الحراز وعويشة قصيدة من ريبيرطوار فن الملحون المغربي
الحراز لغويا مشتقة من حرز , حرز الشيء اي بالغ في حفظه وصيانته,
قصيدة الحراز , قصيدة زجلية بأسلوب سردي , تؤرخ لفترة كانت « الحلقة » مسرحا لرواة الحكايات والقصص الملحمية وفتوحات شخصياتها ترتبط في المخيال الشعبي بالبطولات الخارقة التي تتجاوز الطاقة البشرية كعنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن وأبو زيد الهلالي ..الخ , وهي سير تجمع بين الحقيقة والخيال , تضاف اليها شخصيات مستمدة من ملاحم الشعر العربي و الاساطير على غرار الأوديسا والإلياذة وغيرها , وكانت حلقات الحكواتيين مكانا للفرجة ومسرحا في الهواء الطلق في وقت لم تكن فيه قاعات ولا مسارح مقارنة بعصرنا الرقمي الراهن , فقد نابت عنها ساحات عمومية اشتهرت كفضاء للتراث الشفوي كجامع لفنا بمراكش , بوجلود بفاس و ساحة سيدي عبد الوهاب بوجدة وغيرها وقد نال بعض رواد الحلقة شهرة سرت بذكرها الركبان , وكانت شعبيتهم منتشرة بانتشار المتفرجين المشدوهين لحكاياتهم المشوقة المتسلسلة بشغف قل نظيره ,وترقب لمعرفة مصير ابطال الروايات في نهاية القصة متطلعين لحل للعقدة ينفس عن مكنوناتهم ويساير هواهم , وكانت للحكواتيين مهارة تكمن في عنصر التشويق وترابط الاحداث في حبكة قصصية منتقاة بعناية فائقة حتى يخال المتلقي انه يشاهد فلما او مسلسلا دراميا يعيش فصوله بنوستالجيا رسخت في ذاكرته من خلال حكايات الجدات عن الاغوال والأهوال وحمو لحرامي و حديدان وغيرها من مرويات تتوارث عبر العصور والأجيال , عاشها السلف وحرم منها الخلف لتغير ظروف الزمان والمكان .
كان للغراميات مكانها في الروايات المستلهمة من الشعر والزجل والنثر المغنى اي الملحون الذي لا ارتباط له بالزجل الاندلسي , بل هو صنعة مغربية محلية كما قال ابن خلدون في المقدمة » اهل الامصار بالمغرب استحدثت فنا اخر من الشعر في أعاريض مزدوجة كالموشح , وسمو عروض البلد » .
وفي هذا الاطار جاءت قصيدة « عويشة والحراز » لصاحبها المكي القرشي المزداد بأزمور قرب الجديدة بالمغرب نهاية القرن 19, وينسبها البعض للشاعر مولاي علي البغدادي , وعلى العموم هي قصيدة مغربية تغنى بها احد رواد الملحون الحسين التلالي , وكذلك لطيفة امال و محمد العبدلاوي و فرقة ناس الغيوان فيما بعد , وغيرهم من الفنانين المغاربة والجزائريين خاصة الراحل الهاشمي الكروابي وعمر الزاهي وآخرين .
كما شخصتها على خشبة المسرح فرقة الراحل الطيب الصديقي رائد المسرح المغربي , والفرقة المراكشية براسية الفنان عبد الجبار لوزير اطال الله عمره . واقتبستها فيما بعد فرق مسرحية جزائرية مع تصرف في النص واختلاف في السيناريو.
وملخص قصة عويشة والحراز تدور حول قصة غرامية بطلها رجل قادم
من بلاد الشام استقر به المقام بأزمور وسط المغرب الاقصى ,وهو صاحب جاه وثراء اكتسبه من التجارة وإعمال سحرية جعلته ذو باع ونفوذ , وفي زيارة له لمقر اقامة الحاكم سمع بكاء فتاة بحرقة وأنين وبعد تحرياته تبين له ان الامر يتعلق ببت الحاكم غادة حسناء تعاني من لوعة فراق و حرقة البعاد عن الحبيب الذي سافر لديار نائية , ومن هناك راودته افكارا شيطانية غذتها فطنته وذكائه وقدراته غايتها الوصول للفتاة المسماة عويشة و اختطافها وإخفائها عن الانظار بنية امتلاكها والتمتع بمفاتنها , كيف لا وهي غادة نجلاء وهب لها الله حسنا وجمالا قلما وهب لغيرها , وأمام استحالة دخول البيوت من ابوابها,
رسم خطته بإتقان من أجل اخطاف الفتاة وجعلها تقيم ببيته مع منع اختلاطها مع الناس من المحيط و الجوار كاحتراز من امكانية رجوعها لحبيبها وهو الشاعر في القصيدة ..
وبعد عودة الشاعر وسؤاله عن حبيبته علم بقصة الحراز ومكائده , ففكر في طريقة يسترجع بها عويشته ليحظى بوصالها , فتفتقت عبقريته على عدة حيل تمكنه من ولوج البيت مكان سجن الحبيبة , وكلما فشلت احداها فكر في اخرى احسن منها حتى يتمكن من اظفر بمبتغاه , ولم يكن ذلك سهل المنال , فالطريق شاق وطويل تتخلله عثرات وكبوات وما كل مرة تسلم الجرة .
تبدأ القصيدة بما يلي..
مال الحراز الدامي ما يتيق بي هيهات
غير حاضي الاوقات
في ثيابو مسلم وافعايلو رومية
ويستمر الشاعر في وصف مساوئ الحراز ونواياه العدوانية , مصرا على الذهاب الى نهاية المطاف متحملا الشرور والمكروهات من اجل محبوبته , فالهجر يعود بالسقام ,و مادمت الغاية تبرر الوسيلة فلنروي الحكاية من البداية .
