنه ازداد استفحالا كمرض ماكر ، وازداد جسد الدولة وهنا وهزالا.
عندما يجد المسؤول الفاسد والفاشل وعديم الكفاءة مجتمعا يرحب به ويعلي من شأنه فهذا قد يعني إما أن هذا المجتمع لا يعرف المعنى الحقيقي للفساد، ولا يرى في هذا الفساد فسادا؛ أو أنه لا يعرف كيف يحارب الفساد أو أن أفراده يطمحون في أن يحظوا ذات يوم بشيء من هذا الامتياز في ممارسة الفساد.
وليس هناك من يجرؤ على القول أننا أمة صالحة، فلسان حال هذه الأمة ينطق بكل أنواع الموبقات، ففي الوقت الذي انخرطت أوروبا في سياسة التقشف وازدادت حرصا على الشفافية وترشيد المال العام، تزداد مجتمعاتنا غرقا في وحل الفساد.
المغرب والجزائر الشقيقان المتنابذان طيلة الاستقلال، وإذا ما استثنينا المحاولات المغربية والملكية بالتحديد، فلا نجدهما يتعبان كثيرا لتجاوز جمود العلاقة بينهما، والسبب واضح، فالانشغال الذي يسيطر على أغلب المسؤولين هو كيفية الاستفادة الشخصية من المنصب بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، والممكنة والمستحيلة؛ وأكاد أجزم أن هؤلاء من كلا البلدين يتبادلون الخبرات في أساليب الفساد ويطورون العلاقات في ما بينهم دون أن يأبهوا للعلاقة بين الشعبين ولا حتى بين الدولتين.
ومن بين عشرات التقارير المحلية والعالمية التي تفضح الدينامية المعادية للدموقراطية في البلدين : من فساد وبيروقراطية وتضييق على الحريات و… يكفي أن نشير إلى تقرير « هيئة السلامة المالية العالمية »، حيث صنّف الجزائر والمغرب من بين خمسة بلدان أفريقية هي الأنشط في تهريب الأموال. وتضم هذه الأموال مداخيل من الرشوة ونهب المال العام وتهريب البشر والمخدرات. ويكشف الواقع كما تكشف عدة تقارير التعاون بين أفراد شبكة الفساد بين البلدين؛ وإن كانت هذه الشبكة أكثر نجاحا وفاعلية في الجزائر، فإنها في المغرب تجابهها دينامية مضادة وإرادة قوية في محاربة الفساد.
وتحتاج هذه الدينامية المعادية للفساد والمدافعة عن الحريات وحقوق الإنسان؛ تحتاج إلى تعبئة كل طاقاتها حتى تجعل من المغرب قلعة دموقراطية متقدمة ومؤهلة للخروج بالمنطقة من الفوضى التي باتت تناور على التخوم وتستعرض عضلاتها على أكثر من صعيد.
Aucun commentaire