الإمام أبو حامد الغزالي يصنف علماء زمانه إلى ورثة الأنبياء وإلى مترسمين ولعلماء زماننا هذا عبرة في تصنيفه
الإمام أبو حامد الغزالي يصنف علماء زمانه إلى ورثة الأنبياء وإلى مترسمين ولعلماء زماننا هذا عبرة في تصنيفه
محمد شركي
من المعلوم أن الإمام أبا حامد الغزالي رحمه الله تعالى ، وهو ممن انتدبهم الله تعالى لتجديد أمر دينه في زمانه قد ضمّن مقدمة كتابه » إحياء علوم الدين » تنصيفا لعلماء زمانه منهم من يحافظ على مهمته، وهي وراثة الأنبياء ، ومنهم من يحيد عنها، وقد سماهم المترسمين ، وقبل الخوض في الحديث عن هذا التصنيف نورد قوله الوارد في مقدمة كتابه ، وهو كالآتي :
« أدلة الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ، وقد شغر منهم الزمان ، ولم يبق إلا المترسمون ، وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان ، واستغواهم الطغيان ، فصار يرى المعروف منكرا ، والمنكر معروفا حتى ظل علم الدين مندرسا ، ومنار الهدى في الأقطار منطمسا ، وقد خيّلوا إلى الخلق ألا علم إلى فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخطاب عند تهاويش الطغام ، أو جدل يتدرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام ، أو سجع مزخرف يتوسل به الواعظ إلى استدراج العوام إذ لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة مصيدة للحرام وشبكة للحطام . فأما علم طريق الآخرة ، وما درج عليه السلف الصالح مما سمّاه الله سبحانه في كتابه فقها ، وحكمة ، وعلما ، وضياء ، ونورا وهداية ، ورشدا ، فقد أصبح بين الخلق مطويا ، وصار نسيا منسيا .
ولمّا كان هذا ثلما في الدين ملما وخطبا مدلهما ، رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهما ، إحياء لعلوم الدين ، وكشفا عن مناهج الأئمة المتقدمين ، وإيضاحا لمباهي العلوم النافعة عند النبيّين والسلف الصالحين » ص 10 من كتاب إحياء علوم الدين المجلد الأول ، طبعة دار القلم بيرون لبنان .
تعتبر هذه الفقرة من مقدمة الكتاب شهادة على ما كان عليه حال العلم في عصر الإمام أبي حامد الذي عاش في القرن الخامس الهجري . وأول ما يستوقف فيها هو ذكره العلماء الذين هم في الأصل ورثة العلماء ، وقد ورثوهم العلم لأنهم لا يورثون غيره من حطام الدنيا الزائل ، وهذه الوراثة تلزمهم بمهمتهم التي هي التبليغ عن الله عز وجل ما أراد تبليغه للناس بإخلاص وصدق نية من أجل هدايتهم إلى صراطه المستقيم ، مع حسن تبليغ، ومع مراعاة الله تعالى دون سواه ، والخوف والخشية منه وحده دون شركاء .
ومما سجلته شهادة الإمام الغزالي بخصوص الحال التي آل إليها بعض العلماء في زمانه وهو تقصير بعضهم في أمانة التبليغ عن الله تعالى كما كان حال من ورثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم حيث انحرفوا عن جادة وراثة النبوة حين صاروا مترسمين أي يشغلون مهام يرسمون أو يعينون فيها بأوامر أو مراسيم أصحاب السلطان .
وانبرى الغزالي بعد ذلك إلى سرد انحراف هؤلاء المترسمين من علماء زمانه، فوصف أكثرهم بأنهم ممن استحوذ عليهم الشيطان ، واستغواهم الطغيان ، وفي هذا إشارة إلى ارتمائهم في أحضان ذوي السلطان لشغف بعاجل الحظوظ أي يطلبون عرض الدنيا الزائل ، ويبيعون آخرتهم بدنياهم، فعيبون على الدعاة إلى المعروف دعوتهم ، وينكرون ذلك عليهم ، وفي المقابل يجعلون المنكر معروفا، الشيء الذي جعل راية الدين تندرس أو تنتكس، ومنار الهدى ينطمس ، وقد جعلوا أفهام الناس تنصرف إلى أن العلم ليس سوى إحدى ثلاثة :
ـ 1 ـ علم عبارة عن فتاوى حكومة به تستعين القضاة على الفصل بين المتخاصمين من أراذل الناس أو أوغادهم حين يتهاوشون، أي حين تقع بينهم الفتن .
ـ 2 ـ علم عبارة عن جدل يتخذه المجادل وسيلة للمباهاة، وطلب غلبة وإفحام الغير.
ـ 3 ـ علم عبارة عن سجع مزخرف يتوسل به إلى استدراج العوام .
أما ما عدا هذه الثلاثة، فلا ينبه بعض هؤلاء المترسمين إلى ما سماه الغزالي مصائد الحرام ، وشبكات الحطام ، وهو يعني حطام الدنيا الزائل .
وبعد حديثه عن الانحراف الذي يحصل لهؤلاء بسبب مقايضتهم الآخرة بالدنيا ، يسرد بعض خصائص العلم الموروث عن النبوة ، ويسميه علم طريق الآخرة مما درج عليه السلف الصالح، والذي سماه الله تعالى في محكم التنزيل فقها ، وحكمة، وعلما، وضياء ، ونورا ، وهداية ، ورشدا ، وفي هذا إشارة إلى الآيات الكريمة المتضمنة لهذه الأوصاف . ويرى الغزالي أن هذا العلم قد صار في زمانه عند الناس مطويا، ونسيا منسيا ، وهو ما اعتبره ثلما ملما بالدين أي شرخا ، وخطبا مدلهما أي مصيبة عظمى، الشيء الذي دعاه إلى تأليف مؤلفه » إحياء علوم الدين » الذي يقال عنه : من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء .
ولا شك أنه لا يخلو عصر من العصور من علماء يكونون حقيقة ورثة الأنبياء يسيرون على نهج النبوة لا يحيدون عنه قيد أنملة ، بينما يحيد عنه بعض المحسوبين على العلم ممن سماهم الغزالي رحمه الله مترسّمين ، ولهذا يجدر بكل من ينتمي إلى حظيرة العلم أن يستفيد مما جاء في مقدمة كتاب الإحياء ، وهو نصح ضمني من مؤلفه ،وإن جاء في سياق حديثه عن وضع وحال العلم في زمانه .
وعلى كل مترسّم من المحسوبين على العلم أن يحذر الوقوع فيما حذر منه الإمام الغزالي ، وإن كان قد وقع في ذلك، فعليه بالتوبة والإنابة عاجلا قبل أن يلقى حتفه وهو على تلك الحاله من الانحراف عن نهج وراثة النبي صلى الله عليه وسلم مضيعا بذلك آخرته بإقباله على حطام الدنيا الزائل .
ولا شك أن اللبيب سينتصح بما جاء في كلام الإمام الغزالي ، أما المعاند وراكبه غروره ،فسيصر على عناده ، ولن يقبل من أهدى إليه عيبه بل سيغضب منه ويثور ، ويزداد عنادا ، وما الهداية إلا من عند الله عز وجل .
Aucun commentaire