وقفة عند بعض التجاوزات التي شابت مقترحات تعديل مدونة الأسرة المغربية
وقفة عند بعض التجاوزات التي شابت مقترحات تعديل مدونة الأسرة المغربية
محمد شركي
بداية لا بد من الإشارة إلى الظرف الذي أملى تعديل مدونة الأسرة ببلادنا ، والتي سبق تعديلها مرتين من قبل إلا أن مطلب المزيد من التعديل ظل موضوع إلحاح من طرف يعض الجهات التي تريد فرض منطقها ، وتصوراتها، وقناعاتها ، وأهوائها على المجتمع المغربي المسلم المتشبث بدينه ،وبما شرعه له الله تعالى لتدبير شؤونه الدنيوية .
ولقد اغتنمت هذه الجهات فرصة تحكم مؤسسات وصية على الاقتصاد العالمي ، والتي تقايض بإقراضها دول العالم الثالث إجراء تعديلات عن قيمها ،الشيء الذي ينعكس سلبا على هوياتها، وعلى رأس قائمتها البلاد الإسلامية التي تتخذ الجهات التي تقرضها موقفا من دينها الإسلامي الذي تعتبره مهددا لمصالحها ، ومعرقلا لهيمنة قيمها وتعميمها ، وعولمتها في مجموع المعمور .
وتوظف الدول المقرضة وكلاء عنها ينشطون في المجتمعات المسلمة ، وتعول عليهم كجماعات ضغط لفرض شروطها مقابل ما تمده من قروض . وتنضوي تلك الجماعات تحت جمعيات المجتمع المدني، وتتقنع بأقنعة تموه على حقيقة أهدافها من خلال رفع شعارات الدفاع عن حقوق وحريات الأفراد بما في ذلك حق وحرية الاعتقاد ، وحق وحرية الرأي ، وحق وحرية التعبير … إلى غير ذلك من الحقوق والحريات المتناسلة عندها باستمرار.
ومن تلك الجماعات الضاغطة برزت عنها فكرة تعديل مدونة الأسرة تحت ذريعة الدفاع عن حقوق المرأة كزوجة ، لهذا ركزت مقترحاتهم في التعديل الحالي على تمكينها من امتيازات تميزها عن الرجل الزوج،والتي لا يقرها شرع الله تعالى دون التفكير في العواقب الوخيمة المترتبة عنها بما فيها آفة تفكيك الأسر ، وإشاعة الفساد الخلقي ، وتدميرالهوية الإسلامية .
وسنقف عند بعض تجاوزات تلك المقترحات ، وهي كالآتي :
1 ـ مقترح استثناء بيت الزوجية من الميراث الذي قضى الله تعالى في محكم التنزيل أنه يدخل تحت مسمى التركة التي تشمل القليل والكثير مما يورث مصداقا لقوله تعالى : (( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا )) ، فبموجب هذه الآية الكريمة يمتنع استثناء أي شيء مهما كان من التركة ، وذلك لوجود قرينة دالة على ذلك ،وهي التصريح بقلتها أو كثرتها . كما يمتنع التصرف فيها لكونها أنصبة مفروضة في شرع الله تعالى تولى قسمتها ، ولم يترك للخلق التصرف فيها. ويمتنع أيضا أن يستأثر بعض الورثة بأنصبة فوق أنصبتهم على حساب أنصبة ورثة معهم من ذوي الحقوق.
هذه أوجه التجاوز في مقترح إخراج بيت الزوجية من التركة . ولا شك أن أصحاب هذه المقترح قد ادعوا درء مفسدة لكنهم جلبوا أخرى أخطر منها . فأما المفسدة التي أرادوا درءها ادعاء ، فهي منع حرمان الزوجة من الاستقرار ببيت الزوجية بعد هلاك زوجها ، وأما المفسدة المترتبة عن هذا الدرء، فهي حرمان ذوي حقوق من حقوقهم في الميراث كما شرعه الله تعالى ، وهو اجتهاد تعترض عليه قاعدة » لا اجتهاد مع وجود نص » .
