أيستقيم في منطق العقلاء السليم أن يكون الوسيط في إنهاء حرب جائرة وغير متكافئة طرفا فيه وهو قادح زنادها ؟؟؟

أيستقيم في منطق العقلاء السليم أن يكون الوسيط في إنهاء حرب جائرة وغير متكافئة طرفا فيه وهو قادح زنادها ؟؟؟
محمد شركي
لقد عرف تاريخ العرب في جاهليتهم أرقى وساطة بين طرفين متحاربين اضطلعت بها شخصيتان هما : هرم بن سنان، والحارث بين عوف اللذان أصلحا بين قبيلتين هما عبس وذبيان ،وقد كانت بينهما حرب دامت أربعين سنة ، فساد بوساطتهما الحكيمة السلام في غطفان ، وتحملا الديات عن قتلى الطرفين ، فسجل فعلهما الرشيد شعر يومئذ بمداد من ذهب على لسان الشاعر الكبير زهير بن أبي سلمى، وهو واحد من أصحاب المعلقات التي نالت شهرة إذ علقت على جدار الكعبة المشرفة .
وفيما يلي المقطع الذي أشاد فيه زهير بتلك الوساطة الرشيدة التي تعد مفخرة العرب :
فأقسمتُ بالبيت الذي طاف حوله رجالٌ بنوه من قُريش وجُرهم
يمينا لنعم السيــــــــــدان وُجدتما على كل حال من سَحيم ومُبرم
تداركتُمــــــا عَبْسا وذُبْيان بعدما تفانوا ودَقٌّوا بينهم عِطْر مِنْشم
وقد قلتما إن ندركِ السلمَ واسعا بمال ومعروف من القول نسلم
فأصبحتما منها على خير موطن بعيديــــن فيها من عقوق ومأتم
ففي هذا المقطع، ذكر فضل الوسيطين حين تدارك عبسا وذبيان بعدما تفانوا في حرب الأربعين سنة ، وأبت شهامتهما إلا التدخل بينهما لإنهاء الحرب الضروس بينهما وإقرار السلم ، وقد تحمل كل منها الديات ، فنالا معا شرفا عظيما ، ولم يلحقهما عار .
قد يسأل القراء الكرام لماذا بدأت هذا المقال بهذه الحكاية الضاربة في عمق التاريخ العربي ؟
والجواب هو أنني أردت منهم أن يقارنوا بين قيم عرب الأمس البعيد الراقية في جاهليتهم ،وبين قيم الغرب المنحطة في هذا الزمان الذي تسير فيه التكنولوجيا بسرعة البرق ، بينما تتردى فيه القيم إلى الدرك الأسفل من السفالة .
فها نحن اليوم نعاين حربا غير متكافئة بين صهاينة غزاة يحاربون بآخر ما جادت به تكنولوجيا الحرب ، وفلسطينيين أصحاب الأرض يقاتلون دونها بسلاح بسيط لا مجال لمقارنته بما في أيدي أعداهم ، و نعاين واسطة بينهم لإنهاء هذه الحرب الجائرة عليهم، وطرفاها أمريكان طغاة ،وهم خصوم وحكام في نفس الوقت ، وعرب لا حول لهم ولا قوة أمام شراسة هذا الطغيان ، وباقي العالم المتفرج والساكت سكوت الشيطان الأخرس ، بل أكثره منحاز إلى جانب بني صهيون ، وهم ذئاب تلبس جلود الخراف بعد افتراسها ، وجلادون بأيديهم سياط تنال من ظهور ضحاياهم لكنهم يسبقونهم بالشكاة وبالبكاء ، ويبدو هذا المشهد الهزلي في نظر عالم اليوم منطقيا ومقبولا في زمن تعطلت فيه العقول ، وتبدلت فيه المشاعر والأحاسيس ، وانحطت فيه القيم والأخلاق إلى مستوى غير مسبوق ، وما خفي أعظم .
