» ديمقراطية » فرعون تبعث من جديد في عالم اليوم البائس

» ديمقراطية » فرعون تبعث من جديد في عالم اليوم البائس
محمد شركي
لاشك أن القراء الكرام سيستغربون نسبة الديمقراطية إلى فرعون لولا أني لم أضعها بين ظفرين دالين على فساد الإضافة ،وعلى تعذر قاعدة قعدها لغويونا العرب وهي قاعدة ضرورة حصول فائدة الكلام التي يحسن السكوت عليها .
وقبل الخوض في موضوع » ديمقراطية » فرعون ، تجدر الإشارة إلى أن الديمقراطية بالمفهوم الذي يسوقه صُنّاعها اليوم في العالم لم تتحقق في يوم من الأيام في عالم الناس منذ أن روجت أول مرة في التاريخ الحديث ، وأنها أشهر وأكبر كذبة على الإطلاق عرفتها البشرية . وكل ما يتحقق منها هو شكلها دون مضمونها الفعلي والإجرائي الملموس المحسوس حيث يُكتَفى بوضع صناديق تطورت من خشبية غير شفافة إلى زجاجية شفافة في المجتمعات التي تفاخر بأنها هي من حملت بالديمقراطية، ووضعتها، وأرضعتها ، فتحشى بقصاصات الورق الذي يفحص ليكون بمثابة شهادة ميلاد على الديمقراطية شهادة ينقضها الواقع المعيش .
وقبل أن نطرق موضوع » ديمقراطية » فرعون، يجدر بنا أن نستحضر ما كان عليه في حقيقة أمره كما شهد على ذلك بعظمة لسانه مخاطبا قومه ،وقد سجلت ذلك الآية الكريمة التاسعة والعشرون من سورة غافر : (( قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد )) ، وكفى بها شهادة على ديكتاتوريته التي صورتها الآية الكريمة الثالثة والثمانون من سورة يونس : (( وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين )) ، وهذا منتهى الإسراف في العلو .
والغريب في أمر هذا المستبد المسرف في العلو أنه إلى جانب استبداده وعلوه في الأرض ، لا يستنكف من إبداء » ديمقراطيته » أمام ملإه ، وهم بطانته التي صنعت علوه وطغيانه، وعلى رأسها هامان، وقارون، وقادة جنده العتاة ، وقد سجلت الآية الكريمة الرابعة والثلاثون من سورة الشعراء ادعاءه تلك الديمقراطية : (( قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحّار عليم )) ، إن قوله » ماذا تأمرون » يوحي باستشارتهم ويدل على طريقته في ممارسة » الديمقراطية » ،وهو الذي شهد على نفسه بأنه لا يريهم إلا ما يرى ، ولا يهديهم إلا سبيل الرشاد. وتؤكد الآيتان الكريمتان التاسعة والعاشرة بعد المائة من سورة الأعراف أيضا ما يدل على نزوع فرعون نحو خيار » الديمقراطية » على طريقته وعلى مقاسه : (( قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون )) ومعلوم أن ملأ فرعون أو بطانته ما كانوا لينطقوا بهذا لولا أنه بدر منه ، وقد أكدت ذلك أيضا الآية السابقة الرابعة والثلاثون من سورة الشعراء ، والآية الحادية عشرة بعد المائة من سورة الأعراف : (( قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين )) ، وواضح أن ضمير الخطاب في فعلي « أرجه وأرسل » ،يعود على فرعون ، وهو ما يدل على أن السؤال » فماذا تأمرون » الذي جاء على لسان ملإه، وهم جلساؤه ،ومستشاروه إنما كان بإيحاء منه .ومعلوم أن عادة بطانة المستبدين في كل زمان أن يجتروا كلامهم حرفيا إظهارا منهم لصدق الولاء الأعمى والمطلق.
وما كان لبطانة فرعون من رأي سوى ما أشاروا به عليه من استحضار السحرة ، ودعوة الناس لحضور مواجهتهم لنبي الله موسى عليه السلام .
ويُظهِر مرة أخرى فرعون نزوعه نحو » ديمقراطيته » كما نقلت ذلك الآيات الكريمة من الثالثة والخمسين إلى السادسة والخمسين من سورة الشعراء : (( فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حذرون )) ، وفي قوله » وإنا لجميع حذرون » ما يدل على تنزيل نفسه منزلة واحد من قومه الذين أرسل في المدائن لحشرهم كي يظهر لهم » ديمقراطيته » ،وهو الذي كان يحشرهم ليعلن لهم أنه هو ربهم الأعلى كما نقلت عنه ذلك الآيتان الكريمتان الثالثة والرابعة والعشرين من سورة النازعات : (( فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى )) ، بل أكثر من ذلك ادعى الألوهية كما نقلت عنه ذلك الآية الكريمة الثامنة والثلاثون من سورة القصص : (( وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري )) .
وها نحن اليوم نرى » ديمقراطية » فرعون تبعث من جديد في عالمنا عند أقوى وأعتى دولة في العالم ، وهي الولايات المتحدة الأمريكية ، وفي كيان إسرائيل الذي يسد مسد بطانتها كما كان لفرعون بطانة .والطاغيتان على رأس هذين الكيانين قد وصلا معا إلى منصب صنع القرار عبر انتخابات استخدمت فيها صناديق زجاجية شفافة وشاهدة على » ديمقراطيتهما » الفرعونية ،ذلك أن كليهما يخرج اليوم شعباهما منددين بأفعالهما الشريرة في أرض ، ولا يأبهان بتنديدهما ، ولسان حالهما يحاكي لسان مقال فرعون : (( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)) . ولم تستعمل الصناديق الزجاجية لمعرفة لاستشارة الشعب الأمريكي أو الشعب اليصهيوني وفق ما تنص عليه الديمقراطية التي يفاخران بها . وعلى خطى هذين الطاغيتين المستبدين يسير كل الطغاة المستبدون في هذا العالم البائس الذي تخرج شعوبه منددة بجرائم الإبادة الوحشية في أرض فلسطين ، ولا يؤبه بتنديدها ،بل تجند قوات مكافحة الشغب لتفريقها والتنكيل بها لأن » ديمقراطية » فرعون قد بعثت من جديد .
Aucun commentaire