وهذا الاقتراح المعيب شرعا من شأنه أن يهدم تماسك الأسر، ويشتت شملها ، وينسف قوام الحياة الزوجية المؤسسة على المودة والرحمة من أساسهما إذ كيف يرضى الزوج أن يصير جزء من تركته إن لم يكن كل ما تركه ذلك البيت إلى زوجته دون والديه إن وجدا أو أبنائه من زوجة أخرى هلكت أو طلقها ؟ ومن ذا الذي يرضى أولا مخالفة شرع ربه في قسمة التركة ؟ وثانيا كيف يقبل صرف جهد وعمر ومال في الحصول على ذلك البيت أو ربما يكون حصل عليه من تركة ورثها ليصير ملكا لزوجته بعد هلاكه ، وهي التي لم تصرف فيه لا جهدا ولا عمرا ولا مالا ، وربما اقترنت بزوج آخر يسكنه معها فيه ولمّا يصرف فيه هو الآخر لا جهدا ، ولا عمرا ، ولا مالا ؟
ولما كان العيب واضحا في هذا الاقتراح لكل ذي لب ، وجب حتما إسقاطه ، فإن مُضِيَ في تطبيقه ، فإن الإثم واقع لا محالة على كل من ساهم في ذلك من بعيد أو من قريب وفق قاعدة : » من سنّ في الإسلام سنة سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا » ، وهو مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
2 ـ اقتراح تحميل الزوج تبعة ووزر ديون الزوجة بعد وقوع الطلاق، ووجه التجاوز في هذا المقترح مخالفته نصوص القرآن الكريم التي منها قوله تعالى : (( ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء وإن كان ذا قربى )) ، ولا يقولن ّ أحد إن الأوزار المقصودة في هذه الآية هي أوزار الآخرة ، ولا علاقة لها بالدنيا ، وهو قول مردود على قائله لأن أوزار الآخرة إنما تترتب عن أوزار الدنيا التي تكون عبارة عن مظالم أو تكون تعديا لحدود الله عز وجل وأي وزر أثقل من هذا ؟
ومما يترتب عن هذا الاقتراح المعيب أنه ربما تسبب في أضرار أقلها أن يعول الزوج بسبب فرض أداء ديون زوجته عليه ، وأخطرها أن يحرم بسبب ذلك من حريته فيلقى به خلف القضبان في حال عجزه عن الأداء ، و وبهذا يدفع الثمن باهظا ، وأي ثمن أغلى من حريته .
ولهذا وجب سحب هذا الاقتراح المعيب والجائر الذي يتحمل مسؤوليته الجهة التي اقتراحه .
3 ـ اقتراح تقييد التعدد أو التعديد بشرطي عقم الزوجة أو إصابتها بداء عضال ، وهذا الاقتراح معيب أيضا، لأنه تجاوز ما ضمنه الله تعالى من شروط في تشريع التعديد ، وذلك في قوله سبحانه : (( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا )) ، ففي هذه الآية الثالثة من سورة النساء إخبار بإقرار التعديد الذي كان شائعا عند العرب في جاهليتهم حيث كانوا يبنون بأكثر من عشر نسوة، فحدد الله تعالى للمسلمين تعديدا أقصاه أربع زيجات شريطة التزام العدل بينهن في إنفاقا ، وكسوة ، وحسن صحبة ومعاشرة ، وكل ما في وسع الأزواج وطوقهم ، ولا يستثنى من ذلك سوى ميول القلوب التي زمامها بيد الله تعالى. وتضمنت الآية الكريمة أيضا أمرا بالقسط في اليتيمات اللائي يكن في حجور أوليائهن ، فيرغب هؤلاء في الاقتران بهن دون إعطائهن مهورهن ، لذا رغَّبهم الله تعالى في نكاح غيرهن من النساء تعديدا مثنى، وثلاث ،ورباع مع تنبيههم إلى الاحتراز من الوقوع في الجور الذي يلزم المعدد الاكتفاء بالعدد الذي يظن معه اتقاء الجور ما دون أربع زيجات إلى واحدة ، علما أيضا بأن التعديد يترتب عنه كثرة النسل ،مما يستوجب إعالة مكلفة قد لا يطيقها المعددون ، فيصبحون بذلك ضحايا الفاقة .
هذا ولا يجب أن يفهم من الآية الكريمة أن تشريع التعديد في الإسلام رهين بموضوع الخوف من عدم الإقساط في اليتيمات فقط ، بل هو تشريع عام فيه مصالح كثيرة منها تكثير أعداد الأمة بزيادة مواليدها ، وكفالة النساء خصوصا ون أعدادهن تفوق في الغالب أعداد الرجال لكون هؤلاء معرضين للنقصان لأسباب عدة منها الهلاك في الحروب . ومن المصالح أيضا منع التعديد من شيوع فاحشة الزنا الذي يوقع فيه قوة وإلحاح غريزة الجنس لدى الجنسين معا ، وهي تتهدد الأنساب . ومن المصالح درء آفة الطلاق إلا لضرورة قصوى … إلى غير ذلك مما علمه عند الله تعالى، وهو أعلم به من خلقه، وهو الحكيم الخبير .