قصد الشاعر بيت الحراز في صفة قاض لعله يشعر بهيبته ويفتح له الباب لتحقيق المراد لكن الحيلة لم تجدي نفعا, فليغير الخطة فجاءه في صفة مجذوب من سيدي رحال لعله يلين بفعل ما هو ديني من باب ما عرف عن هذا الولي من الكرامات والبركات والخوارق تتحدى العقلاني الى اللاعقلاني بمفعول سحري يجعل الاممكن ممكنا .مرة اخرى لم تنطل الحيلة على الحراز .
تستمر عويشة في الاسر وتزداد احزان الشاعر ,فلا يستسلم فيفكر في حيلة اخرى حيث سيرتدي هذه المرة جلباب السلطة في صفة باشا وما يحيط بهذه الشخصية من برتوكول ورهبة في النفوس ..
جيت لو في صفة باشا
من قنوت العظمات
بالعلوم ورايات
و الطبول تتنجر والخيل والرجلية
ويستمر السرد الى ان يأتي طلب المبيت ( ضيف الله) , انذاك يشعر الحراز بان شيئا ما يحاك بليل فلم يرد لقاء ضيف لا حاجة له به , حريصا على صون اسيرته مسرعا الخطى لتدارك ما يمكن ان يكون قد فات , فما كان من الباشا المزيف إلا ان يأمر مرافقيه بان يقيدوا الحراز بالسلاسل والأغلال ويحضروه امامه حيث سيخرج سيفا لإدمائه , إلا انه نطق بموجب الشرع قائلا
قال انا بالله والنبي
تعمل لي حق يا الباشا
ما انا الا نايبة
والسلطان الله ينصرو
ويدوم علينا سلامتو
ويعز الباشاوات والخلايف
وقياد الحكام
شياخ قبايلنا
رعاية الملك العز الهمام
ويتوالى المديح رغم التهديدات , وفي الاخير يطلب من الباشا اخذ كل امواله وخزائنه والغلة بأكملها اما دخول داره فمحرم ولو ادى ذلك الى قتله خاتما بقوله ..
ياك للدين وضيف الله الجوامع تبنات
فالمدن وقريات
هكدا سيرتنا احنا اهل البادية
ضيفنا ما يدخل للدار ما تقيسو عترات
فين ولاه يبات
الى ان يقول..
كان ردتي الحقيقة كون تصغى لي
عساك أ الباشا قوم شلا عدات
كلمة المير كفات
لاش تطمع فالدار اللي محصنة محضية
فهم الشاعر الراوي بان الحيلة لم تنفع فغادر الى حين ان يفكر في حيلة اخرى قد تكون اكثر جدوى بعد ان فشلت خطة الاستقواء بالسلطة والمخزن وبما هوديني , ولم يطل به الحال فقرر ان يأتيه في صفة غلام خادم
جيت لو في صفة الغلام
نخدمو طاعة دون كلام
قلت أسيدي انا وصيف
المحرر حررني اللي شراني
ودعني فسبيل ربي
قصدتك لإكرام قلبي
ونويت الخير فيك
جابتني الايام ليك
وبقية القصيدة تدور على شكل حوار بين الشاعر والحراز , فالأول يعرض خدماته في السخرة بإخلاص وتفان , مقابل الملبس والحذاء وبدون أجرة يكفيه الاكرام والعرفان , فسيكون الخادم الوفي خفيف الظل والحركة ينفذ اوامر سيده بطاعة عمياء , فيجيبه الثاني بعدم الاقتراب منه وانه لن يتحمل عشرته ولا مخالطته فهو لم يملك في حياته خادما اسود اللون , فلن يقبله ولا يترجى منه خيرا , اصيب الشاعر بخيبة امل فرجع مرة اخرى بخفي حنين .
الحيلة الاخيرة كانت القدوم الى الحراز في هيئة شاعر شامي يتغنى بالمواويل ويردد الأشعار سمعت عويشة صوته فعرفته في الحين فناورت حتى يفسح له سجانها المجال ليدخل الدار فينشد بحضورها ما جادت به قريحته من ابيات شعرية تدخل للقلب البهجة والسرور , وبعد دلال وتغنج ارتخت اسارير الحراز فقبل بدخول الشاعر ورفاقه , حيث سينفذون خطتهم باعتقاله وتحرير عويشة لتعود لحضن عشيقها معانقة الحرية كالطائر الحر خارج القفص,و لتعيش قصتها مع من سكن قلبها , اما الحراز فقد هجر للشام بفعل عوامل تمتزج بطلاسم من نسج الخيال من اجل الوصول لنهاية سعيدة لا نراها إلا في الافلام الرومانسية التي تحلق في سماء الخيال و الاحلام .
هذه هي القصيدة التي تغنت بها الاجيال ورددها الرواة وشخصت على خشبة المسرح , فيها وصف للمجتمع المغربي قبل فترة الاستعمار ترمز لمثلث الدين والجنس والسياسة كعملة سائدة في ذلك الوقت ولها امتدادات في الزمان والمكان , بأسلوب سلس يمتح من معين عذب فياض لغة وشعرا مغنى صدحت به حناجر رواد الملحون ضامنة له سرمدية وخلود.
المراجع ..
محمد الفاسي .. معلمة الملحون
عباس الجراري .. القصيدة
احمد سهوم .. الملحون المغربي 1993
مقدمة ابن خلدون
Aucun commentaire