والسؤال المطروح على أولي الألباب في هذا العالم الغريب العجيب سواء كانوا عربا أم كانواعجما هو : أيستقيم في منطقكم السليم يا سادة أن يكون الوسيط في إنهاء حرب جائرة وغير متكافئة طرفا فيها، بل هو قادح زنادها ؟
إن العالم تابع كيف دخل الطرف الأمريكي وسيطا في حرب غزة نائبا عن الكيان الصهيوني الغازي في ظرف انتخابات خسرها رئيس سابق منحاز للكيان العنصر ومزوده بآلة الحرب المدمرة ، وفاز بها آخر هو أكثر انحيازا ، وأكثر تزويدا له بالسلاح ، بينما ناب عن المقاومة الفلسطينية طرف عربي ممثل في دولة قطر ودولة مصر نيابة عن المقاومة الفلسطينية التي ترد على العدوان دفاعا عن أرضها وكرامة شعبها بأقل عدد وعدة وعتاد .
لم تكن الوساطة الأمريكية من بدايتها وساطة بالمعنى الصحيح للكلمة، بل كانت محض انحياز للصهاينة و بنية مبيتة أريد بها ترجيح كفته وهو المنهزم في الميدان لتحويل هزيمته إلى انتصار ، علما بأن الوساطة إنما هي سعي حميد بين طرفين متحاربين من أجل الوصول إلى إخماد نار الحرب بينهما على طريقة هرم بن سنان والحارث بن عوف في جاهلية العرب . فأين الوسيط الأمريكي في جاهلية الغرب اليوم من شهامة هرم والحارث وهو ينقض ما تم الاتفاق عليه مع الوسيطين القطر والمصري وقد بدأ تنزيله وتطبيقه على الأرض ، وشهد عليه العالم بأسره ثم فجأة عاد وسيط صهيون في ما اتفق عليه من قبل كعود كلب في قيئه منتقلا من وسيط إلى طرف معني بالصراع ؟
بماذا كان سيقسم الشاعر زهير لو وجد اليوم حيا بيننا وتربأ به أن يوجد لتفاهة هذا الزمان ؟ وبماذا كان سيصف الوسيط الأمريكي المتغطرس والمتنمر على جماعة مقاومين صامدين ومرابطين بالقليل من السلاح الذي هو من صنع أيديهم بأقل الإمكانات أمام جيش عرمرم بترسانة حربية عاتية ، وعلى شعب أعزل فيه صبية وصبايا ،ونساء ،وشيوخ يعيشون في العراء محاصرين بين الردم وهم عرايا وجياع وتحت القصف الشرس، بينما يتسلى جلادهم المجرم النازي السادي بقصفهم بسلاحه المدمر دمارا شاملا أهداه له الوسيط الأمريكي بسخاء لا مثيل له ؟
وماذا سيقول زهير عن الوسيط العربي الذي لا نشك في أريحيته ، وفي أنه سيتحمل عبء إعادة إعمار ما دمره الكيان الصهيوني ، إلا أنه مع شديد الأسف والحسرة لا يجرؤ على مواجهة الوسيط الأمريكي المتغطرس الذي يتوعد العالم بأسره بالويل والثبور وعواقب الأمور ، ويهدد بإضرام نار الجحيم التي تأتي على الأخضر واليابس في الحمى العربي على وجه الخصوص دون وخز من ضمير وأنى يكون له ضمير وهو يريد تهجير أهل غزة من أرضهم قسرا كي يحولها إلى ريفيرا بالمال العربي ، ويصطاف بها جنبا إلى جنب مع مجرم حرب صهيوني مطلوب للعدالة الدولية ؟
وأخيرا نختم بالقول ما أشد تعاسة عالم اليوم الذي يسوده عبث الحضارة الغربية ، وتهيمن فيه قيمه المنحطة ،وهو أشد جاهلية من كل الجاهليات الغابرة ، وفيه الوسيط يصير طرفا في النزاع وخصما وحكما في نفس اللوقت بمنطق أرعن يستنكف منه العقلاء ، ويعتبرونه منطق الغاب الذي بموجبه يسطو الشرس من الوحش الضاري بالوديع .
وإلى أن يستعيد عالم اليوم اتزان منطقه فإنه ليس لأهل فلسطين من بديل عن المقاومة ، والصمود ، والصبر، والتوكل على هازم الأحزاب جل في علاه ، وما ضاع أبدا حق وراءه طالب .
Aucun commentaire