وقد يحاجج البعض اعتراضا على التعديد بذريعة تعذر العدل بين الزيجات مع حرص الأزواج في الغالب على التعديد ، ويسوقون بين يدي ذريعتهم هذه عن سوء فهم منهم قوله تعالى : (( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ))، مع أن في هذه الآية الكريمة ما ينقض ذريعة إبطال التعديد ،لأن ذكر الميل فيها يدل على التعديد ذلك أنه لا يصح الميل مع وجود زوجة واحدة ، كما أن فيها أيضا ما يبرر تعذر حصول مطلق العدل، وذلك بسبب الميل الذي يكون مقره القلوب ، ولقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : » اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك » .
وإذا كان تشريع التعديد وارد فيه نصح قرآني صريح مقترن بشرط العدل ، والقصد في الميل العاطفي إلى زوجة دون أخرى ، فلا يحق لمخلوق مهما كان بعد الله عز وجل أن يشترط غير ما اشترطه سبحانه وتعالى كما جاء في اقتراح حصر شروط التعديد في هما العقم والأمراض المزمنة ، وبذلك ضيقوا واسعا كما يقال مع أنه قد تكون إلى جانب سببي العقم والأمراض المزمنة أسباب أخرى تدعو إلى التعديد ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر بعد المسافة بين اجتماع الزوجين تحت سقف بيت واحد لمدد قد تطول لظروف قاهرة كما هو الحال بالنسبة للمغتربين البعيدين عن أوطانهم طلبا للرزق أو بلوغ الزيجات سن اليأس الذي تنعدم خلاله رغبتهن في المعاشرة في حين تستمر رغبة الأزواج فيها ، وفي الحالتين معا يكون هؤلاء معرضين للوقوع فيما حرم الله إذا ما فتر لديهم الوازع الديني ، ولا عذر لهم حينئذ وقد شرع الله لهم التعديد بديلا عن الوقوع في الفاحشة ووقاية منها . .
ومن إيجابيات التعديد أيضا أن تتخلص النساء من شبح العنوسة والبوار خصوصا مع وجود أزواج قد يسر الله عليهم في أرزاقهم ، وخير لهم من مراكمة ثرواتهم إنفاقها على من تتهددهن العنوسة والضياع ، وهو ما يجعل كثيرات منهن سيئات الحظ يقضين أعمارهن دون فرسان الأحلام ، ودون رفاق العمر . وإذا كان أصحاب مقترح حصر التعديد في شرطي العقم ، والأمراض المزمنة يبدون تعاطفا مع النساء ، فأين تعاطفهم مع المهددات بالعنوسة ؟ ألسن نساء أيضا ، فلماذا ازدواجية المكيال ؟
وممن المؤكد أن التضييق على التعديد هو البوابة الواسعة المفتوحة على شيوع جريمة الزنا التي يريد بعض دعاة الفواحش إشاعتها في المجتمع من خلال التمويه على قبحها وشناعتها باستعمال مسميات بديلة عنها كالعلاقة الجنسية الرضائية ، وأشد قبحا وشناعة منها ما يسمونه علاقة جنسية مثلية تكون بين الذكورو بين الإناث فيما بينهم ، أو يشتركون فيها جميعا . والسؤال المطروح على الذين يدعون إلى هذا الفواحش المقيتة: هل هاتان العلاقتان تحقق للرضائيات أوالمثليات ما تحققه العلاقة الزوجية من طمأنينة ، ومن استقرار ،ومن راحة البال ، ومن عيش كريم ؟ ومن صيانة للكرامة التي تمتهن بارتكاب الفواحش ؟
وأي استخفاف أكبر وأشد من استخفاف المشجعين على الفواحش بعقول كثير من النساء حين يتشددون في شرطي التعديد ويحرضوهن على رفضه ، وفي المقابل يزينون لهن الرضائية والمثلية ، علما بأن كثيرا منهن ربما أدى رفضهن التعديد إلى ارتماء أزواجهن بين أحضان غيرهن من المومسات من بائعات الهوى أو المضطرات إلى الفواحش بسبب الفاقة التي تضطرهن إلى الارتزاق بأعراضهن .
وخلاصة القول أن من اقترحوا هذا النوع من الاقتراحات المرتجلة لتعديل مدونة الأسرة قد جاءوا ببوائق ، وعلى أهل الحل والعقد من العلماء الربانيين أن يتدخلوا بقوة علمهم لمنع تنزيلها في واقع الناس ، وذلك درءا لحدوث فساد في البلاد كبير لا قدر الله .
Aucun commentaire